الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سركون بولص: البوهيمي, الرائي والحقيقي

باسم النبريص

2012 / 10 / 6
الادب والفن


كنت ذهبت إلى بلدة لوديف, في الجنوب الفرنسي, لأحضر مهرجانها الشعري السنوي, دون أن أعرف أية معلومة عن طبيعة هذا المهرجان وحتى عن أسماء المشاركين فيه لهذه الطبعة.
ذلك الوقت, لم تكن لي أيما علاقة بالإنترنت. (وإن كنت اقتنيت كمبيوترأ وتعوّدت الكتابة المباشرة عليه منذ سنوات) ولعل هذا يكون سبب جهلي الثاني إذا أضفت إليه السبب الأول: عدم معرفتي اللغة الفرنسية.

هناك, كنت الضيف العربي الأول الذي يصل. ولم يكن سبقني في الواقع غير الشاعرتين الكنديتين الكريمتين دونيز بوشيه ودانييلا أويانيس.

المهم: بعد مكوثي يومين في نزل الورود (La Roseraie), الكائن على مرتفع جبلي هيّن, من تلك البلدة, عبرت ذات ظهيرة إلى بهو الإفطار, فإذا أنا وجهأ لوجه مع سركون بولص!

كان العدد الأخير من مجلة مشارف الحيفاوية, قد جمعني وإياه في ملف بين دفتيه.
صعدت لغرفتي في الطابق الأول, مجتازاً المطبخ, وصعد سركون, لنفاجأ سوياً بأننا جيران يفصل غرفتينا جدار رقيق مشترك. ونقف لفتح البابين على عتبة واحدة.
قلت له: أية مصادفة! جيران في مشارف, وجيران في نزل العاهرات هذا ! *

ومن تلك اللحظة, ابتدأت إلى أن انتهت علاقتي الواقعية بسركون بولص!
ابتدأت على مدار أيام وليالي (بالأخص: ليالي) هذا المهرجان اللذيذ. (في الحقيقة, لا أجد له صفة أفضل وأصدق من هذه).

سركون البوهيمي, الرائي, تجسّد لي, في هذا الجوار وهذه الرفقة, بأبهى وأنقى صوره.
ولقد كتبت عنه, هنا في إيلاف, فور عودتي من المهرجان, عام 2005. لذا لن أعيد ما كتبت.
يهمني الآن, وأنا أكتب هذه الكلمات, بعد سبع سنوات بالضبط, سؤال: ماذا تبقّى وتصفّى ورسب من تلك الأيام التي تبدو اللحظةَ بعيدةً؟

سأتكلّم عن أشياء حدثت. أشياء كنت كتبتها ولم تنشر لأنها ببساطة وجهل تكنولوجي: ضاعت من الكمبيوتر.
ومع أنه من المستحيل عبور النهر ذاته مرتين, كما يقول هيرقليطس, فأنني سأحاول.

ذات ليلة, سهرت مع سركون بصحبة الشاعر العزيز طاهر رياض. كنا ثلاثتنا وحدنا, وكان الجو من حولنا يعد بجلسة ولا أحلى.
سهرنا على ضفة نهير لوديف, وأوغل ليل الصيف, بجماله ولسعة برودته المحببة. وكنا, كما هي العادة في مثل هذه الجلسات, أسرفنا في الشرب والحديث.

ولسبب, لا أتذكّره الآن, تخلّف طاهر (رغم أنه يسكن معنا ذات النزل) عن العودة.
قال سركون شاكّاً: هل تعرف جغرافيا الشوارع الموصلة إلى المبغى؟
قلت: لا عليك! ولو ..!
كانت تلك (وأقولها صادقاً) أول مرة أثمل في حياتي. فالشرب ليس من العادات الاجتماعية في بلد محافظ مثل غزة. فضلأ عن أنّ البيرة غير متاحة فيه فما بالك بمشروب روحي أطول!

قمت عن الكرسي, وأنا لا أكاد أتبيّن موضع قدميّ.
خاف سركون وقال بلهجته العراقية الممطوطة: عيني! أنا لا أعرف الشوارع, متأكّد أنك تعرفها؟
_ يا زلمة, إمشِ بسْ .. ولو!
رددت.
كنت أحاول تطمين نفسي, كالخائف في العتمة.
تركْنا رياض, وتوجهنا لمقصدنا.
أعمى يقود أعمى, كما يقال.

في الطريق, على الشارع العام, بحذاء مقهى لواحد جزائري, وكانت الساعة تجاوزت الثالثة أو الرابعة فجرأ, رأينا خالد النجار, يقف وحيدأ على الرصيف, يتأمّل الفجر الوليد, والشجر الكبير الغامض في الحديقة المجاورة, فمازحته, بأمور من وحي الثّمل, ومضينا.

يكرّر سركون وقد دخلنا شارعاً مسفلتاً طويلاً: أمتأكد من أنك تعرف العنوان؟
_ يا زلمة عيب, إركن على صاحبك.
ونظل نسير, ثملاً محترفأ يستنجد بثملٍ غرّ (ثمل للمرة الأولى. أي والله)!
لكنني في آخر المطاف, أوصلته لبغيته, بسلام.
كيف؟ لا أعرف!
فيا سلام!
إنجاز لا غرو رائع من واحد سكران طينة, كما يقول أخوتنا المصريون.
لكنْ, هذا كله غير مهم. فالمرء (كما عرفت فيما بعد) يمكن أن يثمل, ومع هذا يظل جزء من عقله صاحياً.

المهم هو هذا: في الدروب الصاعدة إلى النزل, عبر تلك المتاهة التي لا خبرة لكلينا بها, في تلك الأزقة التاريخية العتيقة, كانت ساعتي قد حلّت.

أخرجني الثمل عن طوري الرصين, وأطلق مكنوني ومسكوتي. وفي إيٍّ؟ في اتجاه الرب تحديداً !

أسمعت سركون ما لم يسمعه في حياته (كما قال لي بعد يومين في جلسة أُنس)
يخرب بيتك! أكل هذا كان في لا وعيك!
من يراك .. ويلمس شغفك العالي بالعيش, لا يتوقع مطلقأ سوداويةً كهذه!
والحق, أنني لا أذكر. ذكّرني هو لكنني لا أعي.

ذكّرني بمخاطباتي لله, وكيف أنه لا يليق به صنع عالم على هذه الشاكلة, بينما حتى الشعراء المفلسون لا يقبلون به. فكيف وهو الأعلى والأعظم يقبل بمثل هذا الصنيع الرديء وينسبه إلى نفسه!
قال سركون: كنت أتثاقل وراءك في عتمة الفجر, وأستمع وأستمع, وأتخيّل نيتشه بُعث حيّاً.
قال: وأتمنى أمنيتين: لو لديّ مسجّلة, و .. انقضاء هذه الليلة على خير!

سألته: كيف يعني؟ فقال: كنت كمن في حمى شعرية. تخاطب الله وكأنك تراه!
والعجيب أنك كنت تخاطبه مثل من يقرأ من كتاب. لغة فصحى وتعابير شعرية وصور! ثم مرّ شرطي من أمامنا, فتوجّست شرأ, لكنه ضحك وقال مساء الخير, ومضى لحال سبيله.

كان سركون, الله يرحمه, كما تبيّن لي في تلك الليلة وما بعدها, من أولئك الذين بقال فيهم: "مصابون بعمى المكان". بمعنى لا ينتبهون لعلامات المكان الفارقة, كي يعرفوا طريقهم بمفردهم إذا جدّ الجد.
والحق أنني مثله, وأعرف هذه الخصلة في نفسي من قديم.. فكيف أوصلته للنزل, وكيف فتحت الباب الرئيسي بمفتاح أعطتنيه صاحبةُ المكان .. لا أدري. لعلّها من محاسن الصدف!

والحق, أن ما قلته, مما لا يمكن كتابته هنا, بأي حال, لا يمكن سماعه قط إلا من فم سركون!

هذه واحدة.
أما الثانية والأخيرة, فكانت, في ليلتنا الأخيرة أيضاً.

كنا في المساء افتقدنا سركون, على غير عادته هو "سهّير الليالي" بلغة صلاح جاهين. سألنا عنه, ثم نسيناه في زحمة الليلة الكبيرة المفترجة – ليلة حفل الاختتام.
وحين عدت للحجرة مكتئباً أننا سنسافر غداً, ونودّع عالماً على الأرجح لن نراه ثانية _ دخلت وتمددت على السرير القديم بملابسي, بلا نية ولا مقدرة أصلاً على النوم.
وهناك, سمعت أصوات فرح ومرح صادرة من غرفة صديقي الحبيب.
كانت امرأة فرنسية مع سركون. وعلى صوتها العالي نمت السهوتين اللتين قدر لي سرقتهما, قبل أن يحلّ الصباح وننزل للسيارة البيجو المنتظرة. (أتذكّر: استيقظت على طَرق رفيق إنما مُلحّ من قبضة صديقنا الشاعر محمد عفيف الحسيني وكان كَلّ صوته من طول النداء تحت).

في الطريق لمطار مونبيلييه, ركبت مع الشاعرة الكندية دونيز بمفردنا. وفي المطار أخبرني سركون _ وروحه مشرقة _ بقصة المرأة, وكيف أنه فضّلها على امرأة لبنانية ثانية, اجتمعتا عليه ذلك المساء, فاختار الأولى "لأنها لحوحة وأكثر صبا". وأنا سمعت هذا الكلام, وانبسطت لأن صديقي الستيني انبسط.

تلك الليلة كانت آخر عهدي بسركون.

وفي مطار شارل ديغول, رأيته مستعجلاً ليلحق بطائرته التي ستوصله لبرلين, حيث يقيم في شقة صديقه مؤيد الراوي الذي كان حدثني عنه طويلاً وعن زوجته الكريمة مدام فخرية.
تلك الصورة, صورته وهو يحمل شنطته على كتفه ويهرول بملامح ضائعة, ورأس كبيرة غزيرة الشعر, فوق قامة قصيرة مدكوكة, كانت آخر عهدي به.

رحمه الله.
سأظلّ أتذكّره بتينك الليلتين الطيبتين. وعلى هديهما, وهديِ شِعره المبهر, والرفقة اللا تُنسى, سيظل عندي واحدأ من أكبر وأندر الشعراء الحقيقيين الرّائين, ليس في العرب فحسب, بل في العالم كله.


* (La Roseraie), كان طوال القرن التاسع عشر وحتى العام 26 من القرن العشرين ماخوراً للجنود الفرنسيين. ثم تحوّل, بقرار من بلدية البلدة إلى نزل من طابقين. لكن مازالت فيه لوحات إيروتيكية تذكّر بماضيه وتخبّر عن الذي كان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال