الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حياة ميت

حامد حمودي عباس

2012 / 9 / 25
الادب والفن


البيت كان يعج بالحركة .. فالجميع يستعد لإحياء مراسم الدفن .. أم حمزه تظهر في وسط المشهد ، ممددة على سرير حديدي حرصوا على أن يكون بمحاذاة الجدار ، في فضاء حديقة بدت عليها علامات التردي نتيجة عدم الاهتمام .. بنات أم حمزه السته ، كن حاضرات وقد تركن بيوتهن وأزواجهن حرصا منهن على حضور النهاية .. الاطفال هم فقط من وجد فسحة من اللهو فراحوا يثيرون ضجيجا في المكان ، وقد يتعرض أحدهم للطمة عابرة فيمسحها بذقنه دون أي ردة فعل .. شجرة التوت الضخمه تضلل سرير أم حمزه .. وثمة مجموعة من الدجاج يسرح في المكان وسط حراسة ديك ضخم ، عرف عنه بانه شرس ، لا يسمح لأي معتد قد يقترب من عرائسه ..
نعيمه .. الابنة الكبرى للعائلة ، مشغولة باعداد ألجمر في صحن من المعدن ، كي تحرق البخور لوالدتها المريضه .. البخور يطرد النحس ، ومن يقترب من لحظات الموت ينفعه البخور كي يستريح .. جنان هي الابنة الاصغر ، راحت تحوم في فضاء المنزل بأردافها المكتنزة ، حاملة أقداح الماء المبرد ، لتوزعه على من تصادفه أمامها دون ان تظهر عليها علامات التعب .. كل شيء هنا يوحي بأن ميتا سيحمل في أية لحظة الى مثواه الاخير ..
- اشتريت هذا اليوم قطعة من الارض في مقبرة المدينه ، كي أحفر فيها قبرا لوالدتي .
أسرها حمزه في أذني وهو يتمايل فخرا .. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وأنا أسمع إيذانا بالموت وبهذه الطريقة الفجه .. المرأة لازالت على قيد الحياة ، وقد كنت حينما أزورها في كل مره ، ترفع رأسها عن الوسادة مرحبة بي ، وتبدأ وبصوتها الضعيف تستذكر معي أحداث وعيناها معا .. لقد كانت تسند رأسها على ذراعها لتبدو أكثر قدرة على الاستمرار بالحياة .. ومع هذا كله ، قد تأتيها احدى بناتها على حين غره ، لتسألها وبكل وقاحه وغباء ، مشيرة لي :
- أمي .. هل تعرفين هذا ؟ ..
فأوبخها لتفهم بأن ما تقوله سيزيد العجوز شعورا باليأس ..
الجميع يستغربون من وضع أمهم حينما أكون أنا بجانبها .. ما لها ياترى لا ترقد بسلام كما هي دائما بانتظار ملك الموت ؟ .. انها دائما تبدو مكورة الجسم على سريرها ، تتحدث بالأيماء كما يريد لها الاخرون .. أليست هي ميتة لا محاله ؟ .. ألم يتم تحضير قبرها وقد أخبروها بذلك ليلة أمس ، فأشارت لهم بنقلها الى مكان القبر وهي حية ، لتراه وتتفحص لحدها بعناية ؟ .. كادوا ان يفعلوا ذلك لولا ثورتي عليهم واستنكاري فعلهم لو حدث ..
لقد كنت حينما أدخل بيت ام حمزه لزيارتها كونها قريبة لي ، أحاول تنبيهها بصوت عالي ، فاغني أي مقطع يخطر ببالي من أغنية قديمه .. أدور أمامها على ارض الحديقة المتهالكة ، أهز أكتافي وقدمي في دبكة لا تخضع لترانيم أي سلم موسيقي .. ألوح بذراعي في الهواء متحمسا لأيصال مشاعر الحياة للمرأة المسجاة أمامي .. فتتحرك ببطيء ، تفتح عينيها الذابلتين .. تبتسم .. ترفع رأسها لتسنده بذراعها النحيفه .. تدعوني للاقتراب منها .. أسحب يدها لاقبلها بحنان مبالغ فيه .. وأبدء باستذكار أحداث كانت لها فيها دور البطوله ..
- أتذكرين حينما ثار المرحوم أبا حمزه ، كي يرغمك على النوم بمعيته على سرير الخشب ، في حين كنت تتحججين بوجودي ضيفا عندكم ؟ .. كم كان يومها متحمسا لذلك اللقاء الحميم .
تسري مسحة من لون أحمر على وجنتيها ، لتختلط بشحوب وجهها الميال الى الخدر بفعل طول وقت النوم رغما عنها ..
قالت وكفها المغطى بعروق زرقاء تمتد بهدوء لتلامس كفي ، فأبالغ في ضمها لأشعرها بالأمل ..
- نعم أتذكر ..

- ما هذا ؟ .. ماذا تريدون أن تفعلوه ؟
صحت بأحد ابنائها وهو يحمل عبوة من الاوكسجين على كتفه ، ومعه احدى البنات تحمل خرطوما ليكمموا به العجوز ..
استرسلت هي بحديثها معي وكأنها تشعرني بعدم حاجتها لغير الاوكسجين الطبيعي .. وكان من المفيد جدا لي ولها ، أن يحمل من في المنزل إحتراما لكلمتي ، فاستطعت إزاحتهم عنها وبحزم .
كلفت زوجتي باعداد أي طعام سائل لكي تتغذى من خلاله المريضه .. فهم يعلنون بانها تعرض عن أي شيء يقدمونه لها ، وكانت فعلا لا تأكل لكونها بعرفهم ميته .. وهل الاموات يأكلون ؟؟ ..
كنت أتحرك بكل أجزائي وأنا أحاول إطعامها حساء من الرز واللبن وحسب طلبها .. هاهي تأكل أيها البجم .. ألا ترون كيف تتقبل الطعام أيها الرعاع ؟! .. ألم يخبركم طبيب من الذين تترددون عليهم كل اسبوع لعرضها عليه ، بأنها يجب ان تتغذى لتقاوم ؟ .. وكان الجواب واحد ، وهو ان الطبيب أوحى لهم بموتها المحقق ، وان عليهم اعادتها لسريرها والدعوة لها بالرحمه .

كنت وأنا ألاطف العجوز ، أشعر بخيبة المصير اذا لم يتاح لي الهروب من هذا العالم المسكون بملامح الموت .. هل ياترى سيجهزون لي قبرا قبل وفاتي ؟ .. هل سيلبون يومها رغبتي بالتمعن في شكل لحدي ؟ .. أللعنه .. إنه ضيق على ما يبدو .. وذلك التراب المعفر برطوبة المناخ ، هل سيستعملونه في ردم القبر وجسدي مسجى فيه ؟ .. لطالما تردد بأن أفاعي ضخمة ستهاجم الكفار من الأموات حال مغادرة المشيعين ، وبأن عيون البشر ستطالها ديدان ضخمة لتفتتها بين أسنانها الحاده ، هل للديدان أسنان ؟ .. قد تكون ديدان القبور من نوع خاص ، خلق لقضم عيون المذنبين .. ووجدتني أمسح عيوني بمنديل من ورق ، وكياني يصيح .. أليس من الظلم أن يجري قصاص على متهم قبل محاكمته ؟ .. كيف لعيوني المطلية بالزرقة المصحوبة بلون الحناء كما تصفها ابنتي دائما ، أن تذوب تحت رحى الفناء ، وبهذه الطريقة البشعه ؟ .. ما معنى أن يخرج الناس عراة حفاة يوم ينفخ في الصور ، اذا كانت الافاعي والديدان تسلط عليهم عذاب الله قبل موعد الحشر الأعظم ؟ ..
إنه خلل في دقة ميزان العدل الألاهي ، لو صدقت منابر الوعظ القائلة بعذاب البرزخ ..

شعرت العجوز ، وأنا بجانبها ، أنها راغبة بتناول قطعة من الحلوى .. فقالتها لي همسا .. وحين سمعتها إحدى بناتها وكانت قريبة مني .. صاحت مولولة وبصوت يزاحمه النحيب ..
- لقد أشتهت أمي حلوى على غير عادتها .. وهذا معناه أنها اقتربت من الموت .. هكذا يشتهي ألأحياء قبل موتهم بلحظات ..
هاج الجميع .. وغزى فضاء المنزل عويل تهتز له فرائص الأصحاء قبل المرضى .. فقمت من مكاني ، متحفزا للقتال .. إنها لحظة الحرب على من وضع سنن لتشييع الموتى بالبكاء واشاعة روح الخوف بين الناس .. لم أستطع بوثبتي أن أرد الصراخ الى حناجر الثكلى .. فانسحبت صوب العجوز لحمايتها من دعوات الموت .. فلم أفلح .. لأنها حققت آمال المحيطين بها في أن تغادر هذا العالم لا لشيء ، إلا لإقامة سرادق العزاء على عجل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع يا استاذ حامد
فاتن واصل ( 2012 / 9 / 26 - 14:38 )
بعض البشر يدهشونى فى عدم بشريتهم، ولا إنسانيتهم، جمودهم وفتور إحاسيسهم .. ومنهم من يسيل رقة وعذوبة كجدول رقراق... هذا التناقض الحاد وجدته متجسدا فى اللقطة الرائعة التى صورتها لنا بعدستك المرهفة وأوصلتها من خلال حروف ونغمات هذا اللحن الحزين (( حياة ميت ))، البشر لغز لا أظن أننا سندرك له حل ... شكرا استاذ حامد امتعتنا.


2 - الأستاذ حامد حمودي عباس المحترم
ليندا كبرييل ( 2012 / 9 / 26 - 15:32 )
الأفاعي الضخمة ستهاجم الكفار من الأموات ، والديدان أيضاً سيكون المؤمنون طعاماً شهياً لها
هناك قبيلة أندونيسية دهشت عندما رأيت أصابع أيدي معظم نسائها مبتورة حتى منتصفها، ولما سألت عن السبب قيل حزناً على وفاة الزوج، وبعضهن يقطعن جزءاً من أصابعهن والزوج ما يزال يحتضر عربون المحبة والشكر لرعايته للزوجة في حياته
عقل الإنسان ما زال صغيراً يا أستاذ مع كل التقدم العلمي الذي أحرزه
مع تحياتي وتقديري


3 - سيدتي فاتن .. سيدتي ليندا
حامد حمودي عباس ( 2012 / 9 / 27 - 06:57 )
كم أنا فخور بكما حين اجدكما معي في كل شوط تمليه علي حياتي اليوميه .. لقد رماني أحدهم بحجر قبل ايام ، حيث عبر عن استغرابه من ان يكون كاتب ما مقتصر في كتاباته على مخاطبة النساء .. وردي هو ان تبقيا معي لتكونا شرفا احمله على قمة رأسي ، فالمرأة هي هدفي دائما لانها عنوان الحياة .. مع خالص تحياتي


4 - تحية طيبة استاذ حامد
فؤاده العراقيه ( 2012 / 10 / 2 - 17:25 )

. ألم يتم تحضير قبرها وقد أخبروها بذلك ليلة أمس ، فأشارت لهم بنقلها الى مكان القبر وهي حية ، لتراه وتتفحص لحدها بعناية ؟ .
نحن شعوب ان تجاوزنا سن الأربعين بدأنا نحضر لقبرنا او بالأحرى لم نعش حتى ما قبلها , شعوب ميتة بكل ما تحمل الكلمة من معنى .


المغيبون فكريا لا ينالون من حياتهم ويخسرونها بسبب تلك المخاوف التي تسكنهم بعد الموت وماذا سيكون مصيرهم
طالما تسائلت عن هذا العدل الألهي اين يكمن في ما نعيشه اليوم ؟ هل في سيطرة الفاسدين ؟

اخر الافلام

.. فاكرين القصيدة دى من فيلم عسكر في المعسكر؟ سليمان عيد حكال


.. حديث السوشال | 1.6 مليون شخص.. مادونا تحيي أضخم حفل في مسيرت




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص