الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعدام الجثث ذات الدم الحار

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2012 / 10 / 10
الادب والفن


إعدام الجثث ذات الدم الحار

عبد الرحيم التوراني

إلى صديقي برهان

بعدما أنهيت قراءة رواية "مشرحة بغداد" لصديقي المبدع برهان شاوي ـ التي حظيت بإهدائه لي مشكورا نسخة منها موقعة بقلمه ـ وكنت قرأتها في أكثر من رحلة في القطار، ما بين الدار البيضاء والرباط وفاس. حملت جثتي فوق كتفي وأخذت أطوف بها. باحثا عن أطرافي وأحشائي في المشرحات والمقابر الجماعية. عندما أوقفتني عند بداية زنقة سبتة جثة شرطي مترهلة، طلبت مني الإدلاء ببطاقة هويتي، اكتشفت أني جثة مجهولة الهوية، فسقطت أرضا من هول ما اكتشفت. حملتني جثتي على ظهرها، إذ هي بلا كتفين. ساقتنا الجثة المترهلة للشرطي إلى المشرحة المركزية. هناك تعرفت إلى أطرافي المسروقة. كانت قدمي في رجلي جثة مسؤول حزبي ميت منذ سنوات، لكنه لا يزال يجلس فوق الكرسي. لم تبرد جثته أو تتعفن، لأنها استفادت من تحنيط فرعوني. عكس بقية الجثث. ورأيت يدي في ساعدي جثة سياسي مشهور بمهارته وخبرته الطويلة في صناعة الجثث. أما أمعائي فلم أعثر عليها. همست لي جثة طيبة أن أفتش عن أحشائي في برميل نفايات المشرحة، أو في "زبالة الماريكان" في مديونة بضواحي الدار البيضاء. لكني ترفعت وتعففت. أربأ بنفسي أن أكون جثة "شمكارة"، تظاهرت بأني لست بحاجة لأمعاء. وما دام الأكل محرما على الجثث، أو ممنوعا عنها، فما فائدة الأمعاء؟ لكني بحاجة لقدمي وبحاجة ليدي أكثر. تقدمت صوب جثة الشخص المسؤول الحزبي الذي ينتعل قدمي. سألته عن مصدر القدمين اللذين يقف عليهما. رد علي أنه بعد بتر قدميه في حادث مروري تلقاهما كهدية من جثة مجهولة الهوية كان قد ساعدها على الاحتفاظ بجمجمتها مصونة غير مكسورة أو مهشمة. وتقدمت صوب الجثة التي تنام جنب جثة صاحب قدمي. مدت لي الجثة يدي لتسلم علي بها، لكني كنت بلا يد. سألت صاحب يدي عن يدي، كيف وصلتا إلى ساعديه. رد علي أنه اشتراهما من بائع أجزاء بشرية مستعملة، وكانت اليمنى تنقصها السبابة، أما اليسرى فوجدها يقول بلا وسطى وبلا إبهام وبنصرها مدبب الرأس، وكلفته عملية التجميل مالا كثيرا، ثم ذكر لي مبلغا ماليا كبيرا. وسألته عن الخاتم في اليمنى فادعى أنه خاتم زواجه. سألته عن اسمه. فردد نفس الاسم المنقوش على الخاتم، وكان هو نفس الاسم الذي كنت أحمله قبل أن أتحول إلى جثة، وكنت قد نسيته، لم أعد في حاجة إليه، كما أصبحت في غنى عن الأمعاء. فكرت قليلا أنه لا جدوى من المطالبة باسترداد أطرافي وأحشائي وأن علي أن أخوض معركة استرداد هويتي. من أنا؟ أردت أن أوجه السؤال أولا إلى جثتي التي حملتني إلى هذا المكان المخيف للأحياء، لكنها كانت قد اختفت وسط زحام الجثث. كذلك جثة الشرطي المترهلة. لم أجد أية جثة تولي لي بعض الاهتمام وتصغي إلى شكواي. كل الجثث منشغلة بمصائرها. رميت بجثتي وسط زحام الجثث وقررت أن أوقف كل دهشة أو استغراب قد يصدران مني. لكني لم أكن أجيد لغة الجثث، وخوفا من اكتشاف أمري جعلتني أبكم. لكن كنت أفتقد ليدين تساعداني في لغة الإشارات لأكمل بها إيمات وجهي ومعمعتي. ثم شيئا فشيئا أحسست أني أفقد السمع. لم أعد أسمع شيئا. عدت إلى الجثة التي استولت على قدمي فلم أجدها، لكني وجدت قدمي محشوتين في جوربين أبيضين وفي حذاء عسكري من ماركة "caterpillar". لبست قدمي ونظرت على يميني فوجدت يدي في قفازتين من جلد الثعبان. ألصقتها بجسدي. وخرجت راكضا من المشرحة. أنوي الهروب بجلدي. لكني عجزت عن إيجاد الباب. قضيت وقتا طويلا قبل أن ألتقي بحارس المشرحة. لما رآني الحارس أخذ يركض هاربا مني. ركضت خلفه أصرخ وأصيح باسمه. لم يكن يسمعني لأني صرت بلا صوت. حتى صوتي بتروه من حنجرتي. ربما أهدوه لجثة أخرى تستعمله في الغناء أو الهتاف أو التصويت في الانتخابات. لم أعرف كم مر من الوقت وأنا أجري خلف الحارس آدم وأصرخ وأصيح من غير صوت. وما فهمته من لافتة ضخمة معلقة أني في بلاد اسمها القيامة. والناس تنتظر في طوابير طويلة بلهف وجبة القتل بمرق الدم البارد. ولا أحد يعرف هوية الآخر، إذ الجميع بلا هوية أو قل مجهول الهوية. كانت هناك جثث زرقاء، وجثث رمادية، وجثث متفحمة سوداء. لكني عجزت عن تحديد لون جثتي. اشتد بي الحزن. لأني أصبت بعمى الألوان. كنت خائفا أن لا أحظى بكفن وبقبر خاص. وأن أرمى بملابسي في مقبرة جماعية. لما دفعت بجمجمتي نحو نافذة في الهواء رأيت الناس كلهم تحولوا إلى جثث، ولا فرق بين جثة وأخرى إلا بالرائحة. هناك جثث تزكم برائحة الغدر والخيانة، وهناك جثث تفوح منها رائحة المكر، وجثث تصدر منها رائحة الكفر. سرت إشاعة قوية بين الجثث أن لا أحد سيأتي ليخلصها من مصيرها الغامض، كل الجثث تنتظر وصول لا أحد. فكرت أنا في آدم الحارس.
لا تسألوني عن النساء، فلم أشهد لهن أثرا حتى كدت أنسى وجودهن، أو أني نسيتهن حقا. لقد كنت في جناح الذكور، رغم أن عضوي التناسلي كان مبتورا. كيف لم أطالب باستعادته. أهو أيضا يسري عليه ما يسري على الأحشاء والأسماء؟ لا أظن. لكن هذا ليس ما كان يشغلني ويشغل باقي الجثث، ما كان يشغلنا هو ما تردد عن عملية إعدام جماعي للجثث يهيأ لها بعد عصر يوم يقترب. كل جثة بدأت تفكر في خلاصها من الموت شنقا أو رميا بالرصاص. واهتدينا بشكل فردي إلى الانتحار بواسطة شم رائحة جثثنا.
كنت مزكوما فلم أشم رائحة جثتي، فتم إعدامي أكثر من مرة، شنقا ثم رميا بالرصاص، ثم بالكهرباء، وبتناول السم. بعدها صرت أشم رائحة جثتي وأموت كل دقيقة، وكلما تكررت عملية إعدام جثتي كانت تحيا في داخلي باقي الجثث. ومع تكرار عمليات الإعدام بدأت أفتح عيني جيدا، فرأيت عناصر كتيبة الإعدام، كانوا كلهم من الجثث. وأدركت أني أنا هو الحارس آدم، وأن اسمي لدى السلطات هو آدم كاشف الليل، وفي التنظيم السري يسمونني آدم الخباز.
في الليل عندما أكون قد فرغت من عملية إعدامي كان الموتى يتحلقون حولي يسألونني عن حر الموت شنقا، وعن سخونة الموت رميا بالرصاص، وصعقة الموت بالكهرباء ، وعن طعم مرارة السم القاتل. وعن درجات برودة ثلاجة الموتى بالمشرحة المركزية. ولأني أكون في حالة قصوى من الإعياء والموت فإني كنت أوزع عليهم نسخا مصورة بالفوطوكوبي من رواية "مشرحة بغداد" للعراقي برهان شاوي. وقد لاحظت أن الموتى بعد قراءتهم للرواية تصبح دماؤهم حارة ويستعيدون حاسة الشم ولا يعودون لسؤالي من أجل إشباع فضولهم.

الدار البيضاء/المغرب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي