الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة من ألف ليلة وليلة حكتها طيور دجلة

فرات المحسن

2012 / 10 / 11
الادب والفن


في البدء كانت الفكرة

هل كان يخطر في بال السيدة المهندسة بسعاد عيدان أن يؤل حال فكرتها الأولى لمثل ما حدث يوم السبت 6 / 10 / 2012 ، ذاك السبت الخريفي بنداوة برودته يمسد وجوه الجمهور وهم يتدفقون لحضور مهرجان فرقة طيور دجلة الموسوم بألف ليلة وليلة الذي تقيمه على أعرق قاعة مسرح في العاصمة ستوكهولم المسماة سودرا تياتر أي المسرح الجنوبي بهيكله المهيب ومدرجاته وديكوره الداخلي الخلاب ومقاعده الـ 414 الحمراء المخملية، هذا الصرح الذي يعود بنائه إلى عام 1852 حيث انتصب وسط العاصمة ستوكهولم وفي قلبها بالذات منطقة سودرمالم. ومنذ عام 1997 أصبح جزءاً من الحركة الشعبية وملتقى لتبادل الخبرات الإبداعية في المسرح والموسيقى والحوارات الثقافية. على قاعة هذا الصرح الثقافي وفي ذاك اليوم الخريفي تبجل أسم المرأة العراقية مثلما أعلي شأن الفن والثقافة العراقية وتبرج وجه العراق الناصع مبعدا عنه وشاح الظلمة.
يوم كن تسع لا غير، نسوة ينتمين لجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم سعين لتبني فكرة السيدة بسعاد لجعل أنشاد التراث الغنائي العراقي مهمة بعيدة عن الإسفاف والتطريب ولأجل غاية مبجلة تدفع لتقديم المرأة العراقية في الغربة كنموذج للنسوة العراقيات القويات والمجدات وأن يكون مشروع الفرقة داعما للأمومة والطفولة وضد العنف وتهميش دور المرأة العراقية. التجربة الأولى لمجموعة لم يكن لهن علاقة بطرب وغناء،جميعهن موظفات وعاملات وتربويات، مهيبة كانت طلتهن، أنشدن وكن يرتدين ( الهاشمي ) في أول ظهور لهن ضمن احتفالية مهرجان أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم والذي يقيمه سنويا نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي. كان ذلك العرض عام 2004 قدمن فيه بقيادة الفنان عبد النور لوحة زاهية مبهرة اخترقت عالم غربتنا بدفيء كان له نكهة وطعما مختلفا عن وقع أيامنا، وكان ذلك الحدث مفاجأة للجميع فضجت القاعة استقبالا لوقع إنشاد لم يكن عاديا بجميع المقاييس.
تقلب الحال وكانت ومضاته مثل طيف قوس قزح وبدت مسيرة الفكرة الأولى تتلمس طريقا جديدا، طريق بحجم قلوب جاليتنا التي احتضنت التجربة. جميعا شغفنا ورحنا نترقب تلك الخطى وهي تصعد نحو الذرى بثقة وبسالة ويقين، وكنا نتلهف للقاء جديد وترقبنا ولهفتنا لا تخلو من مشاعر الخوف والتوجس من أن تحبط التجربة وتوأد الفكرة وتذهب بعيدا عن سماء غربتنا تلك الوجوه البشوشة الباسمة ولا نجد أخواتنا وحبيباتنا في نوارس دجلة وهي التسمية الأولى للفرقة يشدون من جديد، أن لا نراهن وقد عدن ليصدحن أملا وفرحا وبهجة ووطنا ومحبة في وحشة أماسينا المثلجة.
على قاعة شيستا ترف التقينا من جديد مع تلك الفرقة، أنه مهرجانها الخاص الأول وكان تحت شعار لننشد للحب للسلام وضد العنف والتمييز الممارس ضد المرأة في العراق. أرتفع العدد ليبلغ أكثر من عشرين امرأة بقيادة جديدة مثلها مايسترو موسيقي يتمتع بدربة ودراية فنية عالية، حبه وتعلقه بالموسيقى وخبرته التدريسية والعملية جعلته يرى في تلك المجموعة النسوية مجالا رحبا يلبي طموحه الفني ويبعد عن روحه وحشة الغربة وألم الانقطاع عن عالم الإبداع الفني في وطنه الذي كان قد شيد فيه مجدا موسيقيا مذ كان شابا صغيرا يافعا. مايسترو بروح شغوفة تتمسك بيقين إن الحياة بدفقها وغناها وحيويتها لن تكون غير صحراء مجدبة إن خلت من موسيقى ونغم يزخرف بفرشاته وجهها ويوشم جبهتها بفرح ألوان تتهادى مثل موجات نهر وتفوح كضوع نسائم غابات. قيادة المايسترو علاء مجيد بخبرته ومهنيته كانت نقلة نوعية كبيرة للفرقة بكل ما تعني كلمة التغيير من زخم وحيوية وحرفية.كانت جعبته مليئة مترعة بخفايا الفن العذب فجاد بمكنوناته ليعطي الفرقة لوحات مبهجة مذهلة نشهد أنه كان سخيا جدا فيها لأجلنا نحن العراقيين في المهجر.
كان وقع حفلها الرسمي الأول بقيادة المايسترو علاء مجيد قد أعلن وبشكل حاسم عن ولادة وتأسيس جديد لفرقة وضعت أقدامها على خط البداية الصحيح. وبرغم إن جميع عضواتها ليس لهن علاقة بالفن فهن مربيات فاضلات ولديهن مسؤولية عائلية ليست بالهينة، وهن نسوة يمتهن مهن لا تمت لعشقهن الموسيقي بصلة وينحدرن وتلك ميزة لها وقعها ودلالتها من جميع قوميات وطوائف وشرائح الشعب العراقي دون استثناء. قلوبهن الطافحة بالشوق والمترعة بالأمل ومحبة العراق وتراثه جعلهن يجددن في أرواحهن وأرواحنا وحياتنا ذاكرة العراق بأزقته ورياحين بساتينه وضجيج حاراته ومدنه الفسيحة وطين الشواطئ ونسمات العصاري ودروب العشق المبتلات بأوجاع ولوعة قلوب المحبين. سرنا الهوينى مع أصواتهن نتلمس خطواتنا ونعيد تركيب صورة الوطن الذي ينوء به القلب ويبتلى بأوجاعه، ونحن وهن ونغم أنشادهن وحركات الأيادي وأرديتهن الموشاة بالكلبدون كنا نردد سوية..
( حامل الهوى تعب يستفزه الطرب ... إن بكى يحق له ... ليس ما به لعب ) .حقا ليس في غربتنا ما هو لعب وكل ما يعني العراق تستفزنا حلاوته وطراوته مثلما يستفز في مآقينا الدمع ويعتصر القلب ألما وحسرة لربوع عفناها دون جناية وذنب سوى هوانا وتسور قلوبنا بعشق أرض سقتنا أول قطرة ماء وأطعمتنا كسرة خبز مذاقها كان شهدا.
السبت 6 / 10 / 2012 يوم جديد لحفل فرقة طيور دجلة التي اتخذت أسمها الجديد وبإدارة جديدة على رأسها سيدة مثابرة طيبة مجدة، حتما لا تختلف عن الأخريات ولكن صبرها وتفانيها وبسالتها يجعلنا نشهد بأنها كانت حاملة للراية وعاملا مهما في جعل مسار الفرقة يتهادى سلسا طيعا يقفز مختالا من نجاح نحو أخر، أنها سيدة الطيبة الخجولة سهير بهنام وبرفقة صاحباتها اللواتي جاوزن رقم الثلاثين يحملن زوادة من زنابق يطشن وريقاتها فوق عيون وعند أنامل أبناء جاليتنا العراقية ويستحضرن لنا حقائب من حرير محملة بأغان مضمخة بنقيع ورود وطن تتملاه السماء بحسد، ونترقبه نحن بحسرة ووجع. نحن مجانينه نتلوه حرفا ثم حرف، نحبه مثل أب هجرنا وأذاقنا مر العذاب وتلذذ بفواجعنا، نخاصمه ونلعنه، نشتمه ونبكيه، ولكنه يبقى هو الأب الذي وهبنا نعمة الحياة ونعمة أن نعشقه بهوس المجانين، وهو من نسج أخيلتنا وبارك فينا أول صرخة وحرف نطقه اللسان. أبانا العراق مهما جرح أو أنكر ،نعشقه ونكتفي، ومن الحب ما قتل.. سلام على عهد الصبابة والصبا .... وما زال صباً بالأحبة والهاً ... إلى أن حكاه دمعه فتصببا...تبجلت يا عراق في كل حروف ننطقها وكل لحن ترصع به جبهتك بناتك الوفيات لأسمك بزهورهن الليلكية.

السبت 6 / 10 / 2012 نسائم الشتاء تتختل لتلتهم بقايا ليلة خريفية ولكن اللقاء بحفل فرقة طيور دجلة الرابع يدس الدفء بالأجساد. العيون تتوسل الستارة الثقيلة بألوانها الداكنة كي تفصح عن ما يختبئ ورائها. أبنتنا السامقة بوجهها السومري ثبات هداد أول من طل علينا، قمحة من ارض العراق جاعلة الحرف يتقدم ليعلن عن منهاج مترع بشرانق الحرير. أغان وإنشاد لفرقة طيور دجلة، رقص فلكلوري لفرقة أنكيدو ومن ثم لقاء بالمقام العراقي مع سفيره القارئ حسين الأعظمي، إذن هناك حفل مترع يخبئ النجوم والرياحين في خرجه السحري.
هناك في الأعلى قريب من سقف المسرح وضعت لوحات تشكيلية للقيثارة البابلية وعشتار والملوية والمسلة، لوحات تمجد العراق بموروثة العتيد القادم من تخوم العصور السالفة، دقيقة كانت ملامح اللوحات التي رسمتها أنامل الفنانة التشكيلية المبدعة سمية ماضي، وكانت اللوحات أيضا لمسة ذكية في تراتيبة أعداد خلفية العرض، فبدت وكأنها نياشين أو أوسمة أو حتى قلادة يتوشح بها المسرح مثلما صدر العراق منذ الأزل.
وصلة موسيقية لمجموعة من الموسيقيين بقيادة الفنان المبدع محمد حسين كمر عازف الربابة ليبدأ بعدها الظهور الحي لفرقة طيور دجلة. تقدمن واثقات الخطو يمررن بثيابهن المطرزة كأنهن ياسمينات تختال عند حوض ماء زلال. شتان بين أن تسمع وأن ترى، تلك الخاطرة ومضت في بالي عند رؤيتي للهاشمي، سمعت عنه ولكن حين رأيته بهرت أيما انبهار، هاهي المبدعة سمية ماضي تفرض علينا مرة أخرى مشاركتها فرحها الخاص حين وضعت لمساتها الطرية الشعرية رسما فوق الرداء الأسود الهاشمي بنماذج القيثارة والزقورة والملوية وعشتار وقلعة إربيل وحمورابي، ولكن ما كان يمجد الوطن نخلته السامقة التي وضعت في مقدمة فستان الهاشمي لتبرز معلنة عن الانتماء للعراق وفي شرح موجز تحدثت ثبات عن الهاشمي وكيف تم إعداده ومن نفذ ووضع تلك الرسوم والنخلة المبجلة فوق الرداء. عرفناها مبدعة بهذا اللون من الفنون، الرسم على القماش، أنها المغربية المجبولة بنقيع برتقال العراق، أبنتنا دليلة بن وطاف، خزانة طيبتها تنسج في كل ضربة فرشاة عقود لؤلؤ وفيروزا حبا للعراق وأهله.
لحظتها ذهلت وأمتزج الهاشمي بوجوه النساء النظرة الباشة. عرشن أمام ناظري مثل ياسمينات يتماوجن مع نسائم الصباح. صدفات يلتمعن مع الضوء المبهر الساقط من أعلى المسرح. لم يكن في القاعة من أحد سواهن، لم اسمع سوى هسيس سعف نخيل العراق تداعبه نسائم الصباح، تباركت يا وطني بنسائك، نجومك اليوم ردائهن من طيوبك ووجوههن مصابيحك. خمس وثلاثون قمر يسبحن أمامي في غيمة شفيفة، بريقهن المفضض يطغي على كل شيء، لحظتها ساورني شعور أن أكتشف ما اعتراني من بهجة، ألتفت إلى الخلف نحو القاعة التي ضجت بجمهورها فوجدت الدهشة والفرح يغمران مثلي الجميع.
مع أولى حركات اليد المشدودة المتوترة للمايسترو علاء مجيد وانطلاق الشدو الرباني لفرقة طيور دجلة شعرت بأن قصة النجمة التي عشقت القمر وتولهت حبا به كانت قصة حقيقة وما كان للخيال فيها غير فصول مزهرة تشعل في أرواحنا وهج محبة وتثري أرواحنا بروايات عن بسالة وقوة شكيمة وعناد وإصرار لا حدود لها، عن حب لا حدود له وليس للكتب والروايات أن تستوعبه.
كيف تسنى لهذا الجوق الكورالي البعيد كل البعد عن عالم التطريب والغناء الغور في مبادئ أقسام التون وما الذي جعله يحفظ درجات السلم الموسيقي ويجيد سماعها ونطقها ومثلها النغم والمقام والإيقاع، دهشة تنتاب المرء حين يستمع لذبذبة الأصوات المتهادية بسلاسة ورهافة النطق بالحرف والجملة الموسيقية دون أن تتلقف أذناه نشاز أو هنة، صعودا كان لنغم أو هبوطا. في تشنج واهتزاز جسد المايسترو علاء مجيد وتصبب قطرات عرقه ومن خلال حركات أيادي النساء وتعابير وجوههن نعرف أن الحدث أكبر من أن يروى أو يكون عابرا ولن ولا يمكن أن يعد تجربة عادية لفريق عمل قدم ما استطاع عليه ومضى راضيا.لا تسألوا عن الحدث فأنتم رأيتم أناقة العرض وعطايا النسوة الثر وشدوهن المتناسق العذب وقلق الجسد الذي ينتفض بحركاته أمامنا وهو يدوزن إيقاع الكلمات والحرف الموسيقي ويؤشر لأخواته أي درب في عالم الموسيقى يسلكن تلك اللحظة. اهتزت أركان مسرح الجنوب تلك الأمسية من شدة رهافة الإحساس وصدق المشاعر بانتقالات الكلمة والنغم التي راحت من خلاله نسوتنا يطشن الشذا في قلوبنا من عطر وطن أوجعنا فراقه.
تبارك جهدكن وبورك مشروعكن وبوركت كل كلمة قدسية تفوهتن بها مجدت وطنا وضمدت جرحا، بورك صنيع من قاد هذا الفصيل الباسل نحو كل هذا العطاء الثر والرائع. ننحني لمن اشرف على التهيئة والإعداد والمشاركة في مهرجان ليلتنا التي كانت بحق ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د


.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل




.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف


.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس




.. أحمد فهمي عن عصابة الماكس : بحب نوعية الأفلام دي وزمايلي جام