الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدريس: الصخب نهاراً, والاكتئاب ليلاً

باسم النبريص

2012 / 9 / 26
الادب والفن


هو الكاتب الذي يخدعك في انطباعك الأول عنه. بالأحرى: الكاتب الذي تظلمه لو ركنت إلى انطباعك الأول عنه.
أظنّ أنّ هذا هو تلخيص معقول ليوسف إدريس.

قابلته ورأيته مرات.
في 82 بمكتبه بالأهرام. بعدها بمسرح الطليعة بالعتبة, حين عُرضت مسرحيته: "المخططين".
الثالثة في المقر الرئيسي لحزب التجمع, وكانت لمرور أربعين يوم على وفاة أمل دنقل.
أما الرابعة وغيرها وغيرها ففي مقهى ريش.
وفي المرات كلّها, كان يوسف هو هو: تحسبه زعيماً لا أديباً. رئيس حزب ثوري لا أبا القصة المصرية الحديثة في أبدع وأبسط تجلياتها.

كانت تلك الفترة من أسوأ فترات عمره كمبدع, وربما كذلك كمواطن.
كان يعيش "أزمة نضوب", كما قيل. وكما صدّق هو ما يقال.
وكان يكابر, ويشاكس, ويفتح ألف مسرب للصخب, كي يغطّي على تلك الأزمة.

واليوم, إذ أعود لملابسات ذلك الزمن القاسي, وقد فهمت قليلاً ماذا تعني الحياة وماذا يعني أن تكون مبدعاً _ اليومَ, أقول: يا كم ظُلم يوسف إدريس. بل: يا كم ظلَم َهو نفسه!

ظُلِمَ: فقد كان بعض من حوله يتكلمون عن إفلاسه القصصي. وبعض البعض لا يخفي شماتته سواء كلاماً أو كتابة. وكأنّ المبدع, حسب وجهة نظرهم (يا ليتها مجرد وجهة نظر) ما هو إلا ماكينة تفريخ. ولا يحق له التوقف أو حتى الإفلاس. لقد نسوا أنّ ثمة كتاباً كباراً مقلّين. ومع هذا فهم كتّاب, وكبار أيضاً. فالمسألة ليست عَدّ ليمون, ولن تكون كمّاً بالمطلق.
وهناك عشرات الأمثلة, في أدبنا وأدب غيرنا.
أما يوسف, فكان قبل تلك الأزمة, قد كتب كل ما جعله يوسف إدريس. كتب كثيرة, تكفيه خمسة منها فقط ليتكرّس فاتحاً عظيماً للقصة القصيرة العربية.
أين الأزمة إذاً؟
لم تكن, وكل ما كان: عوار نظر فحسب.

وظَلَمَ نفسه: حين فتح ألف مسرب للصخب, وللتواجد في غير محلّه. مرة كمقدم ونجم تلفزيون, يستضيف مثقفين وسياسيين وفنانين. ومرة ككاتب مسرح. ومرة ككاتب مقالات أسبوعية كبيرة الحجم في الأهرام. ومرة كدون كيشوت, وأمور من هذا القبيل.
فلو كان اعتصم بالعزلة, والتجأ للصمت, كما يفعل كبار أدباء الغرب, لما كان حاله ساء على نحو ما حصل.

لكنْ من أين.. ويوسف حالة مصرية خالصة؟ من أين وهو مزيج من الصخب نهاراً, والاكتئاب ليلاً؟ نتيج الشمس الساطعة وطبع النيل الساطع؟ من أين وهو المصنوع من طين ساخن والمنذور لنجوميةٍ وكاريزما وأضواء, يموت لو ابتعد عنها؟ لذا ظلّت أزمته تمتدّ وتتواصل سنيناً حتى قضت عليه في العام 91. فانطفأ نجم القصة العربية, وخسرنا بموته أفضل قصّاصي زمانه.

أعود لتعرّفي عليه.
ولا بأس لو خلطت الملح بالسكّر. وفصلت بعض الأحداث والتواريخ عن سياقها.

في مقهى ريش, الذي حاز شهرة أكبر بكثير من حجمه, كان يوسف لا يجلس إلا ديكاً بين الجالسين. هو مركز الجلسة, والآخرون الأطراف. هو القطب, وسواه مريدون.
هكذا كوّنت انطباعي الأول عنه, فاستأت. والعجيب أنني, حين عرفته أكثر, أحببته وأحببت انطباعي ذاك معاً.

في ندوة ثانية حاشدة بمقر حزب التجمع, صرخَ مخاطباً أمل دنقل: "نحن أكبر من الدولة". وكان يقصد بالدولة حسني مبارك ما غيره. ولن أنسى أبداً بعض تفاصيل ذلك المشهد: الجمهور يصفق بحماس. يوسف ينزل عن المنصة ويجلس في الصف الأول بجوار لويس عوض المكتئب جداً, والغائب عمّا حوله. ويوسف مأخوذاً لا يزال بصرخته: أنا أقوى من الدولة. ولويس ينظر حوله مستغرباً, كمن قام من نوم طويل ووجد نفسه في مكان غريب!
ويكون بعد ذلك أن يتصالح يوسف مع الرئيس, ويا دار ما دخلك شرّ.

أما في مسرح الطليعة بالعتبة, فأذكر جاءت نورا وبوسي لتحضرا العرض مع المتفرجين, فلزق بهما يوسف, وترك بعض ضيوفه من المثقفين وهات يا كلام.

لقد كانت النجومية هي مقتلته.

كان متنبي عصرنا لو جاز التشبيه. عين على الإبداع الباهر, وعين على المكانة الاجتماعية.
عين على الخلق, وعين على السلطة. فكيف يمكن الجمع بين نقيضين ومتضادّين ومتخالفين يتوازيان ولا يلتقيان؟

هو أراد للخطين المتوازيين أن يتلاقيا. يوسف أراد ذلك, وهنا بالضبط: كعبُ أخيلِهِ.

رحمك الله يا يوسف.

اليوم, حين أعود لمجموعاتك القصصية الباهية الباهرة, أقول لنفسي: أية موهبة! أيّ جبار قصصيّ! أيّة إشراقات ذهبت مع الذاهبين؟

وأية ثروة بدّدناها, وبدّدها صاحبها الجميل؟

يوسف أجمل من محفوظ في جلساته.
أطيب.
أصخب.
أحبّ.
ومرةً رأيت دمعته وهو يتابع أخبار حرب بيروت.

أي والله .. وهو يتابع تلك الحرب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية