الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سحر السخرية المصرية

محمد حسن عبد الحافظ

2012 / 10 / 11
كتابات ساخرة


طلبت إحدى الصحافيات في إحدى الصحف (لا ذكر لاسم الصحيفة عندي بعد اليوم) الكتابة في موضوع الأمثال الضاحكة، فكتبت:
ــــــــــــــــــــــــ
استقر النظر المعرفي إلى "المثل الشعبي" بوصفه جنسًا أدبيًا شفهيًا ذا خصائص لسانية ومقومات جمالية. وما يلفت اهتمامي هو محتوى شكل المثل؛ أي تحليل قيمه الجمالية والاجتماعية في آن معًا. فالمثل الشعبي نوع أدبي كاشف عن شمائل المجتمع وطرائق عيشه ومختلف معارفه وعلومه ووجوه تفاعل أفراده مع الطبيعة المحيطة بهم. وفي الوقت نفسه، هو جنس أدبي شعبي ذو خصيصة فنية تمنحه كينونته، فالمثل الشعبي كثيف للغاية – أو قل: فقير جدًا - على مستوى الدوال اللغوية، بينما يتمتع بثراء واسع على مستوى الدلائل والدلالات الاجتماعية، مما يجعل الوعي بـ "سياق" أداء المثل شأنًا استراتيجيًا لا غنى عنه. السياق هو الموقف الذي يضرب فيه المثل، فيفجر الدلالة، ويحقق المفارقة. قد تنتج هذه المفارقة – في عدد لا بأس به من الأمثال الشعبية - قيمة ساخرة من السياق نفسه، لكن السخرية هي في حقيقة الأمر قناع للحظة إنسانية صعبة أو مرَّة أو مأساوية. فلم يبدع الناس الأمثال للتعبير عن السخرية، أو قصدًا للإضحاك، حيث اخترعوا النكتة من أجل الوصول إلى هذا الهدف ببراعة.

النكتة وظيفتها تفجير الضحك، والنكتة هي فن البلاغة الساخرة بامتياز، والنكتة هي التي تخترق المحظور في الجنس والدين والسياسة، مما جعل للنكت حضورًا مركزيًّا في حياة الناس، في جلساتهم وأسمارهم وأعمالهم، وفي علاقاتهم السرية، النكتة تعبير عن الاحتجاج بالسخرية على اختلال الأوضاع الاجتماعية والعائلية والسياسية، وتعبير عن مقاومة هذه الأوضاع والصبر عليها حتى يلفظ الاختلال والظلم والتمييز والتعصب والتسلط أنفاسها الأخيرة. المصريون بارعون في إنتاج هذا الفن، وبارعون في أدائه، وبارعون في اختيار لحظة انتشاره ولحظة خفوته، الشعب المصري مثلٌ بارع على قوة السخرية، وعلى سحرها النافذ في الوجدان الجمعي. كنا نظن أن السخرية المصرية محض تسطيح للدولة العميقة، أو هروب من الواقع المختل والتاريخ الثقيل، فإذا بنا نكتشف أن السخرية سلاح فريد من نوعه، تخصص المصريون في تصنيعه، انظروا ماذا فعل المصريون في ثورة يناير، لقد ثاروا بالسخرية المُرَّة من سنوات عجفاء، إن لم تكن عقودًا طويلة من الإجحاف مرت على المصريين. عندما طال تجمعهم الغاضب في الميادين بأجساد معرضة للقنص، كتب أحد الشباب على مساحة جسدية بين الرأس والفرج: "منك لله الورق خلص. ارحل". وكتب آخر: "ارحل عاوز استحمى". وأخرى: "ارحل عاوزه أتجوز". مئات من العبارات الساخرة المكتوبة على الأجساد وعلى الأزياء وفي اللافتات.. وانبرى عدد من الشباب يجذبون جمهور الثورة في الميادين إلى حلقات فرجة على عروض أدائية ساخرة، كشاب يتقمص دور مهراجا يعلق على أحداث الثورة المصرية ومطالبها، قاصدًا إحداث مفارقات صوتية ولغوية، ويقف شاب آخر خلفه متقمصًا دور المترجم والمفسر لمفردات المهراجا، والمتفرجون يشتعلون ضحكًا. لا بد أن روح نجيب الريحاني كانت تطوف في ميدان التحرير. وشاب آخر يعتلي عامود الإنارة ويمسك بالدف ويرتجل الغناء على شخصيات تحترمها الجماهير وأخرى تلفظها من الذاكرة، وتسخر من وجودها الزائف في الماضي. شاء المصريون أن لا يكون فن النكتة المصدر الوحيد لإنتاج السخرية (المصريون ضد الاحتكار في الفنون والآداب، على طريقة احتكار الحديد والسلطة)، من هنا تمددت السخرية إلى أنواع أدبية شفهية كالفوازير والمثل الشعبي والسيرة الشعبية والأغاني، عبر خصائص لغوية ورمزية وإيقاعية جديدة. ففي الفوازير يقولون: "ليه الصعيدي بيذاكر فوق الجبل؟ علشان يعمل دراسات عليا". "ليه الصعيدي بينام وجنبه دوده؟ علشان راح للدكتور وقال له نام ساعات معـ دودة". "إيه قمة الأدب؟ إنك تخبط على باب التلاجة قبل ما تفتحها. وقمة الهبل؟ إنك تستنى حد يفتح لك باب التلاجة. طيب وقمة الدهشة؟ إن تلاقي حد يفتح لك باب التلاجة". ومن الأمثال الضاحكة التي يزداد ذيوعها: الصبر مفتاح تلاتاشر. وأقول له مخ يقول لي كبده. وأكل العيش يحب الطعمية. واقطع عرق وحتة بتلو. وبكره ترجع ريما من عند خالتها في مارينا. والمال السايب يعلم الطلبه. ومن خرج من داره ما ينساش ياخذ المفتاح معاه. والعين عليها lenses...

ليست هذه النماذج الشائعة أمثالاً شعبية بالمعنى الذي درج عليه المتخصصون في الفنون القولية الشعبية. وإنما هي نماذج تشيع وتنتشر في فترات زمنية، ثم يحل محلها نماذج جديدة. لكننا معنيون دومًا برصدها وتحليل دلالاتها.

يستقطب المصريون سخريتهم إلى مختلف أشكال تعابيرهم الشعبية، ومختلف وقائعهم في الحياة. من النكتة إلى الفوازير إلى الأمثال، إلى المحاورات اليومية، إلى المشاجرات، إلى العلاقات العامة والخاصة. في الأسواق والأعراس والجنازات. في مترو الأنفاق والقطارات والأتوبيسات والميكروباسات والتكاتك والتكوسه (جمع تاكسي). في الجلسات العائلية الحميمة أثناء انقطاع الكهرباء والماء والتيمم وطفح المجاري. في الأعمال الفنية المسرحية والسينمائية والتليفزيونية. في شبكات التواصل الاجتماعي والاتصالات الهاتفية ورسائل الـ sms. في الكتابات الأدبية والمانشيتات والموضوعات الصحفية. في المدارس والجامعات والمعاهد. لم تعد السخرية همسًا وأسرارًا خافية؛ بل صارت علنية كالمخدرات والسلاح واللحى الطويلة والمهذبة.

ــــــــــــــــــــــــــــ
يوم صدور الصحيفة غير المذكورة أعلاه لم أجد ما كتبت منشورًا في ملحقها، فهمت عبر الصحافية أن مسؤول الملف حذف عددًا من الموضوعات، وحباني بأن أكون أحد المحجوبين. أعدت قراءة ما كتبت، وساءلت نفسي: كيف لم أتوقع هذا؟ وضعت خطوطًا حمرًا بين السطور أسفل : ارحل - السلاح - اللحى الطويلة والمهذبة - الاختلال - التكاتك - الجنس - المخدرات - الدين، فقررت نشر الموضوع في الحوار المتمدن، ورب صدفة خير من ألف ليلة وليلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إذا عرف السبب
محمد بن عبد الله ( 2012 / 10 / 11 - 11:54 )
لم يسبق لي التشرف بمعرفة السيد كاتب المقال، ولست أعرف كذلك اسم الصحيفة (غير المذكورة) في مقاله

لكن أمامي وأمامنا المقال المرفوض..فهل يوافقني الزملاء المعلقين انه مكرر لا جديد فيه..لا فكر ولا أسلوب أدبي متميز يفرضه فرضا على الناشر

مقال قد ينشر لملئ فراغ على الصفحات لكن للأسف لا يضيف جديدا ولا يفيد فلا تتعجب يا سيادة كاتبه


2 - سيادة المعلق
محمد حسن عبد الحافظ ( 2012 / 11 / 12 - 13:52 )
انتظرت طويلاً تعليقا يستجيب لفحوى تعليق سيادة المعلق الذي يبدو اسمه مستعارًا من فضاء وهابي نفطي لا زرع فيه ولا نيل. وبالرغم من مجهوليته المكتنزة بالجلافة، فإنه - بثقة عجفاء - يحرض رهطًا من الحشف البالي يحسبه أمامه على موافقته في ما ذهب إليه ولم يؤب. وكما أرى، فإن الحشف نفسه لم يبال به. وإني لمشفق على سيادة المعلق من شرود تعليقه وتعالقاته وعلوقيته في بيداء عقله وعقاله وعلوقه.

اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال