الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نشأة العلوم المعرفية وتطورها: نظرة تاريخية

عزالدين غازي

2012 / 9 / 26
تقنية المعلمومات و الكومبيوتر


على الرغم من أن موضوعات علوم المعرفية، في حقيقتها، ظلت مرتبطة بالأسئلة الفكرية التي أثارتها الفلسفة مند القدم، إلا أن تاريخ تكونها يعود فقط إلى بداية القرن العشرين إثر ميلاد المعلوميات بابتكار أول نموذج رياضي للحاسوب المبرمج وذلك سنة 1936 مع ألان تورينغ (1) .
وبما أن الطوق الفلسفي هيمن على ميدان شاسع من المجالات المعرفية بسبب التصورات المذهبية الفلسفية منذ عهود خلت إلى أوائل القرن الماضي،فأن مبدأ استقلالية العلوم مع بزوغ عصر المعلوميات بدأ بالمراجعة الفلسفية، وكان أول من تعرض لهذا هو النموذج الرياضي الذي أعيدت صياغته وفق نموذج لآلة ذكية.
وبدون شك ستكون لهذه المراجعة الأثر البالغ في الدفع بالعلماء جميعا، ومنهم الرياضيون على الخصوص، إلى التفكير مليا في إبداع آلات تعمل وفق الذكاء الإنساني وشروطه. ومن هنا بدأ التفكير في تقريب العلوم بعضها بعضاً حتى انبثق التصور الذي يقضي بالمقاربة العلمية للظواهر الطبيعية المتعددة المعارف.
ومن التطورات العميقة أيضاً ما عرفه المنطق خلال الأربعينات من نفس القرن من بناء المفاهيم والآليات والأدوات الضرورية للحساب الجديد. الشيء الذي ساهم في خلق نظام علمي يدرس ميكانزمات الاتصال والقيادة والمراقبة عند الكائنات الحية وعند الآلات وفي الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. إنه نظام جديد مهد للحديث بثراء عن العقول الإلكترونية وعن ما بات يعرف "بالسبرنطيقا(Cybernétique) ) (2) ". فما هي إذن السبرنطيقا ؟
ظهر هذا العلم الذي أحدث ضجة فاقت الانشطار النووي صدى وتأثيراً، وكان العالم الأمريكي الكبير نوربرت وينر (Norbert Wiener (3 رائد هذا التطور العلمي الجديد، فهذا الرجل استلهمه ذيوع وانتشار الآلات الذكية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والإنتاجية آنذاك. وأما السبرنيطيقا فهو علم يضم مجموعة مترابطة تعاون فيها علم الهندسة الإلكترونية والمنطق وعلم وظائف الأعضاء. وأصله من اللفظ اليوناني "Kubernesis" الذي يعني قيادة سفينة، فجاء محتفظاً بمعناه العام فأصبح دالا على عملية السير والقيادة. إنه العلم الذي تتقاطع فيه علوم عديدة، تهتم بنظم التسيير والضبط والتواصل سواء بالنسبة للعضويات الحية، أو بالنسبة للآلات. على هذا الأساس حاول وينر دراسة الآلات والأعضاء ومعرفة حالاتها الداخلية والعمليات التي تقوم بها قصد توقع تطور خلال مدة معينة، وقصد معرفة الغايات التي تسعى إليها، وضمان فعالية العمليات التي تمكن من تحقيق تلك الغايات. ويعتمد هذا العلم على مجموعة من المفاهيم المركزية يتأسس عليها الذكاء الاصطناعي مثل مفهوم الفيدباك الإيجابي والآخر السلبي ومفاهيم أخرى تتعلق بالضبط الذاتي والتصحيح الذاتي والعلبة السوداء كما عند (D. Durant. 1979 (4.
ويظهرجليا أن الفكرة الأساسية من وراء قيام هذا العلم، تقوم على أساس أن الحاسوب يعمل بتماثل شبه تام وهي حقيقة كشف عنها عالم فيزيولوجيا العصاب Worren Macolloc الذي توصل مع فريقه إلى صياغة طريقة عمل الدماغ إزاء العمليات الخارجية واستيعابها، وهذا التصور ارتكز عليه أساسا لبناء تكنولوجيا العقول الإلكترونية المحاكية simulant للخلايا العصبية في أدائها الذهني، وكان أمل المهندسين أن تعمل الآلة بشكل آلي بدون أن تحتاج إلى تدخل العنصر البشري إلا عند توجيه الاستعمال فقط (5).
إن انكباب منظري السبرنطيقا على البحث في الذكاء الطبيعي منذ الأربعينات وبعد الحرب العالمية الثانية، فرضه البحث المماثل الذي كان متعلقاً بعلم الطيران ومحطات المراقبة، آخذة بعين الاعتبار المتغيرات المحددة للبرمترات كالحرارة والضغط والتوجيه. وكان على علماء الرياضيات والإلكترونيات الانشغال بميكانزمات فيزيولوجيا العصاب المماثلة حتى بالنسبة للجسم البشري. ومن هنا بدأت نمذجة مسارات المعلومات حيث اهتمام منظري الذكاء الاصطناعي كذلك، ولا غرابة أن نجد الأبحاث اللسانية المتقدمة قد طرحت قضية معالجة اللغات الطبيعية في نفس الوقت الذي شهد فيه التطور المدهش للحاسوب وهذا كان له دور كبير في الصناعة والانتاج (6) .
إن نظرية السبرنيطقا التي كانت مهدت لها نظرية الإعلام عند شانون Shannon C. E سنة 1937، طرحت ما سمي بالتحليل الرمزي لعلائق الدوائر المدمجة، وذلك بواسطة الرياضيات والحساب القضوي والمنطق الرمزي، وهذا كان له دور فعال في بلورة نظريات الصورنة الرياضية والفيزيائية، والتي كان لها دور فعال كذلك في بحوث علم العصاب عموما والأشكال الرمزية خصوصا. لهذا تم ربط الأنظمة الرمزية بالأنظمة الإلكترونية، وهذا طرح أيضا مسألة تمثيل المعرفة منطقيا ودلاليا بتطبيق نتائج الأبحاث الرياضية وخاصة نظرية الرسم Graphe. وبما أنها تدرس علم المنطق و/ أو المماثلة لأنظمة معقدة مكيفة من زاوية معلوماتية (7) فإنها بلا شك ستفيد كثيرا علم العصاب بمقاربة جديدة تسمى علم العصاب السبرنيطيقي Neurocybernétique وهي دراسة للأنظمة المعلوماتية التي يقوم بها المخ البشري.
ورغم كل هذه التصورات المتقدمة لعلم قدم نفسه هدية لعلوم الحاسوب وعلم المخ حتى تتم عملية تقييس ونمذجة مناسبة ونسبية، فإن ثمة اعتراضات عليها وجهت من قبل علماء النفس والجشطلت والابستمولوجيين والذاتيين (subjectivistes (8 . ومجمل تلك الانتقادات هو أنه لا يمكن تمثيل كل أنواع المعرفة في هيئة قضايا القياس المنطقي (رأي سيرل وهربرت ودريفوس). وأن السلوك الذكي والتفكير الذكي لا يمكن عزلهما، إذ هناك تداخل المواقف النفسية مع آليات التفكير بصورة يتعذر معها الفصل وهذا موقف علماء النفس. أما أهل اللغة فقد بنوا اعتراضاتهم على أن فهم اللغة ومحاكاتها وتوليدها يحتاج إلى ملكات ذهنية ونفسية يصعب محاكاتها بيد أن تحدي أبحاث الذكاء الاصطناعي وتشبثها بالنتائج التي توصلوا إليها يكشف عن إمكانية إحراز مزيد من النجاحات التطبيقية في حضن التكنولوجيا المتقدمة: تكنولوجيا اللغة وهندسة اللسانيات وتكنولوجيا المعرفة والهندسة الوراثية وهندسة الادراك..

هوامش ومراجع:
(1) (1912-1954 Alan Turing. ) عالم رياضي اهتم بالدراسات المنطقية والرياضية، وعندما كان طالبا كتب مقالة سنة 1936 كان لها صدى كبير حول الحساب الذي به تتم أتمتة المعالجة الآلية، فأدخل مفهوما جديدا اخترع به "آلة تورينغ" وهي آلة حساب نظرية. ومفهوم هذه الآلة يقوم بجميع العمليات الحسابية الرقمية، فقام بتوسيع هذا المفهوم وطبقه على الذكاء الاصطناعي فيما بعد ومن ثمة جعل للآلة منهجا يمكنها من التفكير والذكاء قياسا على الإنسان.
(2) أصل الكلمة يوناني "Kybernein " وقد أدخل إلى اللغة الأنجليزية عام 1948 من قبل وينر.
(3) عالم رياضي وطبيعي أمريكي شكلت أبحاثه الانطلاقة الأولى لظهور معرفة جديدة تعنى بالنمذجة الرياضية لمسارات المعالجة المعلوماتية، وقد أدخل كذلك وحدة قياس فيزيائية أسماها وحدة قياس وينر. ومن كتبه الرائدة " السبرنيطيقا أو التوجيه والتوصيل في الحيوان والآلة " صدر عام 1948. "Cybernetics or control and communication in the animal and machine "
(4) عبد اللطيف الفرابي وآخرون، معجم علوم التربية، مصطلحات البيداغوجية والديداكتيك، سلسلة علوم التربية، 10.9.ص.60
(5) قاسم حبيب جابر ، الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العملية، مجلة الفكر العربي. عدد 88. ص. 90.
(6)Georges vignaux . 1992. P.21
(7) A. Mucchielli, Cybernétique et cerveau humain. Bordas.75.P.42
(8) نفس المرجع . ص. 106.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العلوم المعرفية والدماغ
EL-MEHDI EZ-ZEMRANI ( 2019 / 9 / 28 - 20:45 )
بداية تشكراتي للدكتور عزالدين غازي على هذه المقال الرائع . لم أود التعليق من أجل النقد أو
ما شبه بل كل ما في الأمر هو تقاسم بعض المعطيات؛ طبعا نشأة العلوم المعرفية كانت بتحريض من السبيرنتيقا، وتطور سيبرنطيقا لما هو تكنولوجي دقيق جعل الاهتمام بالدماغ الذي كان يعد علبة سوداء أمرا محتمل الدراسة. وعلى هذا الأساس بدأت العلوم المعرفية تتطور بتطور التكنولوجيا وبالخصوص التصوير الدماغي. ومن ثم استفادت من ذلك عدة علوم أخرى حقة وإنسانية. الحديث يطول؛ أكرر شكري للكاتب.

اخر الافلام

.. محمد عبده يكشف تفاصيل إصابته بالسرطان ورحيل الأمير بدر بن عب


.. عاجل.. إخلاء سبيل عصام صاصا بكفالة 30 ألف جنيه وعرضه على الط




.. النائبة عناية عز الدين للحرة: طلبنا من مقدمي خدمات الإنترنت


.. عاجل .. عرض عصام صاصا على -الطب الشرعي-.. وكواليس جديدة حول




.. الصحة تكثف الخدمات الطبية والتوعوية بالحدائق والمتنزهات بجمي