الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً

سميح مسعود

2012 / 10 / 11
الادب والفن


" … كنت أعتبره أستاذا ً لي اّ خذ برأيه وكأنني ما زلت تلميذه على مقاعد الدراسة ، وأنا الأستاذ الجامعي .”

بهذه الكلمات الجميلة المؤثرة عبر عيسى بُلاطه عن علاقته بصديقه وأستاذه جبرا ابراهيم جبرا ، في مقدمة كتاب عنوانه " التجربة الجميلة … رسائل جبرا ابراهيم جبرا الى عيسى بُلاطه .”

قرأت هذا الكتاب بتمعن ، اكتشفت فيه أواصر صداقة قوية بين الإثنين ، امتدت لما يزيد عن نصف قرن ، بدأت في رحاب القدس ، واستمرت في منافي الشتات ، فتحت لهما نافذة واسعة شاسعة على ألوان عديدة من المعرفة والاعمال الثقافية الكبيرة بشتى مجالاتها .

يقول بُلاطه في معرض حديثه عن رسائل جبرا التي نشرها في هذا الكتاب أنها على درجة عالية من الأهمية ، لما فيها " من إشارات إلى مؤلفات جبرا ، ومراحل من سيرته ، ولما فيها من ذكر لشعراء وأدباء تهم القارئ العام ، وكذلك الباحث في أدب جبرا والدارس لحياته .”

بعد اطلاعي على هذا الكتاب ترسخت لدي رغبة للتعرف على عيسىى بُلاطه ، ورغم أنني أعيش في مدينة مونتريال الكندية ، نفس المدينة التي يعيش فيها ، إلا أنني لم اتمكن من اللقاء به ، ولهذا اكتفي الان بمتعة الكتابة عنه بدلا ً من اللقاء به والتعرف عليه .

عندما فتحت الصفحة الأولى من سيرته الذاتية المدرجة في نهاية كتبه ، وجدت أنه ولد في مدينة القدس عام 1929، تلقى دراسته الابتدائية والثانوية فيها ، ودرس في جامعة لندن وحصل منها على درجة الدكتوراة في الأدب العربي عام 1969 ، علم في معهد هارتفورد في الولايات المتحدة ( 1968 -1975 ) ، ثم عمل في جامعة ماكجيل الكندية الشهيرة في مونتريال ، أستاذا للأدب العربي في معهد الدراسات الإسلامية ، يُشرف على أطروحات الماجستير والدكتوراة في حقل الأدب العربي الحديث والفكر العربي الحديث والدراسات القراّنية ، وقد امتد عمله في هذه الجامعة العريقة من 1975 الى 1999 ، ثم تقاعد ، وواصل العيش في مدينة مونتريال حتى الان .

وتشير سيرته الى مؤلفات كثيرة نشرها في مجالات النقد والقصة والرواية والترجمة ، فضلاً عن نشره مقالات متميزة في مجالات عديدة باللغتين العربية والانكليزية ، نشرفي بيروت أثناء إقامته وعمله في القدس أول كتاب له في عام 1960 بعنوان " الرومنطيقية ومعالمها في الشعر الحديث " ، كما نشر أول مقا ل له في عام 1961 ، بعنوان " فدوى طوقان ومشكلة الموت " في مجلة الأفق الجديد التي كانت تصدر في القدس ، بعد ذلك ألمت به محنة من محن الوطن ، إحتُلت مدينة القدس وما تبقى من فلسطين علم 1967 ، وهاجر على أثر ذلك ، استقر في الولايات المتحدة ثم في كندا أستاذا ُ للأدب العربي ، وصارت أغلبية كتاباته تنشر باللغة الإنجايزية في سعي من ناحيته لتعريف الغرب بالأدب العربي وثقافته ، كما واصل علاقاته في الوقت نفسه ببعض المجلات العربية ، وصدر له فيها مقالات أدبية ونقدية كثيرة .

وتشير سيرته أيضا ًإلى نشره اكثر من خمسة وسبعين مقالاُ بالإنجليزية والعربية والفرنسية في المجلات العلمية المتخصصة ، بالإضافة الى أكثر من مئتي مراجعة لكتب في المجلات العلمية والعديد من المقالات عن الأدب العربي والأدباء العرب في الموسوعات الإنكليزية المختلفة ، كما له إنجازات في مجا ل الترجمة ، إذ ترجم إلى الإنكليزية سبعة كتب مهمة ، لأحمد امين ، وإميلي نصر الله ، وجبرا ابراهيم جبرا ، ومحمد برادة ، وغادة السمان ، وترجم أيضا ً عدة كتب عن الإنكليزية الى العربية ، ونقل عددا ً كبيرا ًمن قصائد الشعر العربي الحديث الى الإنكليزية نشرت في مجموعات مختلفة منها مجموعة سلمى الخضراء الجيوسي عن الشعر العربي الحديث ، ومجموعتها الفلسطينية وغيرهما .

وكان أيضا ً محررا ً لمجلة " ذا مسلم وورلد " المعروفة مع الدكتور وليم بيلفلد ، من 1970 الى1980 ، ومحرراً لمجلة " العربية " من 1978 الى 1982 وغيرهما ، وحرر عددا ً خاصا ًمن مجلة " أورل ترديشن " عن "الأدب العربي الشفوي" سنة 1989 ، وعددا ً خاصا ً من مجلة " موندوس أربيكوس " عن " الرواية العربية منذ عام 1950 “ وذلك سنة 1992 .

وهكذا مرت السنين في مغتربه وهو يبحث ويكتب وينشر ، له نتاجات كثيرة نوع َ فيها بين مجالات كثيرة ، يلاحظ فيها انعكاسات أهتمامه الزائد بلغته العربيه ، وموروثه الثقافي العربي ، وامتداد صلته العاطفية الى فلسطين وكل الوطن العربي ...إتسع قلبه في مؤلفاته الى كل ما هو عربي ، وأزال فيها الحاجز الذي يضعه كثير من الكتاب أمامهم في مجا ل الأديان ، وبهذا تمكن وهو المسيحي المؤمن بدينه أن يضع كتابا ًعن الإعجاز في القراّن قل مثيله في المكتبة العربية .

إن موقع بُلاطه ومكانته في الأدب العربي يتحدد في كونه إنحاز مبكرا ًللحداثة ، وهو ما جعله يختار بدر شاكر السياب ، أحد رواد الشعر الحديث لموضوع أطروحته لنيل درجة الدكتوراة في جامعة لندن ، وقد طلب من صديقه جبرا الذي كان يعيش في بغداد أن يمده بمعلومات عن الشاعر العراقي ، ورد عليه في الرسالة الأولى المسجلة في الكتاب الذي ذكرته أنفاً : " … سرني أنك مزمع على إعداد رسالة للدكتوراة حول الصديق المرحوم بدر .لا شك أنه ، لو كان حيا ً ، لفرح بأن يعلم أن أديبا ً فلسطينيا ًيسبق إخوته العراقيين إلى تقييمه وتقديره علميا … " واقترح عليه جبرا في نفس الرسالة ، أن يزور العراق للحصول على المعلومات اللازمة لاعداد أطروحته عن السياب .

و بالفعل زار بُلاطه العراق ، وأجرى دراسة ميدانية واسعة عن بدرشاكر السياب ، زارأهله وتعرف عليهم ,أخذ منهم ما احتاجه من معلومات ، وتعرف على أماكن نشأته الأولى في جيكور وأبي الخصيب والبصرة ، وعلى حياته الدراسية في بغداد ، وعمله في العراق ، وزواجه وأولاده ، وزياراته إلى لبنان ، وإقاماته القصيرة في إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها ، و مرضه ووفاته في الكويت ، وتمكن بذلك من إعداد أطروحة فريدة في تفاصيلها الموثقة ، نال بها درجة الدكتوراة ، وطبعها بكتاب ، تم طباعته ست مرات متتالية أخرها عام 2007 .

وقد كتب الشاعر يوسف الخال على الغلاف الأخير للكتاب : “ نال الأستاذ عيسى بُلاطه ، سنة 1969 ، درجة الدكتوراة من جامعة لندن على هذه الدراسة الشاملة التي وضعها عن بدر شاكر السياب ، فجاءت تلقي ضوءا ً ساطعا ًعلى حياة هذا الرائد الكبير في الشعر العربي المعاصر ، وهي دراسة علمية موضوعية أنفق المؤلف في وضعها وقتا ً طويلا ً ، وبذل كثيرا ً من الجهد ، فلم يترك مرجعا ً إلا قصده ، في سبيل أن يجمع شتات موضوعه في سيرة متواصلة تحيط إحاطة وافية بحياة السياب وشعره ، وهكذا أصبحت المصدر الرئيس ، ربما لسنوات عديدة مقبلة ، للدارسين والباحثين من طلاب الأدب العربي الحديث والمشتغلين به . “

نعم ، يتسع هذا الكتاب فيشمل كل شاردة وواردة عن السيلب ، يلاحظ ُالدارس فيه أن صفحاته مليئة بحقائق كثيرة موثقة ، ومؤلفات ومقالات بلغات عدة ، ومعلومات مأخوذة من معارف السياب واصدقائه ، ومن كتاباته التي سجلها في مراحل حياته المختلفة ، ومعلومات مهمة بتفصيل واف عن تطور شعر السياب " من الرومنطيقية إلى الاشتراكية الواقعية ، ثم إلى المرحلة التموزية فالمأساوية ، بدءا ًمن نظمه الشعر العمودي في صباه ، وانتهاء بكتابة الشعر الحر في شبابه ، واعتماده الصورة وسيلة للتعبير عن أفكاره وعواطفه ، ثم توصله إلى الأسطورة إطارا ً لضبط فيض الصور واحتوائها في وحدة شاملة في قصائده . “

إضافة الى معلومات أخرى ينطوي عليها الكتاب ، تتصل بالجوانب السياسية في حياة السياب ، التزامه بالفكر الشيوعي في بدء نشاطه السياسي ، واعتناقه الفكر القومي بعد ذلك في سنواته العشر الأخيرة ، وتأثيرذك على شعره ومسار حياته .

هذه بعض الملاحظات العامة عن الكتاب ، ويمكن للقارئ المهتم ان يجد فيه المزيد من التوسع في موضوعات أخرى كثيرة عن السياب وشعره وظروف حياته ومجتمعه ، تثبت فرادة إسهاماته في شعر رواد الحداثة وفي خزان الثقافة العربية .

وبالنظر في إنجازات بُلاطه الأخرى ، يلاحظ اهتمامه بالنقد الأدبي ، و قد اطلعت على كتابين له في هذاالمجال ، أولهما ، كتاب بعنوان " نافذة على الحداثة ، دراسات في أدب جبرا ابراهيم جبرا " نشره بعد رحيله عام 2002 ، وقد تناول في هذا الكتاب مؤلفات صديقه بالتحليل والدراسة في خمس مقالات نقدية ، وبين دوره الفعال في إرساء الحداثة في الأدب العربي المعاصر ، وثانيهما ، كتاب بعنوان " صخر وحفنة من تراب " نشره عام 2005 ، يشتمل على مقالات في النقد الادبي ، تحت العناوين التالية : الحداثة في الشعر ، الشخصية القومية في الشعر العربي المعاصر ، أضواء على حياة السياب العاطفية ، الكركدن المحاصر : دراسة حول توفيق صايغ ، الصورة والفكر في شعر أدونيس ، أودونيس والمتنبي ، هشام شرابي بين الجمر والرماد ، إشكالية نقد الرواية .

وثمة جانب أخرمهم في إنجازات بُلاطه في مجال الأدب ، تشتمل على قصة قصيرة بعنوان " البحث عن سليمة " نشرها في مجلة اّفاق عربية في بغداد (1989) . و قصص أخرى قصيرة عديدة نشرت بالانكليزية ، وله رواية بعنوان " عائد الى القدس " نشرت في بيروت ( 1998 ) .

أجده في روايته يحمل القدس وشما ًفي عينيه ، لا تفارقه ، تتسع أمامه على امتداد المدى ، يمزج حروفه بمنابع صورها الحية المتدفقة من فكره وأعماق نفسه الداخلية . استحضر القدس في روايته ، ثبت صورة الاقصى على غلافها ، مزج معها عدة مدن من مدن الشتات ، لكنه أبقاها زهرة المدائن عالية فوق عرشها ، وجعل شخوص روايته يفكرون بها ويرددون اسمها في قالب ملموس بتعبيراتهم وألفاظهم على اتساع صفحات الرواية . وفي نهايتها أنقذ أحد شخوصها واسمه " فؤاد " من منافي الغربة وارجعه اليها ، وأنهى الرواية بكلمات رددها

" فؤاد " بصوت عال :

" أنا عائد الى الوطن ، أنا عائد الى القدس " .

ومن إنجازاته كتابه الذي ذكرته أنفا ً " إعجاز القراّن الكريم عبر التاريخ " ويمكن اعتباره من الكتب المهمة في هذا المجال ، لأنه يشتمل على عرض تاريخي كامل للإعجاز القراّني ، من خلال استعراض كتابات أهم الذين كتبوا عن الإعجاز وطوروا مفهومه عبر العصور ، منذ القرن الثالث الهجري حتى الوقت المعاصر ، وأظنني لا أغالي القول إذا قلت بأن بُلاطة كمسيحي يضرب قصب السبق في هذا المضمار ، ويبلغ القمة بفضل علمه الغزير ، وسعة اطلاعه ، وإلمامه الشامل بالتراث الفكري لدين غير دينه . وكتابه هذا أفضل رد على دعوات التكفير والإلغاء التي يطلقها دعاة الفكرالظلامي ، لبث التفرقة بين أبناء الوطن الواحد ، والثقافة الواحدة .

هذه بعض الانجازات التي حققها عيسى بُلاطه عبر مسيرته الثرية ، إضاءات نشرها على اتساع العالم ، ستبقى دائمة على مر الأجيال .

ولإنجازاته المتميزة ، نُشر سنة 2000 كتاب لتكريمه ، اشترك فيه عشرون باحثا ًفي الأدب العربي من أصدقائه وطلابه السابقين في الوطن العربي واوروبا والولايات المتحدة وكندا ، وقد حرره د. كمال عبد الملك و د.وائل حلاق ، ونشرته باللغة الإنجليزية دار بريل في هولندة .

كما كُرم ايضا ًمن قبل جمعية دراسات الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية ، بمنحه في سنة 2004 " شهادة المربي المرشد" على جهوده المتميزة في تخريج أفواج متتابعة خلال نصف قرن من دارسي الأدب العربي ومحبي الثقافة العربية ولغتها .

والسؤال الذي أطرحه الأن هو : هل للجامعات الفلسطينية أن تُكرم الدكتور عيسى بُلاطه الذي أثرى الثقافة العربية بقلمه وفكره ، وعرف الغرب بالثقافة العربية ولغتها ، وعانى عذاب البعاد عن القدس وفلسطين ؟

إنه نفس السؤال الذي سجلته من قبل بشأن تكريم قامات ثقافية فلسطينية كبيرة أخرى ، مثل جبراابراهيم جبرا و نقولا زيادة وإحسان عباس .

أمل أن ينالوا كلهم حقهم من التكريم في فلسطين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في