الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عركة بَلَشْتِيَّة .. قصة قصيرة

مديح الصادق

2012 / 9 / 17
الادب والفن



شمَّر صالح ثيابه، ركن جانبا قبقابه الخشبي العالي المصنوع باليد، افترش كومة من القش النظيف تحت مقعده وقدميه، استقبل ماء النهر الجاري كي يُتِم ما يسبق صلاة آخر العصر، قبل أن يبسط سلطانه على الكون عالمُ الظلام، فالوضوء أولا، ثم يقرأ ما يحفظ من أدعية لعلَّه عليه يُديم، وعلى العباد الصالحين مَنْ يُقيم لأجله الصلاة؛ نعمته التي بها أغرقه، ومَنَّ بها عليه، وعليه أن يكثر من دعائه وما يقرأ أثناء التعبد؛ كيلا تزول تلك النعمة عنه ، أو يداهمها أي مكروه، نعمة يحمده عليها ليل نهار، ويستشيط غيضا إن أبدت الزوجة، أو الأولاد أي امتعاض؛ خصوصا إذا اغتاظت الريح، واهتز كوخ القصب المطلي بالطين، أو زارتهم قطرات غيث في الشتاء؛ أما لو نفذ زيت الإضاءة فتلك كارثة كبرى؛ خصوصا في موسم الامتحانات، وفي حال قدوم ضيف؛ عليهم أن يُحشروا جميعا في فراش واحد متخالفين حتى يوفروا للقادم ما به يليق من إكرام، وأن يكتفوا بما يقدم لهم من طعام، أو ينتظروا ما يُبقيه على المائدة الضيفُ، فالضيف أولا لأنه صاحب الدار.


من يكبر على ثيابه من الأولاد والبنات يتركها لمَن يليه، بعد أن تعيد الأم ترتيبها حسب القياسات والأحجام، أو ترتق بعض الفتوق، وما تحتاج من ترقيعات، وصالح لا ينقطع عن صلاته أبدا، وعن مواقيتها لا يحيد، لسانه يلهج بالدعاء والتشكر حتى يخلد للنوم بانتظار صباح جديد، وما يرُرزَق به، وسلسلة جديدة من الصلوات
أنهى تسابيحه، استعان بكفيه على الأرض؛ كي ينهض مستقبلا قبلته استعدادا لما توضَّأ من أجله، زغاريد النساء من نوع متميز تعالت في الحي؛ وزغاريدهن ليس شرطا أن تكون تعبيرا عن فرح في كل الأحوال؛ بل هي أحيانا إنذار في حال نشوب حريق، أو حين يداهم اللصوص بيتا من البيوت، وساعة يحتدم الشجار بين طرفين إلى حد إشهار السلاح، والسلاح الذي يُشهر إما أن يكون خنجرا، أو فالة، أو ( مكوارا ) والبنادق لا تُخرج من أقمطتها إلا في حال الثأر عن دم، أو غسلا للعار، أو دفاعا عن بيت ومال.

ترك صالح قبقابه الخشبي عند ضفة النهر، واستغفر ربه أن ترك الصلاة في ميقاتها؛ وترْكُ الصلاة من أجل درء كارثة ذنب قد يغفره المعبود، مجَّدَ ربه وبه استعان، أطلق ساقيه للريح رغم كبر سنه باتجاه مصدر الاستغاثة؛ ياللهول! أخوَان اثنان هما جاران له مُلاصقان، يتشاطران دارا ببستان عن أبيهما ورثاه، قيل إنه كان من الميسورين، والدليل أن بيته ما كان من قصب كباقي الحي؛ بل من طين، ومن جملة ما أورثهما نعمة من ماشية عليها يُحسدان.

نزع كل منهما كوفيته من على رأسه ولفها حول خصره، وبها شكَّل ذيل ثوبه، ألفاظ بذيئة، وشتائم يندى لها الجبين؛ تبادلاها على مسامع الحاضرين المترقبين، عبارات تهديد بالقتل، كل منهما يتهم الآخر بالتجاوز على ما هو حق للطرفين، أو إهمال أرض كانت تجود بالخيرات حتى غزتها السباخ، كلٌّ يحمل هراوة طويلة يغطي رأسها قرص حديدي ويستفز الآخر؛ كي يقفزساقية تفصلهما لا يتجاوز عرضها المتر، ناعتا إياه بالجُبن.

توافدت أفواج جديدة من النساء والشيوخ والأطفال، لم يتقدم صوبهما أي من الرجال، تعالت الأصوات كأن مُنقِذا قد حلَّ هابطا من السماء، صالح، صالح؛ ها قد جاء صالح، أفسِحوا له، يا قوم، لقد اعتادوا على أن صالحا - إنْ كان حاضرا - لا يبيت على خصام طرفان، الصلح بالتراضي، وقد تقام الموائد بالتناوب فتستمر شهرا أو أكثر توثيقا للعهود، وغسلا للأحقاد، وقد تُعقد صفقات لزواج العازبين، أو من يسعفه الشرع في تعدد الزوجات، والزواج ستر في كل الأحوال؛ وعندما يرنُّ الهاون بأعلى الصوت فإن ذلك دعوة منه أن يجتمع عنده القوم لشرب القهوة التي استدان ثمنها من صديق؛ لعلَّه يفلح في جمع الناس على خير، أو يُدفع عنهم شرٌّ قريب.

لايملك من سلاح سوى التسابيح والدعاء، وعصا طويلة من غصن زيتون، يكتفي برفعها بوجه من يرغب بردعه حتى ينهار نادما على فعل به قام أو همَّ به؛ والجمع يرقبه، وماذا ستفعل هذه المرة عصا الزيتون، ولحية طويلة بيضاء بلون ضفيرتين معقودتين خلف الرأس، رداءأبيض وغترة بيضاء؛ بهذين الأخَوَين الناكرَين لأقوى رابطة في الكون، رابطة الدم.

وحِّدا الله، وحِّدا الله، والعنا الشيطان، ألستُما أخوَيْن؟ استغفر ربك واغرب إلى دارك؛ خاطب الأول، ثم الثاني مكررا نفس القول، لم يحركا ساكنا؛ بل وقفا متحجرَين وكل منهما يشدد قبضته على ما يحمل من سلاح، صُعِقَ القوم والدهشة قد عقدت ألسنتهم؛ إذ هالهم نداء أطلقه صالح لم يلق استجابة لدى الشريرَين، خاطب السماء بهمهمات غير مفهومة وكرر النداء، من بعضهما أكثر اقتربا، الرحمة غادرت سحنتيهما حتى كادت من الأوداج تنفجر الدماء.

ألا لعنة السماء عليكما، أيها الكافران، كانت هي الصيحة الثالثة التي أعقبها قرع العصي بالعصي، وزغاريد النسوة من ذلك الصنف الخاص، صراخ أطفال ما كانوا عطاشى لمشهد الدماء؛ دسوا رؤوسهم في أحضان أمهاتهم لائذين، لابد أن واحدا منهما سيُقتَل على الأقل؛ أو كلاهما، هابيل وقابيل يقتتلان، وسالت الدماء، رجل مسكين حافي القدمين مُضرَّج بلون الغروب، غترته وثوبه الأبيضان بجلده ملتصقان، يئن تحت أقدام وحشَين كاسرَين؛ لم يرفّ لهما جفن، ولم يُخدَش لهما جبين، أو تُكسَر لهما ساق، صالح وحده تلقى الضربات؛ لكن في الجولة القادمة لن يجدا صالحا، أو مثل صالح كي يُفرِغا فيه ما يخزنان من شرور؛ ووقتذاك فإن العالم سوف يحتفل منتصرا بالخلاص منهما،فالشر يقتل الشر لا محال، وصالح صارع الموت مُبتسما، قبضته لم تفارق عصا الزيتون.
أيلول - 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - متى ينتصر الخير
الدكتور جبار ياسر الحيدر ( 2012 / 9 / 18 - 06:49 )
احسنت والله يا ابا سولاف .. فهذه جوهرة جديدة .. والى متى ننتظر قدوم الخير والاشرار يتكائرون من حولنا بافعالهم المشينة ؟

اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي