الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملايين وبلايين

ليث البرزنجي

2005 / 2 / 27
الطب , والعلوم


إن قدرة الكثير من الناس شديدي التديّن، بل حتى معظم الدينيين الأكثر اعتدالاً، على أن يعيشوا حياتهم وهم في قناعة تامة بالصورة أو المفهوم الذي يقول به الدين للكون وأصوله ونشأته وتكوينه، يمكن أن يُعزى جزء كبير منه إلى افتقارهم إلى قابلية حقيقية من الناحية الحسابية أو الرياضية (من الرياضيات). أنا لا أتحدّث هنا بالطبع عن المهارات الحسابية الأساسية كالجمع والطرح والقسمة وحتى حلّ المسائل الجبرية. ما أتحدّث عنه هو افتقار هؤلاء للوسائل الذهنية الضرورية لفهم واستيعاب الأرقام والمقادير التي يتم استخدامها لوصف وتصوير الكون. نتيجة لذلك، لا يمكنهم أن يتخيلوا بشكل صحيح كم هو هائل الحجم، وما ينطوي على ذلك من تضارب مباشر مع القصص والأساطير وغيرها التي تقدّمها الأديان بآلهتها ومعجزاتها وما إلى ذلك كتفسير للكون.

هذا الموضوع ليس فيه تجنّ على أحد، كما يبدو الأمر للوهلة الأولى. فضعف القدرات الذهنية الحسابية عند بعض الناس ظاهرة حقيقة يتم دراستها منذ زمن. الشئ المثير للإنتباه في هذه الظاهرة هو أنها غير مرتبطة ولا تتأثر بشكل مباشر بالتحصيل العلمي أو الثقافة العلمية للفرد. لكن تفشّي هذه الظاهرة بشكل كبير حتى في أوساط المثقفين والمتعلمين يمكن اعتباره مثال حي وواقعي لما تناوله وكتب عنه عالم الرياضيات الأمريكي المشهور البروفيسور جون آلن باولوس في كتابه الرائع "الأميّة الحسابية".

لغويّاً، يمكن تعريف "الأميّة الحسابية" على أنها المرادف الحسابي أو الرياضي للأميّة بمعناها الدارج. ورغم أن الكثير من الناس يأخذون ضعف قدرتهم الحسابية مأخذ النكتة التي يتندّر بها، فأن لهذه المشكلة تأثير حقيقي وسلبي على قدرة الفرد على إستيعاب الكون بشكل علمي وعقلاني. فالأمر ليس له علاقة بالقدرة على حلّ مسائل القسمة الطويلة بقدر ما له علاقة بالقدرة على فهم واستيعاب المقاييس والنسب والعلاقات العددية والمنطقية. النتيجة العملية لذلك على أرض الواقع هي أن هؤلاء يكونون أكثر عرضة لتصديق القصص والمزاعم والإدّعاءات الدينية بما يخص الكون ونشأته وتاريخه، لعدم قدرتهم على تدقيق صحة هذه المزاعم بعقد مقارنة بينها وبين نظيراتها العلمية من الإكتشافات والقوانين والنظريات المستندة على قياسات وأدلـّة واقعيّة وملموسة.

عند دراسة القصص التي تتناول أصل ونشأة وتكوين الكون في معظم المعتقدات والأديان، نجد أنها تشترك جميعها تقريباً بطرح فكرة أو مفهوم لكون صغير نسبياّ، متمركز حول الأرض حيث يعيش بني البشر، يمتدّ من مكان ما تحت الأرض شديد الحرارة (جهنّم) وحتى أعالي السماء فوق الغيوم ولكن تحت قبّة النجوم (السماوات). وقبل أن يعترض أحدكم على هذا الوصف المبسّط، سأقول أولاً أنه وصف عام يتناول الأجزاء والمكونات الرئيسية والأساسية للكون بحسب ما ورد في الأديان، وثانياً أنني لن آخذ بنظر الإعتبار ما يحاول "علماء الدين" القيام به في عصرنا الحالي من إعادة تأويل لمحتوى الكتب الدينية المقدّسة (أو ما يسمى بالإعجاز العلمي)، لأنه من الواضح لكل عاقل أن هذا التأويل ما هو إلا تدبير طارئ واضطراري للحفاظ على مصداقية هذه الكتب بعد التضارب الكبير بينها وبين الواقع الفعلي كما قدمه ويقدمه لنا العلم. لذا فأن الوصف أعلاه، بقدر ما يبدو بسيطاً وساذجاً، هو في نهاية الأمر خلاصة كل ما استطاعت الأديان والمعتقدات أن تقدّمه لوصف الكون.

في اعتقادي، لدحض كلّ المزاعم والقصص الدينية المتعلقة بالكون - حتى وإن أضفنا إليها آلاف "التعديلات" والتأويلات التي تشكل رصيد ما يصطلح على تسميته بـ "الإعجاز العلمي"، لن نحتاج إلى أكثر من محاضرة هادئة وقصيرة عن حجم الكون، وآلة حاسبة، والقليل من الخيال، بالإضافة إلى عقلية متفتـّحة مستعدة لتقبل نظرة جديدة لواقع الكون والوجود أساسها الأرقام لا غير.


** ملايين أم بلايين؟ **

لنبدأ أولاً بدرس بسيط في المقادير والأرقام. (البليون) هو أصغر وحدة قياس على المسطرة الكونية. قارن ذلك مع حقيقة أن البليون بالنسبة لنا معشر البشر يعتبر رقماً هائلاً! لتوضيح ذلك أكثر، سنأخذ وحدة قياس يسهل فهمها، كالثواني مثلاً، ونرى ماذا يعطينا مليون منها:

1,000,000 (مليون) ثانية = 11 يوماً، 13 ساعة، 46 دقيقة، و 40 ثانية. للسهولة سنقول 11.5 يوماً.

البليون = ألف مليون = 1,000,000,000

1,000,000,000 (بليون) ثانية = 11,500 (ألف وخمسمائة) يوماً ... أي تقريباً 31.5 سنة (إحدى وثلاثون سنة ونصف)!! ... نحن الآن في بداية العام 2005، وهذا يعني أنه قبل بليون ثانية من الآن كنا في العام 1974.

مذهل، أليس كذلك؟ّ! ... لنستمر...


** حجم الكون **

لنأخذ أقرب النجوم لنا، وهي الشمس. لنفترض أن الشمس هي كرة بحر بقطر 90 سنتمتراً (أي حوالي المتر). ولنفترض أننا نقف في سهل كبير منبسط ونبدأ قياساتنا من هنا. إذا كانت الشمس عبارة عن كرة بحر بقطر 90 سم واقفة على الأرض في نقطة ما في هذا السهل، فإن:

- كوكب الأرض سيكون عبارة عن حبة بزاليا صغيرة على بعد حوالي 82 متراً منها. (أو حوالي 150 مليون كيلومتراً بالقياسات الفعلية).

- كوكب المريخ سيكون عبارة عن خرزة حمراء على بعد 122 متراً. (228 مليون كم).

- كوكب المشتري سيكون عبارة عن كرة بيسبول على بعد 402 متراً. (779 مليون كم).

- كوكب زحل سيكون عبارة عن كرة تنس على بعد 804 متراً. (1,429 مليون كم ... أو 1.4 بليون كم).

- كوكب بلوتو، آخر كواكب مجموعتنا الشمسية وبحجم أصغر من قمر الأرض، سيكون عبارة عن رأس دبّوس على بعد 4,023 متراً، أو حوالي 4 كيلومترات، من كرة البحر (الشمس). (5.9 بليون كم بالقياسات الفعلية).

لتقريب فكرة المسافة الشاسعة هذه التي تفصل بلوتو عن الشمس (بل حتى عن الأرض) إلى الذهن، تخيل لو أن هناك شارعاً معبّداً ومستقيماً يصل بين الأرض وبلوتو مباشرة. الآن، إذا أردت قيادة سيارتك من الأرض إلى بلوتو بسرعة 100 كم في الساعة، فسيتطلب الأمر حوالي 6975 سنة!

بعد ذلك، تبدأ الأرقام بالإزدياد بشكل سريع... لكن قبل ذلك، لنعرّف ما المقصود بـ "السنة الضوئية".

السنة الضوئية هي، بكل بساطة، المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ خلال سنة. لذا فالسنة الضوئية ليست وحدة لقياس الزمن، بل وحدة لقياس المسافة. وبما أن سرعة الضوء = 3 متر/ثانية (تقربياً)، إذاً:

1 سنة ضوئية = تقريباً 9,460 بليون كيلومتراً (أو 9,460,000,000,000 كم)

أقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية هو نجم "الرجل الجبّار" (Alpha Centauri) والذي يبعد حوالي 4.3 سنة ضوئية. لذا فحسب إفتراضاتنا أعلاه، سيكون (Alpha Centauri) عبارة عن كرة بحر أصغر قليلاً من الكرة الأولى (الشمس) وتبعد عنها حوالي 19,955 كيلومتراً، وهي تقريباً نفس المسافة بين واشنطن في الولايات المتحدة وسيدني في أستراليا! والوقت المستغرق في القيادة للوصول إليها من الأرض بسرعة 100 كم/ساعة = 47.6 مليون سنة!

أقرب المجرّات الحلزونية إلينا هي مجرّة أندروميدا (Andromeda) الجميلة، على بعد 2 مليون سنة ضوئية فقط! وكما هو الحال مع مجرّتنا (درب التبّانة - Milky Way)، يبلغ قطر أندروميدا حوالي مئة ألف (100,000) سنة ضوئية، وتحتوي أكثر من (200 بليون) نجم. فلو فرضنا أن مجرّتنا عبارة عن حلقة أو إطار بقطر 1 متر، فستكون مجرة أندروميدا عبارة عن حلقة مشابهة على بعد حوالي 24 متراً.

مجرتنا (درب التبّانة) هي واحدة من حوالي 20 مجرة في مجموعتنا العنقودية، والتي هي بدورها واحدة من المجموعات العنقودية التابعة إلى المجموعة العنقودية العظمى التي تحوي آلاف المجرّات. إن أبعد المجرات التي تم اكتشافها لحد الآن يمكن تخيلها على أنها إطار ثالث يبعد عن الإطار الأول في التشبيه أعلاه مسافة حوالي 145 كيلومتراً.

من موقعنا هنا على الأرض، يمكننا رؤية أكثر من 100 بليون مجرة غير مجرتنا، وكل واحدة منها تحتوي على ما معدّله 100 بليون من النجوم وغيرها من الأجسام. هذا فقط الذي يمكننا رؤيته، وأنا لا أرى سبباً للإفتراض أنه لا يوجد المزيد من هذه المجرات لم يتم اكتشافه بعد.

إذاً كما ترى عزيزي القارئ، فأن الكون كما يراه العلم، هائل الحجم بشكل يفوق التصوّر! لذا فأنني أعتقد أن لدى الدينيين نوع من الجهل وفقدان القدرة على التخيّل المزروع بعمق في ذاتهم كالنحت في الحجر ومنذ الصغر، ليس فقط فيما يتعلق بحجم الكون، بل كذلك فيما يخص مدى أهميتنا كجنس بشر نسبة له. أنا شخصياً لا أشعر أنه يحط من قيمتي، رغم أنني لا أشارك الدينيين شعورهم الواهم والمنتفخ بأن للبشر غاية أو أهمية مركزية في هذا الكون (كما يعلـّمهم الدين)، بل العكس، أجده من أكثر الأمور الشيّقة والمثيرة والمغذية للعقل والإدراك التي يمكن أن تدرس وتكتشف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنامج جديد | الحرب العالمية الثانية: أسرار من الأعلى | ناشو


.. سقوط منطاد تجسس إسرائيلي يحول الصراع مع حزب الله إلى حرب تكن




.. أعمال شغب واشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصح


.. ثروات الجزائر الطبيعية وأطماع بكين




.. تفاعلكم الحلقة كاملة | الجدل الأكبر في عالم السرطان.. فحص ال