الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سدُم ذاكرة أو المساء السبي

ياسين لمقدم

2012 / 10 / 2
الادب والفن


قص/ سدُم ذاكرة أو المساء السبي
ياسين لمقدم
خرج من المنزل في ساعة ذات الأصيل، يجر وراءه خيباته ويطارد وقته الآخر. مرق بمحاذات مجموعة من الجالسين في المقهى، على الواجهة الخارجية، يتحاشى نظراتهم بالتحديق إلى الآماد البعيدة. سحناتهم تشي بضيم مكتوم، يتعقبون أحلامهم الهاربة، والشارع الطويل، العريض، يفضي إلى القصبة حيث ترتع أغلاط الماضي. فكر: للمساء كرنفاله الآثم.

عاد أدراجه، مر قرب مجموعة من الدكاكين، يقضي أهلها جل أوقاتهم في الثرثرة، والعيون ترتجف في المحاجر ولا تكل. وقف قبالة شجرة الكاليبتوس السامقة، تغيرت ملامحها، هرمت، لم تعد كما كانت ولم تعد تأوي العصافير ولا شباب الحي الذين كانوا يجعلون منها مركزا لاتخاذ القرارات وباحة استراحة. ومن عليائها كان الأطفال يرقبون عودة آبائهم من مراكز العمل البعيدة، ويحدقون عبثا في الآماد القصية بحثا عن أهلة الأعياد ويمطرون بعضهم بالحمأ.

الليل قادم بتريث والسماء التي تتناءى ستقع في نسيج الكواكب وتقبع هادئة مكابرة. وأعمدة الإنارة رنت إلى بعضها وسط الضباب في ليلة قاحلة شبيهة بجزيرة طفت على سطح البحر بعد غرق أكيد، فشكلت نجوما تئن في فضاء غبشي وتحمل على ظهرها آلاف المكنونات، تستفز المتطلع المتعطش للسبق الفلكي، وتحرق جناح بعض الفراشات الليلية. ساعتها فقط عاد إلى مأواه سالما من دوريات الليل
من لصوص الليل
من سيدة ترفل في سماجتها
تزركش البسمات بالبلادة
وتشهر الصمود تحت الغواشي.

ولج المنزل متلفعا بالصمت وشهية مفتوحة عن آخرها لقضم ما تبقى من عشاء باهت. بعد أن أتم الأكل تناول الفرشاة لينظف الأسنان التي ظهرت له أمام المرآة هذه الليلة أكثر اصفرارا، شاخت. عالج النافذة المستعصية حتى انفتحت فحلقت نظراته في الفضاء مرتابة متمايلة كعصفور فر للتو من سجنه، تقيس الأفق، تبحث عن نقطه النائية في وقته الحائر على المستوى المحاصر. اصطدمت بجدار الضباب فكادت تتهاوى لو لم يتلقفها من دوامة السقوط في عمى الألوان بالإشاحة.

نسمات مشبعة بعبق المنازل الواطئة تتسلل إليه من الدروب المهجورة التي رنت فيها السنابك، ونقشت على ثراها حروف ملاحم التاريخ الصادح بصفير الريح المغبرة، التي فرقت جموع الأصدقاء منذ الأزل، وأنهكت كاهل الصمت الأبكم بالإتاوات.

انقادت الليلة لكثافة الضباب، وانقاد الضباب للريح المائسة، والريح المائسة تسللت إلى العرين فحملت ما اشتهت من ضواري لتلقي بها أنى شاءت.

تناول مجموعة صور، قرأ على ظهر واحدة: "هناك كان يلهو ويعبث، يجري ويسقط، يسقط ثم ينهض ليتابع جريه. نهاره جري وأيامه كذلك. كلب لطيف لحارس السيارات الرابضة في ساحة محاطة بسور قصير يجلس عليه العامة خلال الأصيل. ولا يعبر الطريق إلا إذا أمنت. لكن مجموعة أطفال طاردته، وبالحجارة رمته، أراد أن يهرب إلى الرصيف الثاني لكن الحافلة داهمته، وها هو في الصورة جثة هامدة مسجاة بأوراق الجريدة".

تذكر كيف جرفت السيول كل ذرات الأرض التي ولدوا فيها، منها، فهرولت أجساد عارية باتجاهات مختلفة/تصادمية. بعد مدة لم يرس على بر الأمان غير مركبه المنخور. وكخيالات الذاكرة تحتشد قصص الزمن الغابر على سطح سفينه تتدافع بالمناكب كي تنزلق إلى رمل الشاطئ، فتستلقي على ظهرها أو كيفما اتفق بأجساد تلمع في عريها، وتتسكع بين ثناياها أشعة الشمس.

يتقزز من ذاكرته رغم أن كل الأيام التي ذهبت إلى غير رجعة لا تزال تحتفظ بصوره، بمحيطه، بمقدار راتب معاشه، بعدد عشيقاته. ذاكرة الذاكرة تتميز بسمة الأبدية، ولو تناءى عنها وطاف حول مدارات قصية وحدها تحوم فوق رأسه. وفي الصباح القادم سينطفئ الليل، وسيهب من حلم غادر يشكله في لوحاته موغلات سريالية، ولما يعيد قراءة الطلاءات سيكتشف جنونه ويعتنق مذاهب صامتة يجول بها في تيهه ليتأكد من تفاهته.
يا ليالي الهزائم المتناسلة، بطونك حبلى مني بالعتم.

الذاكرة تتنشق بشجن الوحدة، وتغرق في أحشاء الشوارع التعسات. ضحكات لولبية تأتيه من الخارج كأنها آخر فصل من دراما مسرحية تنتشي بالصور الجنائزية، تبعث على القنوط يليه الاندثار، ثم يتدافعان في كيانه المتوتر. ساعتها تقرأ الأيام برنامج قلقه المكنون، ثم تنفذ، فتواريه في جبانة رصاصية تنصهر لأول طلقة في أول الخريف. والريح، نعم، الريح إنها ترطن أو تنوح أو تقول شعرا...ترثيه.

أزت النافذة وهو يغلقها تفاديا للجو الذي اعتكر، أبنت الذكريات الذين رحلوا، آجرت ما تبقى في الإطارات الخشبية، في الألبومات والدفاتر المدرسية وأنّت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال