الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد خضيّر .. النبيل في سبعينِه!

باسم النبريص

2012 / 9 / 19
الادب والفن


شتاء عام 98, حالما وصلت العراق للمرة الأولى, كان أول من سألت عنهم, القاص محمد خضيّر. قيل لي غير موجود في بغداد الآن. وهو ربما يأتي لهذه الدورة من المربد, وربما لا.
تأسّفت. بل شعرت بنوع من الخسارة.

وحين جاء دوري للقراءة, أهديت ما قرأت له. و .. فوجئت بالقبول! كانت العادة المبتذلة التي لاحظتها من خلال حضوري عدة جلسات, أن المُهدى إليه دائماً هو "السيد الرئيس". ويبدو أنّ رسالتي المختلفة وصلت لمحبي خضيّر الكُثر, فأحسنوا استقبالها.

محمد خضيّر, صديق قراءة شخصي بالنسبة لي. علاقة نموذجية تربطني به كقارئ. وتشهد على ذلك عشرات الليالي الطوال في يافا وبات يام وخان يونس.
لم يكن من ذوي الحظوة في الإعلام العربي. وهذا سبب آخر من حزمة الأسباب التي جعلتني أتعلّق به.
كان في مخيلتي أقرب إلى ناسك ثقافي, في عزلته المثمرة المترفّعة.. هناك في غرفة فوق السطوح بالبصرة.
كنت, ولم أزل, أتذوق كتابته, كلمة كلمة, كمن يتذوق عنقود الكرم الناضج, حبّة حبّة. وأمامه الزمن كلّه.. وليست هذه ببلاغة, ولكنها حقيقتي.

تطقّست عن حاله ومآله, فصدمني زميلنا الكريم زعيم الطائي, ببعض الحقائق. منها أنهم اعتدوا عليه ذات مرة. وأنه الآن يتحاشاهم ما وسعته الحيلة والقدرة. مترهّباً في محراب القصة. وقانعاً من دنياه بنشوة الفن العليا. أما "الحاضر" فيكفيه منه وفيه .. الكرامة والكفاف.

بعد يوم أو يومين, حلّ بيننا دون علمي. فوجئت به في صالة الطابق الأرضي, بفندق المنصور ميليا.
كان مساء عظيماً ذلك المساء من تشرين الثاني.
القارئ الذي طال شوقه لقاصّهِ وناثرهِ العتيد, ها هو يلتقيه!

كان محمد يبدو في سيماء مدرس ثانوي من الخمسينات: الجاكت القديم, والبنطلون الصوف, والذقن غير المعتنى بها .. إضافة إلى التحفّظ العام الواسم سلوكه, والناتج _ لا شك - عن تجارب حياة غير سهلة.

أحسست به. ولاحظت توقيراً عاماً له من قبل كل المتعاملين معه, فأراحني هذا. كان يمشي في ردهات الفندق, كطيف. صامتاً, هادئ النبرة إن تكلّم. يبحث عن أصدقائه القليلين, ويسهر معهم, منفردين في غرفته أو غرفاتهم.

لم يكن رجل حضور اجتماعي. انتبهت لهذه الخصيصة, فخجلت أن أخترق خصوصيته.

لذا كان لقائي به, مع مجموعةٍ على الأغلب. لا على نحو انفرادي. وفي حديث عام أيضاً لا مخصوص.
اكتفيت بالإشارات الخفيّة, التي يبثّها حضوره الثري الخافت.
ولعلّي ارتحت جداً, لأنّ تصوّراتي القديمة عنه.. (تلك التصورات التي يا طالما نسجُتها في الليالي الموحشة, على ساحل فلسطين الغربي) لم تخب. بل طابقت واقعاً ها أنا ذا أراه أمامي متمثلاً في شخص محمد وإشعاعه الاستثنائي.

"النبيلُ في عزلتِهِ". أي والله. ما كان لهذه الكتب العظيمة أن تُكتب إلا من لدن "النبيل في عزلته".
وهاهو!
من "المملكة السوداء" (1972), مروراً ب "في درجة 45 مئوي" ( 1978 (و"بصرياثا، صورة مدينة" (1993), وصولاً إلى "رؤيا خريف" (1995).
باقة من أبدع ما أنتجت حديقة السرد العربي, في القرن العشرين. وكاتب راهب, لا يبدو عليه أنه "من زماننا" يعتكف على أحلامه وأشواقه, فنمنّي أنفسنا بجديد فنّه المتفّرد دوماً.

هذه الكتب, التي رافقتني من مدينة إلى مدينة, ومن ليل إلى ليل, ومن مصير إلى مصير.
كنت إذا استوحشت, ولاحقني اللسان العبري حتى في المنام, أهرع إليها. لا لتكون الونَس فقط, إنما النشوة السامقة, التي تتغلغل في أخفى الخبايا, فتزيل حينئذ كل أدران الليل والنهار.. أو ثِقَل هذا الوجود العابر المحصور بقوسين.

محمد في عزلته البصراوية: كاتب كوني, وإبداعه: عابر للزمن. وتكفي هاتان الصفتان الخطيرتان, لنعرف كم هو حظنا حسنٌ ومؤاتٍ أنه موجود بيننا. فهذا النوع من الكتّاب شديد الندرة, في كل الأزمان, وأربع جهات الأرض. وهو مقدّر ومبجّل جداً في الثقافات الأخرى.

بعد أن غادرت العراق, عدت في دورة ثانية, وقابلته, وطلب ذات مساء أن نخرج من جو الفندق ونتمشّى في الشارع وحيديْن, فاعتذرت لارتباطي بموعد مع شعراء عراقيين شباب.

الآن, حين أتذكر هذه الواقعة, أغصّ بالندم. فقد حرمت نفسي من رفقة كاتب عظيم, في لحظةٍ ظننت أن الزمن لن يبخل بتكرارها مرة ثانية. ولكنه بخل!

بعد اثني عشر عاماً يا محمد, ها أنذا أتذكّر ذلك المساء المبكر, وذلك اللقاء العرضي في ردهة الطابق السادس, وتلك الدعوة الكريمة, فأندم.

أندم الندم الذي بلاه مطلق البشر – في كل عصورهم - حين وثقوا بالزمن.

الآن, وأنا أكتب هذا, أنتبه إلى أنك بلغت السبعين. فأيّ كلمات يمكن أن أرفعها إليك, بهذه المناسبة العزيزة, أيها الفارس؟

كتبك الجديدة, لم تصلني بعد. وليس غير الصدفة الحسنة أن تكون بريدها, وأنا في هذا المعزل. لكنني أتابع ما يُكتب عنك وعنها في الشبكة, فأقنع, معدومَ الحيلة, ب"أضعف الإيمان".

"حدائق الوجوه", "السرد والكتاب", وقبلهما: "كراسة كانون" التي لم أقرأها أيضاً, وإن كنت بحثت عنها في غير مدينة نزلتها بلا طائل.

أيها المقلّ, مثل صنوك المصري إبراهيم أصلان. أنت وهو جناحاي في المتاهة. وعلامتان على الطريق الطويل (الذي يطول دائماً) للوصول للفن الجميل
الرفيع
الباقي.

سلاماً أيها الرجل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي