الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في شجاعة الروح المدنية

علي سالم

2012 / 10 / 5
الادب والفن


اشعر بالفخر وبشيء من الحرج في الحديث عن هذا الموضوع بحضور أناس يعرفون بالتأكيد أكثر مني، نظرياً وعملياً ما انا بصدد الحديث عنه.
ومع ذلك، فإن مفهوم الشجاعة المدنية هو واحد من المفاهيم التي شكلت احد اهتماماتي الخاصة لأكثر من أربعين عاما. لقد بدأ هذا الاهمام في عام 1970، عندما شاركت في ندوة عالمية للشباب في الهند، للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد المهاتما غاندي. هناك، تعرفت على فحوى تصور غاندي المدعو باسم ساتياغراها، أو العصيان المدني. وقد تأثرت كثيراً بذلك.
العصيان المدني والشجاعة المدنية هما مفهومان وثيقا الصلة ببعضهما البعض. العصيان المدني هو فعل من افعال التحدي، رفض الانصياع والركوع لقانون غير عادل أو نظام سياسي ظالم. والشجاعة المدنية هي حالة ذهنية تجعل هذا النوع من الافعال ممكناً.
إذا بحثت عن معنى كلمة " مدني" في قاموس روجيت للمترادفات فسوف تجد ان بعض الكلمات ذات الصلة بهذا المعنى تعني "حسن التربية"، "مهذب"، " طيب القلب"، "مراع لمشاعر الآخرين"، وبطبيعة الحال، "متحضر". هذا يعطينا فكرة عن جانب رئيسي من جوانب الشجاعة المدنية وهو - التردد في استخدام العنف. استخدم عمدا هنا كلمة "تردد" بدلا من "رفض"، حيث اني أعتقد بوجود مواقف في هذا العالم الماساوي يكون فيها العنف وحتى القتل "اهون الشرين" (لا يتفق غاندي الداعي الى السلم معي في هذا). ديتريش بونهوفر، اللاهوتي الألماني والواعظ البروتستانتي الذي الهمني هذه التأملات أكثر من أي شخص آخر، تعرض للشنق على يد احد النازيين لمشاركته في مؤامرة لاغتيال هتلر. كان بونهوفر مسيحيا، وكان رجلا طيب القلب ومتحضراً بكل المقاييس. ولكي يشترك في مؤامرة اغتيال كان لابد له ان يخالف اكثر قناعاته عمقاً. ويقال أنه أقتنع بالمشاركة بعد أن عرضوا له صوراً تبين حقيقة الفظائع النازية. ويفترض، انه استنتج بأن مكافحة الشر الراديكالي، يمكن أن تبرر قتل المستبد.
ولكن "المدني" متعلق أيضا بمعنى مديني، وهي كلمة تتصل بدورها بمعنى الكلمة اللاتينية سيفيتاس، والتي تنبع منها كلمات مثل مدينة ومواطن باللغة الانكليزية. في قاموس روجيت، ترتبط كل من كلمتي "مدني" و "مديني" مع كلمة "وطني"، التي تعد واحدة من سبعة عناوين فرعية تندرج تحت العنوان الرئيسي "الجنس البشري". والكلمات الآخرى هي: جنس بشري، أنثروبولوجيا، شخص بصفة مواطن أو عضو في جماعة اجتماعية / مجتمع ،أمة ، انسان.
هل يمكن لنا تلخيص كل هذه المعاني على نحو أفضل؟ نعم انها الشجاعة المدنية التي تعني: الجرأة في الدفاع عن نفسك كشخص، كمواطن وكعضو في المجتمع. كإنسان. ومن اجل البشرية جمعاء.
الشخص الشجاع مدنيا ليس فوضويا أو عدميا. يكتب ديتريش بونهوفر، في المقاومة والاستسلام، وهي مجموع رسائله التي كتبها في السجن، عن الرغبة القوية التي يشعر بها الشخص الشجاع مدنيا للبقاء في حدود القانون، أو للعودة إلى تلك الحالة في أقرب وقت ممكن. انه يهتم بالمجتمع ويحترم قوانينه، ولكن يضع روح القانون فوق نصه. استريد ليندغرين، مؤلفة كتب الاطفال السويدية، تعبر عن هذا المعنى بايجاز في كتابها الاخوة لاينهارت : "ثمة أشياء يجب عليك القيام بها، حتى لو كانت خطرة، لأنك ان لم تفعل لايمكن ان تكون انساناً حقيقياً، انما مجرد شخص تافه وبلا قيمة"
الاخوة لاينهارت هي في الأساس قصة عن الشجاعة. الشجاعة تكون مطلوبة عندما ينطوي الامر على مخاطرة. دعوني اسرد لكم قصة. قبل عام تقريبا اضطررت، بصفتي المهنية، للرد علنا على صديق يسوعي، كان قد انتقد في مقال افتتاحي نشر في مجلة كاثوليكية سويدية، وزير التنمية الدولية السويدي.
كان الوزير قد ذكر بان التعاون السويدي مع اوغندا يمكن أن يتأثر إذا قام البرلمان الأوغندي بسن قانون يسمح بسجن المثليين، وفي الحالات القصوى، إعدامهم. لم يوافق صديقي على هذا القانون، لكنه اكد على ضرورة أن يؤخذ التاريخ بنظر الاعتبار وان يسمح للثقافة الأوغندية ان تتطور بالسرعة التي تناسب ايقاعها الخاص. انا، من جانب آخر، اصريت على ان حق الحياة هو حق أساسي من حقوق الإنسان، وهو مبدأ لا يمكن ابداً أن يعامل على أنه مسألة ثقافية.
وبعد ذلك، أثنى صديق كاثوليكي آخر على "شجاعتي" في نشر هذا الرد الجريء. شعرت بالدهشة من ذلك لأني، بطبيعة الحال، لم اكن احتاج الى الشجاعة لكتابة ماكتبت على الإطلاق. بالفعل لدي وجهات نظر اعبر عنها، ولكن كان يمكن بسهولة أن اكون مثل سمكة ميتة، تطفو على ظهرها وتنحدر مع التيار الرئيسي للخطاب السويدي الصحيح سياسيا. جميع من اعرف كان يمكن ان يصفقوا لو كانوا قد قرأوا المقال. لم اخاطر بشيء على الإطلاق.
لذلك، الشجاعة المدنية تنطوي على شيء من المخاطرة. يمكن أن تكون الحياة نفسها. يمكن أن تكون الحرية. يمكن أن تكون حقك في النشر إذا كنت كاتبا. يمكن أن تكون وظيفتك أو مصدر رزقك. يمكن أن تكون الاغتراب عن المجتمع الذي تنتمي اليه وتشعر بانك جزء منه، وتحبه. يمكن أن تكون عائلتك. يقول سارتر، في كتاب الوجودية مبدأ انساني، بشأن الاختيار الصعب الذي يواجهه الشاب بين شعوره بأنه ينبغي عليه أن ينضم الى حركة المقاومة الفرنسية، وبين اضطراره الى التخلي عن أمه العجوز. كيف يمكن لأونغ سان سو سوي ان تتحمل عدم رؤية اطفالها لهذه المدة الطويلة، أو زوجها عندما كان يحتضر بسبب السرطان؟
الشجاعة المدنية تعني المخاطرة بمواجهة الشعور بالاغتراب، أو العزل. ثمة ألم. لكن ثمة أمل أيضا. الشخص الشجاع مدنيا يأخذ هذا الخطر بعين الاعتبار لأنه يهتم على وجه التحديد بمجتمعه ويؤمن بمستقبله. ان تحدي قانونا جائرا او نظاماً غير عادل يمكن أن يكون تعبيرا عن ولاء اشد عمقاً وعن التزام لايمكن الاستغناء عنه.
ثمة سؤال واحد مثير للاهتمام هو هذا: هل يهم عن ماذا تدافع؟ هل المضمون الإيجابي، والغرض من اتخاذ الموقف مهم؟ معظمنا، كما أعتقد، سيميل للإجابة بنعم. انا كذلك. نحن ننظر الى الذين يدافعون عن الحرية والعدالة، وحقوق الإنسان، والقيم التي نعتبرها أساس مجتمعاتنا على انهم يتحلون بالشجاعة المدنية. ولكن هذا الامر مخادع. فمن ذا الذي يقيم المحتوى الأخلاقي لموقف ما؟ كيف ننظر الى امرأة مسلمة تصر على مخالفة القانون الفرنسي من خلال ارتداء الحجاب؟
ان يشعر المرء بانه يمتلك اليقين المعرفي المطلق بانه على حق طبعا من المستحيل. ليست لدينا نقطة أرخميدس يمكننا انطلاقا منها مراقبة العالم واتخاذ المواقف بشأنه. نحن في وسط العالم وبين ظهرانيه. اننا نحن الذين نمنح للعالم معناه. كلمات مثل "الحرية" والعدالة "يمكن أن يساء استخدامها. بعض من أسوأ الدكتاتوريات في العالم تطلق على نفسها اسم " انظمة ديمقراطية".
لذلك، ليس لدينا من خيار سوى أن ننظر الى داخل أنفسنا. والمفكرين الدينيين مثل القديس توما الأكويني أو الكاردينال جون نيومان هنري، والعديد من المفكرين اللادينين أيضا (على سبيل المثال الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو) قد يقولون ان الضمير هو الدليل الحق. ثمة توازيات سياسية. الفيلسوف السياسي الامريكي مايكل فالتزر يقول أن المبرر الوحيد للتدخل العسكري الإنساني – وهو خرق لمبدأ السيادة المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة - هو عندما تتصرف حكومة ما بطريقة تشكل "صدمة للضمير الإنساني". ويذهب ديتريش بونهوفر الى الامام خطوة اخرى ابعد من ذلك ويدعي بأنه حتى الضمير يمكن أن يقودك الى الضلال. انه يطرح راياً مثيراً للاهتمام مفاده أن الضمير السيئ أفضل من الضمير المضلل او المخدوع. ولكن مع ذلك يجب عليك استخدام حكمتك الى اقصى الحدود، وان تتصرف، " وان تصبح على صلة مع التاريخ" وان تتحمل مسؤولية ما تفعله.
احد جوانب الدين هو توفير التوجيه الاخلاقي. وقد قدم الدين في كثير من الأحيان قوة نفسية للدفاع عن الحق ضد القوة. كان ذلك بالتأكيد في حالة بونهوفر. لقد كانت ثقته في الله وفي النعمة الإلهية هي التي جعلته يصمد داخل السجن. داغ همرشولد، أيضا، وجد القوة التي تساعده على تحمل الضغوط السياسية الهائلة الصادرة ضده من مكتبه كأمين عام للامم المتحدة وذلك من خلال اعتقاده العميق وثقتة بالله. كان "النضج الروحي" بالنسبة له شرط أساسي يجب ان يتوفر في الزعيم السياسي.
عندما نتحدث نحن في الغرب عن الشجاعة المدنية، نشير عادة الى الناشطين الذين يدافعون عن القيم التي نعترف بها ضد الدكتاتوريات في أجزاء أخرى من العالم. ولكن هل يمكن أن نقدر أيضا الشجاعة المدنية لدى اناس يعتنقون، ويعبرون عن ويدافعون عن قيم مختلفة جدا عن عاداتنا وتقاليدنا؟ في مجتمع تعددي ديمقراطي هذا شيء يجب علينا أن نتعلم القيام به. الفيلسوف الفرنسي التنويري فولتير يشتهر بقوله: "أنا أكره آرائكم، ولكني مستعد للتضحية بحياتي من اجل حقكم في التعبير عنها". واحدة من الاشياء القليلة جدا التي اتفقت بشأنها مع والدي عندما كنت في سن المراهقة، كانت بشان مطران يدعى بو غيرتز من مدينة غوتنبيرغ، كان يعتقد ويدافع دفاعاً مستميتا ضد ترسيم المرأة كاهنة في الكنيسة السويدية، وكان شجاعا مدنيا. انا على الأقل – لست متأكدا تماما من وجهة نظر والدي - لم اوافق بالتأكيد على وجهات نظر المطران غيرتز. لكن كلا منا كان يكن الاحترام له ولآراءه غير الانتهازية.
إلى أي مدى يمكن لهذا النهج الليبرالي اساسا ان يحملنا، وكيف يمكن تطبيقه في مجتمعات اليوم المتعددة الثقافات، انه سؤال كبير يتجاوز بكثير نطاق هذه التأملات
لذلك أكتفي بهذه الملخصات: الشخص الشجاع مدنيا هو شخص
لا انتهازي
لا متعصب
لا فوضوي ولا عدمي
لا مراقب سلبي أو ناقد للمجتمع
انه شخص حر، يشعر بالمسؤولية، طيب القلب، كائن بشري اخلاقي، مستعد لتحمل المخاطر في التعامل مع التاريخ.
اوللا غودمونسون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع بالفعل استاذ علي سالم
رويدة سالم ( 2012 / 10 / 5 - 13:14 )
اعجبتني كثيرا تأملاتك وأنتظر المزيد من ثمرات ثقافتك الواسعة
لتسير مجتمعاتنا نحو مستقبل افضل بخطى ثابتة على مواطنيها ان يتمتعوا بالجرءة و الشجاعة المدنية
ان يكون بناء المستقبل الافضل لكل ابناء الوطن وللانسانية عموما من الاساسيات
لكن هل يمكن ايجاد مثل هذه الشخصية القادرة على بناء غد افضل في ظل مجتمعات يرى فيها كل فرد ان مجتمعه الاهلي اي جماعته الدينية او الفكرية هي المالكة للحقيقة؟
حتى في المجتمعات الديموقراطية حيث يحتل المجتمع المدني القيمة الاولى التي من اجلها يقدم الكل خدماتهم هل يقدر الانسان عمليا على التخلص من التخندق في مجموعته او حزبه السياسي او فكري او العقائدي ليتقبل الاخرين ويمنحهم الحق في اتخاذ القرارات الاساسية التي لا تخدم مصالحه الخاصة محترما بذلك حرياتهم وحقهم؟
ثم لو سلمنا بوجود مثل هذا السمو في التعامل والريادة في الاصلاح ما المقاييس التي سنعتمدها لنكون على ثقة من ان قراراتنا او تقييماتنا صحيحة ولا تخضع للمصالح؟
مودتي واحترامي

اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال