الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسألة القبطية بين الطائفية و الثورة

علاء عوض

2012 / 10 / 10
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


"نشر هذا المقال فى أكتوبر 2011 عقب مجزرة ماسبيرو، وأعيد نشره الآن بعد مرور عام كامل على هذا المذبحة البشعة"

كانت مصر واحدة من البلدان التى لم يشهد تطورها الاجتماعى مسارا تاريخيا متجانسا بل خضعت لقانون التطور المتفاوت والمركب الذى يوصف حالة من التطور الاجتماعى والاقتصادى على درجة عالية من الارتباك والتشابك، ولم تكن عملية بناء الدولة الحديثة فى مصر مرتبطة بصعود طبقة رأسمالية ناضجة ومكتملة الملامح بما يسمح بخلق بنى سياسية وثقافية تتفق مع مصالحها الاقتصادية وقوانين السوق، بل على العكس تماما كان التشوه البنيوى الذى عانت منه الرأسمالة المصرية عنصرا فعالا فى مقاومة الحداثة من حيث محتواها الثقافى والفكرى فى الوقت الذى تم فيه اقحام أنماط من التحديث على أرضية شديدة التخلف. لم تكن محاولات بناء جيش وطنى فى عهد محمد على نتيجة لصعود شعارات قومية بما يتفق مع قوانين السوق ولكنه كان استجابة لمطامع توسعية لمحمد على نفسه وأسرته، فكانت السخرة هى أهم آليات التجنيد فى هذا الجيش الذى واجه مقاومة شديدة من الفلاحين وقتها، كما كانت كل محاولات التحديث الصناعى تدور فى نفس الاطار مما أدى الى هزيمة هذا المشروع. وكان استمرار أشكال التمييز الدينى ضد الأقباط فى ظل مشروع الدولة الحديثة هو الناتج الطبيعى لتلك الحالة المركبة من التطور التاريخى، فاستمر العمل بالجزية حتى تم الغائها فى عهد حكم سعيد، واستمر التمييز ضد الأقباط فى تولى المناصب القيادية فى الدولة والجيش.
كانت ثورة 1919 وما صاحبها من صعود شعارات الاستقلال الوطنى لحظة فارقة فى تاريخ العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر، فلأول مرة يشارك الأقباط فى فاعليات الثورة كمواطنين مصريين يعانون نفس هموم الاحتلال ونفس القهر الاجتماعى، وتتصدر الثورة شعارات مثل "الدين لله والوطن للجميع" و"يحيا الهلال مع الصليب" ويخطب القساوسة فى المساجد وشيوخ المسلمين فى الكنائس، وقد جاءت هذه الوحدة الوطنية بمعناها الحقيقى ردا على ادعاءات الاحتلال البريطانى بحماية مصالح الأقلية القبطية المصرية، لقد أدرك الشعب المصرى بمسلميه وأقباطه مؤامرة الاحتلال التى تهدف الى خلق حالة موازية للصراع داخل المجتمع وتجعلها بديلا عن الصراع الحقيقى فى مواجهة الاستعمار. والواقع أن الفترة ما بين 1919- 1952 كانت من أفضل الفترات فى تاريخ النزاعات الطائفية فى مصر، فلقد انخرط الأقباط فى الممارسة السياسية بعيدا عن صفتهم الدينية، وكانت نضالات الفلاحين والعمال والطلاب فى مواجهة الاحتلال البريطانى وفى مواجهة الاستغلال الرأسمالى تضم المسلمين والأقباط سواء بسواء، ونجح الأقباط فى الوصول الى مقاعد البرلمان عبر الانتخابات وليس من خلال المطالبات التى تكرس الطائفية مثل حصة للأقباط قى البرلمان، كما نجحوا فى تولى مقاعد وزارية. ولكن ورغم هذا التطور، ظلت الرأسمالية المصرية وتعبيرها السياسى الأكبر "حزب الوفد" تعانى من حالة التشوه البنيوى والتقاطعات العديدة مع كبار ملاك الأراضى الزراعية، مما أدى الى تأكيد عجزها التاريخى عن انجاز مهمات التحول الديمقراطى وبناء الدولة الحديثة، فعجزت عن تقديم حل حقيقى للمسألة الزراعية كما عجزت عن تقديم حلول جذرية للمسألة الطائفية وأبقت على أشكال التمييز ضد الأقباط فيما يتعلق ببناء الكنائس (الحفاظ على الخط الهمايونى وشروط العزبى باشا) وأيضا فى عدم توليهم بعض الحقائب الوزارية السيادية. ورغم أن الوفد لم يستخدم الدين فى ممارساته السياسية الا أن ظهور جماعة الاخوان المسلمين عام 1928 وتحالفها مع الملك ومع حكومة اسماعيل صدقى ضد الوفد ذو الميول العلمانية قد سمح باستخدام الدين لآغراض سياسية فى تلك الفترة وان كان لم يصل الى درجة عالية قادرة على احداث توترات طائفية ملحوظة ومتكررة.
اعتمد المشروع الناصرى فى جوهره على التهميش السياسى للجماهير الشعبية وتأطيرها داخل تنظيمه السياسى الواحد الذى يقدم اليها ما يجب أن تفعله دون النظر الى مطالباتها واحتياجاتها الحقيقية، كما اضطر هذا النظام ازاء فقدان الثقة فى قدرة الرأسمالية المصرية غلى تبنى وقيادة مشروع اقتصادى تنموى، الى الانابة عنها فى هذه المهمة من خلال مصادرة ممتلكلتها واستثماراتها واستئثار الدولة بهذا الدور. وبالتوازى مع المصادرة الاقتصادية نجح النظام الناصرى فى مصادرة الحياة السياسية بالكامل لصالح شعاراته الديماجوجية التى استهدفت تضليل الجماهير وحشدها لتأييده. والواقع أن النظام الناصرى لم يوظف الدين فى السياسة الا فى حدود تأكيد الهوية الاسلامية للقومية العربية، كما انبرى بعض من المشايخ فى الدفاع عن اجراءاته الاقتصادية التى أطلق عليها "الاشتراكية" وربطها باحكام الاسلام. غير أن أهم ما قام به نظام عبد الناصر فى سياق النزاع الطائفى فى مصر هو التعامل مع كتلة الأقباط من خلال مؤسسة الكنيسة، مما أدى بالكنيسة الى لعب دور سياسى يقوم على تقديم كافة أشكال الولاء للنظام فى مقابل الحصول على بعض المطالب القبطية مثل تصاريح بناء الكنائس وتعيين عدد من الأقباط فى مجلس الأمة (البرلمان). والأمر الهام فى هذا التحول هو أنه يشكل ردة الى مجتمعات ما قبل الحداثة ويكرس وجود المفاهيم الطائفية من خلال التعامل مع هذا الملف عبر المؤسسة الدينية، فبدلا من أن يكون النضال ضد أشكال التمييز الدينى جزءا من البرنامج الديمقراطى بمعناه الأكثر شمولية على المستوى الاجتماعى والسياسى، يتحول الأمر الى نزاع بين طائفتين على حجم مناطق النفوذ من خلال آلة الدولة. وبعد هزيمة المشروع الناصرى وتولى السادات الحكم والعودة الى سياسة الاقتصاد الحر لم تتغير علاقة الكنيسة بالنظام الحاكم، فكانت الكنيسة تضمن أصوات الأقباط فى الانتخابات لصالح النظام وتعبر له عن الولاء الكامل فى كل سياساته. ولكن التحول الأهم هو استخدام السادات للدين بشكل واسع فى مواجهة المعارضة اليسارية لسياساته لاسيما فى الأوساط الطلابية والعمالية، فاستخدم شعارات مثل "الرئيس المؤمن" و "دولة العلم والايمان" كما استعان بجماعة الاخوان المسلمين فى التصدى للاتجاهات اليسارية فى المجتمع من خلال اتاحة فرصة الحركة والتأثير أمامها فى المواقع الجماهيرية ومنابر الاعلام الرسمى للدولة. وتزامن هذا مع اتساع موجة الهجرة الى دول الخليج -خصوصا المملكة السعودية- مما نتج عنه انتشار للثقافة الأصولية الوهابية ونمو حالة من الاستقطاب الطائفى داخل المجتمع لا تخلو من مشاعر عدائية تجاه الأقباط. وقد شهدت حقبة السادات صداما هو الأول –وربما الأوحد- من نوعه فى التاريخ المعاصر بين النظام الحاكم والكنيسة تطور الى حد قيام السادات بعزل البابا شنودة وتحديد اقامته. ورغم أن الفترة الناصرية لم تشهد نزاعات طائفية عنيفة اتساقا مع حالة القمع الشديدة ومصادرة الحركة الجماهيرية التى مارسها نظام عبد الناصر، فقد شهدت فترة حكم السادات مصادمات عنيفة بين المسلمين والأقباط. ولم تكن العلاقة بين نظام مبارك وملف الأقباط مختلفة عن سابقيه –عبد الناصر والسادات- فقد استمرت علاقة الكنيسة بالنظام الحاكم فى تقديم الولاء مقابل بعض العطايا، ورغم ذلك فقد شهدت فترة حكم مبارك مصادمات عنيفة وعديدة بين المسلمين والأقباط شهدت سقوط العديد من القتلى من الجانبين وحرق لبعض الكنائس واعتداءات متكررة على ممتلكات الأقباط. وكان حادث العمرانية فى نوفمبر 2010 هو الحادث الأهم من وجهة نظر التحليل السياسى (رغم وجود أحداث أشد عنفا) باعتباره يمثل تحولا نوعيا فى النزاع الطائفى فى مصر، فهو الحدث الأول الذى كانت المواجهة فيه بين جماهير قبطية من جانب وبين الجهاز الأمنى للدولة من جانب آخر، أى أنها المرة الأولى التى تصبح فيه الدولة طرفا مباشرا فى مواجهة الأقباط.
والواقع أنه يجدر بنا عند مناقشة الملف القبطى فى مصر أن نتوقف عند بعض الحقائق، أولها أن هناك بالفعل تمييزا ضد الأقباط تمارسه أجهزة الدولة ويلقى بقدر من القبول من الشارع نتيجة لاتاحة الفرصة للمشاعر العدائية تجاه الأقباط كى تتواجد داخل المجتمع. وبالرغم من أن الأقباط فى مصر لا يشكلون تركيبة عرقية مختلفة عن المسلمين ولا يستوطنون مناطق جغرافية منفصلة بل على العكس فهناك حالة من الاندماج السكانى لاتقبل الشك، الا أن صعود الثقافة الأصولية الوهابية منذ سبعينيات القرن الماضى والتى قدم لها النظام الحاكم كل أشكال الدعم قد أدى الى ترسيخ حالة الاستقطاب الدينى التى عبرت عن نفسها فى أشكال حياتية مثل الملابس وأسماء المواليد، وقد ساعد هذا بالطبع على تغذية عناصر النزاع الطائفى. الحقيقة الثانية أن التركيب الطبقى للأقباط لا يختلف كثيرا عن المسلمين، وبرغم كل الدعايات عن حجم ثروة الأقباط واستثماراتهم التى لا تتفق مع نسبتهم السكانية فان الشئ المؤكد أن الغالبية العظمى من الأقباط هم من العمال والفلاحين والطبقات الشعبية وهم يعانون نفس هموم الفقر والبطالة وانهيار الخدمات العامة التى يعانيها غالبية المسلمين، ولم يكن غريبا أن تشهد الاضرابات العمالية والاحتجاجات الجماهيرية مشاركة واضحة للأقباط بحكم وضعهم الاجتماعى وليس بحكم ديانتهم. وثالثا، كانت المعالجات السياسية لتلك النزاعات من قبل النظام تتم على أرضية المؤسسات الدينية والأمنية واخراج المؤسسات المدنية لجهاز الدولة من المعادلة بهدف تكريس الجوهر الطائفى للنزاع مما يصب فى النهاية فى صالح النظام والطبقة الحاكمة.
كانت ثورة 25 يناير تمثل تحولا نوعيا فى علاقة الأقباط بالحياة السياسية، فقد وقفت الكنيسة الأرثوذكسية موقفا مناصرا لمبارك فى مواجهة الحركة الجماهيرية المتصاعدة والمطالبة باسقاطه، وبالرغم من ذلك كانت مجموعات كبيرة من الأقباط متواجدة فى اعتصام ميدان التحرير وتشارك بشكل فعال فى الفاعليات الثورية رغم ارادة وتوجيهات الكنيسة. كانت هذه البداية الحقيقية للأقباط للخروج من عباءة الكنيسة فى الممارسة السياسية والتعامل مع النضالات الاحتماعية والسياسية كمواطنين لهم حقوق يدافعون عنها ومطالب يناضلون من أجل تحقيقها. وبرغم اعتذار الكنيسة بعد الاطاحة بمبارك عن الموقف فى بيان رسمى، فان حالة الخروج عن الكنيسة استمرت فى اعتصام ماسبيرو الأول بعد مصادمات امبابة والثانى بعد أحاث المريناب فى محافظة أسوان. وكان استخدام سلاح اثارة النزاعات الطائفية من أهم المسارات السياسية للثورة المضادة بعد 25 يناير، وقد تجلى هذا منذ الأيام الأولى التى أعقبت الاطاحة بمبارك فى الاعتداء على كنيسة صول باطفيح ثم أحداث الاعتداء على الكنائس فى امبابة والمريناب، وكان الهدف من هذه الأحداث هو حرف مسار الصراع الاجتماعى والسياسى الدائر على أرض الواقع والذى قد يتخذ مسارات ثورية وجذرية تهدد مصالح الرأسمالية الحاكمة نحو استقطاب من نوع آخر بين طائفتين من الشعب على أساس دينى، وهو نفس السلاح الذى حاول أن يستخدمه الاحتلال البريطانى قبل قرابة قرن من الزمان. وقد كانت الاحتجاجات الجماهيرية فى محافظة قنا فى صعيد مصر ضد تعيين محافظ له تاريخ أسود فى جهاز أمن الدولة هى المشهد الأكثر وضوحا لهذا المسار بعد أن تم تصوير هذا الاحتجاج على أنه ضد تعيين محافظ قبطى والدفع بالتيارات السلفية الاسلامية لتزعم هذه الحركة الاحتجاجية بعد تفريغها من مضمونها الديمقراطى. وهنا تجدر الاشارة الى خطورة تناول هذا الملف على أرضية طائفية أو من خلال مؤسسات دينية، ان التمييز ضد الأقباط هو جزء من منظومة اضطهاد أكبر تمارسها الطبقة الرأسمالية الحاكمة ضد فقراء الوطن من عمال وفلاحين وعاطلين وغيرها من الطبقات والشرائح الاجتماعية المنهوبة، ولا يمكن فصل هذا التمييز عن التمييز ضد المرأة وضد سكان مناطق جغرافية بعينها مثل النوبة وسيناء. ان النضال ضد كل أشكال التمييز هو أحد المحاور الهامة فى البرنامج الديمقراطى الثورى وأحد المهام الرئيسية فى بناء مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية، وبالتالى فان انخراط الأقباط فى نضال اجتماعى وسياسى ضد كافة أشكال القهر الطبقى والاستبداد السياسى هو المسار الصحيح لمواجهة التمييز الدينى، وان الكفاح المستمر والدؤوب لاسقاط سلطة هذه الطبقة الرثة العاجزة عن تحقيق أى من مهامها التاريخية واقامة سلطة المنتجين فى مجتمع اشتراكى يتبنى بناء مجتمع ديمقراطى جذرى يحمى الحقوق الشخصية والمدنية والسياسية والاجتماعية للمواطنين ويفعل المشاركة الشعبية الكاملة فى الادارة والحكم ويحقق مشروع تنموى حقيقى تصب عوائده فى صالح الغالبية العظمى من فقراء هذا الوطن هو الطريق الوحيد للخروج من دائرة الاضطهاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تطبيق الجزية
طاهر النجار ( 2012 / 10 / 10 - 17:10 )
الأستاذ علاء عوض/ خالص الشكر على مقالتك التى تشرح لنا جزءاً من التاريخ المسكوت عنه، وقد قرأت فى بداية مقالك عبارة - فاستمر العمل بالجزية حتى تم الغائها فى عهد حكم سعيد - ، فهل معنى ذلك أن الأقباط المصريين كانوا يدفعون الجزية منذ عهد محمد على أم منذ بداية الدولة العثمانية؟ لأن أحداث التاريخ لا يتم روايتها حسب زمانها ومكانها وفى كثير من الأحيان يتم تزويرها لصالح الغالبية الحاكمة والمسيطرة .
أرجو أن أجد لديكم إجابة عن تلك الفترة التى كان جزء من مواطنى مصر يدفعون الجزية بأسم الدين والنظام الحاكم، مع خالص الشكر.


2 - رد على الأستاذ طاهر النجار
علاء عوض ( 2012 / 10 / 10 - 18:40 )
الأستاذ طاهر، فى الحقيقة أن تطبيق الجزية على الأقباط فى مصر قد بدأ تطبيقه قبل حكم محمد على وأيضا قبل الغزو العثمانى، وربما بعد دخول الاسلام بوقت قصير، واستمر تطبيقه الى أن تم الغائه فى زمن حكم الخديو سعيد

اخر الافلام

.. الرئيس الأمريكي يهدد بإيقاف إمداد إسرائيل بالأسلحة إذا اجتاح


.. طائرة شحن من طراز بوينغ تهبط بدون عجلات أمامية في اسطنبول




.. سيفا الأمير عبد القادر المسروقان يعرقلان المصالحة بين الجزائ


.. صحيفة إسرائيلية: تل أبيب تشعر بالإحباط الشديد إزاء وقف واشطن




.. مظاهرة مرتقبة رفضا لمشاركة إسرائيل في مهرجان غنائي بمدينة ما