الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكِرةُ الخامِسةُ للقهوة ..

وفا ربايعة

2012 / 10 / 7
الادب والفن



عندما تتشابهُ الوجوهُ والأشكالُ والأماكنُ، تبقى الذاكرةُ ، الحاضِرَ الوحيدَ الذي يظلُّ ثابتاً كأعمِدةِ الإنارةِ في شوارعِ المدينةِ القديمة، فقد تتغيُّرُ التفاصيلُ كثيراً، لكنَّ الحدثَ المجازيَّ واقتباساتِهِ، هوَ ما يركعُ تحتَ أقدامِ زمنٍ، كُلُّ دوائِرِهِ جُمَلٌ إعرابيّةٌ، اختلطَتْ أسماؤها بأفعالِها، حتى لم يبقَ مِنها سوى " الفِعلُ الجارِح " ..!
عامٌ مضى على آخرِ جلسةٍ شتائيّةٍ هُنا ، كُنتُ قدْ شَرِبتُ فيها شوارِعَ المدينةِ قطرةً قطرة، وتلمَّستُ – مِن خلفِ الزُجاجِ الداكِنِ – أجسادَ الفتياتِ المبتلّةِ أثناءَ انتظارِ حبيبٍ لا يأتِ، ولا يترُكُ خلفَهُ مُذَكِّرةَ توقيفٍ لوقتٍ يَضيعُ في تقديمِ مُبرِّراتِ تأخُّرِهْ . واستعدتُ أيضاً ، أحلاماً خُرافيّةَ الوعودِ ، وحتميّةَ الانتهاءِ كُلَّما اصطدمتْ بصخرةٍ ، تتوسطُ موجاً كثيفَ التلاطُم بواقِعٍ أخرَقْ ، كسَّرها ولم يترُكْ مِنها إلاّ فتاةً تنظُرُ إلى العالمِ مِن قبرٍ زُجاجيٍّ ، بانتظارِ لحظةِ الحساب .

ويحدُثُ أيضاً ، أنني أستعيدُ في هذا المقهى ، وقائعاً كُنتُ قدْ أخفَيتُها عنّي ، واستسلَمَتْ أخيراً لقَدَرٍ أظهَرَها ، ورتّبها على الورقِ أحداثاً ، تكادُ تكونُ سماوِيّةً أو غيميّةً تُشبِهُني ، وها أنذا ، أُنكِرُ وِحدَةَ الروحِ والحِكايةِ والدَمعْ ، ذاكَ أنني اليومَ لا أمتلِكُ في جُعبتي حكايةً ، تحتلُّ فُلولَ مشاعِري ، أو تزرَعُ السُكَّرَ في وَرَقي ، كُلَّما ماتتْ القهوةُ لحظةَ تأمُّلي لشارعٍ يقتُلُ الألوانَ والأرواحَ . أبتسِمُ لحظةَ اندلاقِ القهوةِ على الطاوِلةِ والوَرقْ ، فهذهِ المرّةُ الأولى مُنذُ سنواتٍ بعيدة ، التي أستخدِمُ فيها الورقَ للكتابةِ ، وفي لحظةٍ ما .. تنبَّهَ عاملٌ في المقهى إلى علاماتِ الانزعاجِ التي ترتدي معالِمي ، فغيَّرَ – وهوَ يتطلَّعُ باتجاهي – المنحى الكُليَّ الموسيقيَّ في المقهى ، واستَرَقَ لِسَمعي " إنّي خيّرتُكِ فاختاري " كي تتحسَّنَ وتيرةُ الصخبِ المُنبعِثِ مِنْ نظراتي ،وأعودَ بنهمٍ لمزاجيَ المنزوي في تلكَ الزاويةِ البعيدةِ في المقهى ، فأدركتُ أنني أصبحتُ وجهاً مألوفاً لديهِ مِنَ المرّةِ الماضية .

اليومَ بالذاتْ ، أشعرُ أنَّ لخيبتي المُعتادةِ طَعماً مُختلِفاً ، ونكهةً تكوَّنتْ بِفِعلِ تفاعُلٍ شُعوريٍّ بينَ القهوةِ ورمادِ السجائِرِ وأنينِ الورقِ والحبر ، خيبةٌ تتنبَّأُ بأنني – كـ كُلِّ الأحياءِ – أُمارِسُ الحُلمَ والرغبةَ في الحياةِ والابتسامَ لطفلةٍ تمُرُّ مِن أمامي مُلوِّحةً بيديّها لي ، حامِلةً جُزءاً مِنْ برائتي التي أبحثُ عنها في وُجوهِ الأطفالْ .
أنا لستُ أنا أو هيَ اليوم ..!!

فحينَ تشترِكُ الأشياءُ وتتحِدَ كي تنبُذَ وُجوديَ ، واحتلاليَ رُكناً مُهمّاً مِنْ أركانِ لفتِ انتباهِ الجالسينَ في هذهِ البُقعةِ مِنَ الكونِ الفسيحْ ، هذا الكونُ الذي يَضيقُ في عيني يوماً بعدَ يوم، أتطلَّعُ إلى النجاةِ بلحمي وبوَرقي ، مِن آفةِ الفُضولِ باتجاهِ الطرفِ الآخرِ مِن الحياة ، نحوَ الشارعِ الخالي مِن معالِمِ الحياةِ في أبسطِ تحوّلاتِهْ ، ولا أفلِحُ إلاّ بكوني عالقةً بينَ جوفي وحَلقي ، أُخرِجُ أنفاساً شِبهَ مكتومةً ، تورِقُ وتومئُ بأنني مازِلتُ شِبهَ طبيعيّة .
أخرجُ بحقيقةٍ على حينِ غرّة ، بأنَّ كُلَّ الأشياءِ مِنْ حَولِنا ، مشترواتٌ تُباعُ بأثمانٍ مُتفاوِتة ، وبضائِعٌ مُستورَدةٌ كالورقِ والقهوةِ والسجائِرِ والأكوابِ والفناجينِ والزُجاجِ والستائِرِ والمياهِ المعدنيّةِ والملاعِقِ والسكاكينِ والصُحونِ والفواكِهَ المُجفَّفةِ ونادلي المقهى وزوّراهِ أيضاً . أعترِفُ – كما اعترفتْ صديقةٌ لي مُنذُ قليلْ – بأنني كُنتُ إحدى هذهِ الأشياء ، ولكنني مُنذُ مُدّةٍ ، استعدتُ حُريّتي ، واستطعتُ ببراءةٍ إزالةَ اسمي من قوائمِ الضريبةِ ، وفواتيرِ المحلاتِ التجاريّة ، لذا .. فأنا اليوم أجمل وأجمل !

أركنُ ظهرَ دمعي للغيم ، فالجوُّ المبتلُّ كَـ وَرقي ، يحكي كَم كُنتُ مُتوَحِّدةَ القلبِ والشكلِ والكلماتِ والقصائدْ ، وباحثةً عن جِداريّةٍ أكبرَ ، كي أصُبَّ عليها مَجمَعَ ألوانيَ المُزرقّةِ وأصباغي ، مُحاوِلةً رسمَ ما تخُطّهُ الضرورةُ الشِعريّةُ في مُخيّلتي ، وتصويرَ ما تقتضيهِ رمزيّتي في إخفاءِ ما أوَدُّ البوحَ بهِ أمامَ المارّةِ والقُرّاءِ والفضوليين .
أُكرِّرُ : أنا لستُ أنا أو هيَ اليومْ ، فأنا الابتلالُ والجفافُ والوحدةُ والاجتماعُ والجوعُ والاكتفاءُ مِن كُلِّ ما هوَ مرئيٌّ ومُتدلٍّ أماميَ دُمىً ورقيّةً يُتلِفُها المطرُ الآتي بعدَ قليل .

أُنصِتُ الآن لِــ " حُبّ ، سفَر ، وضياع " مقطوعتي الموسيقيّةَ المُفضّلةَ ، مُذ خلقَ اللهُ أوَّلَ وتَرٍ يبكي ، وأوَّلَ عُصفورٍ أنشدَ في السماء ، فالحُبُّ والسفرُ والضياع ، أصغرُ قِصّةٍ كُتِبتْ بصورةِ ألحانٍ حزينة ، حِكايةٌ تضُمُّ ملايينَ الفُصولِ المُختزَلةِ بكلماتٍ ثلاث . يا الله .. كَم هي قاتِمةٌ اختياراتي ..! فالاختياراتُ تعكِسُ عشقيَ الأزليَّ والأبديَّ للرمزيّةِ ، فالرمزيّةُ لديَّ مَذهبٌ أدبيٌّ وشُعوريٌّ ، وقانونٌ سماويٌّ ترضَخُ لهُ كُلُّ جوارحي راضيةً ، ويعكِسُ كُلَّ انتماءاتي وأفكاري ومُعتقداتي وردودَ أفعالي ، وحتى دموعي ونمطيّةَ ابتسامتي ، فأنا أُخفي معانٍ باطنيةٍ خلفَ ما يظهَرُ أو تكَشَّفُ مِنّي ، ومعَ أنني أحمِلُ اليومَ كُلَّ الكونِ في رأسي ، أعتَرِفُ – بلا مناسبةٍ تُذكَرْ – حُبيَّ المُمتدِّ كالغيمِ المُقطَّنِ لِـــ نزار قبّاني ، نزارُ الذي رافقني في وِحدتي بالأمس ، وشاركني الحُلمَ بالأمس ، وهاهوَ اليومَ يتقمَّصُ شكلَ الجوِّ والمكانَ والزمانَ والسماءَ والانقلابَ بينَ الصيفِ والخريف ، وثورةَ الأرضِ على الشجرِ ، والحربَ المُستديمةَ بينَ البشرْ .!
أُنهي جلستي بفنجانِ قهوةٍ خامِسْ ، أُدوِّنُ مَحضَرَ اجتماعي هُنا ، وأُوثِّقُهُ ، بعنوان : " الذاكِرةُ الخامِسةُ للقهوة " .
وأمضي نحوَ اللاشيءِ واللامكانِ واللارائحةِ .. واللاأنا ..!!

فصلُ الخوفْ / وفا ربايعة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ذاكرة فنجان القهوة
سيمون خوري ( 2012 / 10 / 8 - 06:54 )
الأخ / ت الكاتب / ة وفا ،عنوان جميل شدني لقراءة النص ، وللقهوة دائما ذاكرة تسترجع بعض صور الماضي . لست ناقدا أدبياً بيد أني أبارك نصك كما يبارك العصفور وردة ما . نص جميل ولغة شعرية غنية بالمعاني تحية لجهدك.


2 - شكراً
وفا ربايعة ( 2012 / 10 / 8 - 20:26 )
سيمون .. القهوةُ ملاذُ الوِحدةِ مِنَ المكوثِ طويلاً خلفَ دلالاتِ اللُغةِ وعناقيدِ الوِحدة ، أظنُّّ أنني اليوم كُنتُ أشتمُّ القهوةَ بينَ حروفي ، وأبحثُ بيني وبيني عن خيوطٍ تؤولُ إليها .. تحيتي

اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو