الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضيض والغوص في أعماق المجتمع الروسي قبل الثورة

أحمد عبد الرازق أبو العلا

2005 / 3 / 4
الادب والفن


في السطور الأخيرة التي أنهي بها ( مكسيم جوركي) روايته ( طفولتي) ، وبعد أيام قليلة من تشييع أمه إلى مثواها الأخير ، قال له جده :
حسنا يا السكي ! أنى بالضبط لا أستطيع أن أسميك ميدالية معلقة حول عنقي !! ليس لك مكان بعد اليوم هاهنا ، فقد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت ..
يقول مكسيم : وهكذا خرجت إلى مابين الناس لكسب القوت !
اسمه الحقيقي هو ( الكسي مكسيموفيتش بيشكوف) ، واسمه المستعار -الأول – مكسيم هو اسم والده ، واسمه المستعار الثاني جوركي بمعني المر ، وكان يقول لقرائه عن نفسه – بالاسم المستعار – أنا كاتب مر ، وستذوقون مرارة النبيذ الذي خمرته ، وستسمعون مرارة الكلمة التي أقول !؟
إلا أن النقاد الذين تابعوا أعماله ، وكتبوا عنها قالوا له : " كلا ! لست كاتبا مرا ، انك عسلي المذاق ، ففيك حلاوة فرحة الحياة الحقيقية ، الفرحة الواعدة الوضاءة ، انك تغني مع الربيع الذي نعيشه الآن ، لقد بدأت أفضل الأزمان في التسعينيات ، بدأت كثبان الثلوج تتقلص ، وبدأ خرير بعض الجداول ، وغردت طيور جديدة ، وصوتك من بينها ، انه يبشر بالجديد ، وينطوي ذلك علي فرحة الربيع الطرية " (1)
ولعل العبارة التي صفقها الجد في وجه ( الكسي) المعروف بمكسيم جوركي " قد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت " ، لعلها هي التي غيرت حياته بالفعل ، لأنه حين خرج ليعيش بين الناس ، تعرض للإهانة والمهانة ، والتشرد ، ولم يجد لنفسه مكانا آمنا في مجتمع روسيا القيصرية ، ذلك المجتمع الذي لم ينتصر للفقراء ، مثلما انتصر للأغنياء وعلية القوم ، وكان فلاحو روسيا قبل ثورة أكتوبر سنة 1917 ، يعيشون كما كانوا يعيشون في القرن السابع عشر ن كما صرح – وقتها – بذلك جوركي نفسه .
حين عاش مكسيم بين الناس ، رأي الفلاحين الأرقاء ، وعلم أن سيبريا امتلأت بالمنفيين الثوريين الذين واجهوا ظلم وتعسف القيصر الذي حكم روسيا اعتمادا علي نظرية ( الحقوق الإلهية ) ، يعاونه – في ذلك – الجيش الذي يسيطر عليه النبلاء ، والمجمع المقدس ، وجهاز الموظفين البيروقراطي .
وحين خرج إلى مابين الناس ، انضم إلى عصابة من الصبيان أولاد المتسولين والمشردين كانوا يسرقون ألواحا من الخشب من مخزن الأخشاب الذي يحتفظ بها لحين بناء المعرض التجاري الموسمي الذي يقام ربيع كل عام ، يقومون ببيعها ليغطي عائدها مصروفاتهم طوال العام !!
أي حياة تلك التي عاشها ( مكسيم ) لكي تجعله كاتبا عظيما ؟!
الذي ساعده – في اعتقادي – أولا : قدرته علي الصمود والتحدي والمواجهة ، وثانيا : رغبته في أن يكون عضوا فاعلا ومؤثرا في مجتمع لا يريد له حق الوجود وحق الحياة .
وثالثا : أنه أعطي لنفسه فرصة التأمل والاندهاش ، والسؤال ، وأراد أن يحيل تأملاته ودهشته وتساؤلاته إلى موقف ورؤية ، تجاه الحياة التي يعيشها ويراها ، وتجاه الحياة التي يريدها أن تكون !! ، فلم يتنصل من هؤلاء الذين عاش معهم حياة التشرد ، وذاق بينهم مرارة الألم ، وواجه بهم عناد الحلم المستحيل ! ..
حوّل كل هذه الأحاسيس – وغيرها – إلى كتابات تعد وثيقة تاريخية هامة تدين وتُعري مجتمعا وواقعا يعكس أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية ، لها خصوصيتها ، وتُعد بمثابة مفجر موضوعي وحقيقي للإبداع الأدبي والفني الصادقين ، استحضر هؤلاء الذين عاشوا ما بين الناس ، لكنهم لم يجدوا لأنفسهم مجالا صالحا لإظهار إنسانيتهم ، وابراز قيمهم ، حيث تماهت إنسانيتهم وانمحت ، لأن المجتمع لم يساعدهم في أن يكونوا بشرا حقيقيين ، وبالتالي اختلت منظومة قيمهم، ونستطيع أن نقول : انعدمت ، أو تلاشت ، ولم يعد لها وجود ، أصبحوا في ( الأعماق السفلي ) لهذا المجتمع ، أصبحوا حضيضا ، لا قيمة لهم ..
اقرأ معي هذا الحوار المقتبس من هذه المسرحية :
يتحدث كستليوف - صاحب المنزل- إلى لوقا القسيس الحكيم قائلا وهو يهزأ منه : - أي نوع من النساك أنت ؟! انك لا تملك جواز سفر ، بينما الرجل الفاضل يجب أن يكون معه جواز ، فكل الأخيار معهم جواز سفر ، نعم ..
لوقا : هناك ناس وهناك مجرد رجال ..
كستليوف: لا تحاول أن تكون ظريفا ، لا تكلمني بالألغاز ، فأنا لست اغبي منك ، ماذا تقصد بالتفريق بين الناس والرجال ؟
لوقا : ليس هذا لغزا ، ما أعنيه أن هناك نوعين من التربة ، نوعا غير صالح للزراعة بالمرة ، وآخر خصبا ، كل ما تزرعه فيه ينمو ، هذا هو كل الفرق
كستليوف : حسنا وما معني هذا ؟؟
لوقا : لنأخذك أنت علي سبيل المثال ، إذا قال لك الله عز وجل " كن رجلا ياكستليوف " فلن يحدث كلامه أي أثر فيك ، وستظل كما أنت إلى أن تموت.
كلمات ( لوقا) الواعظ تعكس وجهة نظر ( جوركي) في الفرق بين الرجال ومجرد الرجال ، أي الفرق بين ناس وناس ، فعلي الرغم من البؤس والتشرد ، يمكن المحافظة علي سمات الرجولة التي تسمو بالإنسان ، فالإنسان عند جوركي ، لابد أن يكون موضع احترام ، لا موضع شفقة ، وهذا الإيمان هو الذي دفعه إلى الانتصار علي فقره ، وبؤسه ، وتشرده المبكر ، لأنه اكتشف مواطن الرجولة في داخله ، ولم يرض أن يكون مجرد واحد من الناس .
وساتين – في المسرحية – يعكس إيمان جوركي بالإنسان ، مؤكدا – من خلاله – علي تلك القيمة ، حين يقول مخاطبا البارون : " إن الإنسان حر فيما يفعل ، وهو نفسه الذي يدفع الثمن ، ثمن الإيمان وثمن الكفر ، ثمن الحب وثمن الذكاء ، وهذا هو سر حريته .. الإنسان هذه هي الحقيقة ، ما هو الإنسان؟؟ ، انه ليس أنت ولا أنا ولا هم ، لا أنه أنت وأنا وهم ، والعجوز ونابليون ، ومحمد .. الكل في واحد ( يخطط بيديه في الهواء شكل إنسان ) أفاهم أنت ؟؟ انه شيء هائل ، فيه البدايات وكل النهايات ، كل شيء موجود في الإنسان ، وكل شيء موجود من أجل الإنسان ، لا موجود إلا الإنسان ، وكل ما عداه فمن صنع يده وعقله ، الإنسان !! ما أروعه !! في اسمه رنه زهو عجيبة ! الإنسان يجب أن نحترم الإنسان لا أن نشفق عليه، أو نحط من قدره ، أن نحترمه ، هذا هو واجبنا ، فالشرب نخب الإنسان يا بارون ! ( ينهض) ما أجمل أن يشعر الواحد منا بآلامه إنسان يا بارون "
في الحضيض نتعرف علي نماذج متباينة من البشر ، يمثلون شرائح مختلفة في مجتمع روسيا القيصرية ، كتبها جوركي في عام 1902 ، أي قبل الثورة الروسية بخمسة عشر عاما ، وتعد الثانية – من حيث الترتيب – في أعماله المسرحية ، وأصدر قبلها : البرجوازيون 1901 (2) وفيما بعد صدرت له : المصطافون 1904- أبناء الشمس 1905 – الأعداء 1906-(3) والعجوز . وأصدر بعد الثورة مسرحيتين هما : أيجور بوالتشوف والآخرون 1932 – و دستوجايف في نفس العام ، ومات بعدهما بأربع سنوات (4)
هؤلاء المنبوذون والهاربين من العدالة ، يعبرون عن ذوات بعضها مريض وبعضها الآخر صحي ، فالبارون الذي كان يعمل موظفا في الدولة إلا أنه كان يحلم بالعيش كما يعيش البالونات ، ودفعه هذا الحلم إلى اختلاس أموال الحكومة ، فدخل السجن وحينما خرج لم يجد مكانا يأوي إليه إلا هذا القبو ، وهو ما يزال يعيش الحلم القديم ، أن يكون بارونا !! والممثل هو الآخر يعيش حلما لا يتحقق - رغبته الدائمة في التمثيل- ولا يملك شيئا يتيح له فرصه الانطلاق في هذا المجال الذي يحبه ، فيعيش حالة التمثيل مع نفسه داخل القبو ، وحين لايجد أحدا يعيره اهتمامنا ، وبأن الحياة لم يعد فيها ما يستحق أن يعيش من اجله ، أقدم علي الانتحار في نهاية المسرحية .
وساتين الذي قتل رجلا اعتدي علي شقيقته ودخل السجن وخرج منه ، ولم يجد مكانا آخرغيرهذا القبو الذي تدور فيه الأحداث ، نراه يواجه العالم المحيط به بالسخرية اللاذعة والمرارة التي تصل إلى حلوقنا معه .
وفاسيلي الشاب اللص ، والمرأة التي تعاني آلام المخاض ، وتموت ولا أحد يهتم بها ، وصاحب المنزل الذي قتله عشيق زوجته .. واليوشكا الإسكافي الذي لا يستطيع مواجهة الحياة بأي شكل ، وكذلك ( كلستشن) مولف المفاتيح الذي يسحر من كل شيء ..
كل هؤلاء قدمهم جوركي في مسرحيته ، ولم يكن متعاطفا معهم تعاطفا تاما ، ولم يكن ضدهم أيضا ، بل قدمهم اعتمادا علي رؤية مؤداها : أن هؤلاء يعبرون عن حالتين إنسانيتين: بعضهم – برغم الحاجة والعوز - يتحولون إلى نمور بشرية ، انهم ميالون إلى الإجرام ، لا يؤمنون بالأخلاق ، ولا يمكن لهم التماهي في المجتمع الحر لكي يصبحوا إنسانيين برغم فقرهم ، ويصبحوا اجتماعيين برغم عوزهم بمعني آخر : لن تستطيع السيطرة عليهم أبدا .
والبعض الآخر رائعون إنسانيا ، يملكون القدرة علي الحلم ، ويسعون إلى تحقيقه لكن تشردهم وسكرهم نشأ بسبب عدم القدرة علي تحقيق الحلم ، وهو ما دفع الممثل إلى الانتحار -كما أشرنا من قبل – الجمع بين الحالتين المتناقضتين ، أو بمعني آخر الجمع بين تلك المشاعر المتناقضة والمتباينة في بيئة واحدة هو ما أدي إلى طغيان الصدق الفني حين قدم جوركي شخوص مسرحيته ، انه عمل مسرحي يحتفي بالشخصية الإنسانية ، ربما أكثر من احتفائه بالحدث المسرحي ، وعلي الرغم من أن بعض النقاد قد اخذوا علي أعمال جوركي المسرحية ، إنها تتبع الأسس التقليدية للبناء المسرحي ، من عرض وعقدة وحل ، كما فعل من قبله أعمدة المسرح الحديث : ابسن – برنارد شو – بيرندولو – بر يخت ، إلا أننا نري أن احتفاءه بالشخصية ، لم يُضعف بناء النص ، صحيح أنه جعل الشخوص يتحدثون كما أرادوا تماما وبتلقائية وعفوية تقترب من الطبيعية كأسلوب (5)، إلا أن تلك التلقائية نجحت تماما في إبراز أبعاد الشخصية الدرامية ، ويمكن الاستفادة من ذلك حين نود التعرف علي الطريقة التي يتم بها تقديم الشخصية الدرامية بشكل خاص ، أي أنها صالحة كنموذج فني نقيس عليه ، والتحلل من القيود الكلاسيكية للمسرح ، ليس عيبا يؤخذ علي جوركي ، أو غيره من الكتاب ، لكن العيب ، ألا يكون الكاتب قادرا علي معالجة موضوعه أو فكرته بشكل درامي ، انساني حقيقي ، فأعمال تشيكوف(6)واسترا فسكي(7)الروسيان ، لم يحتفيا بذلك البناء الكلاسيكي المتعارف عليه ، وهذا هو السبب الذي جعل ناقدا مثل د. محمد مندور يعتبر أن
" مسرح جوركي ليس إلا امتدادا لأوتشرك تشكيوف (8)،بفارق واحد هو وضوح الرؤية الثورية عند جوركي ، نظرا لامتداد العمر به بعد وفاة تشيكوف سنة 1904 ، ليشهد ثورة 1905 ، التي لم تنجح ، والروح الثورية المتأججة بين صفوف الشعب الروسي ، وكذلك ثورة 1917"(9)
إن الخلل الذي أصاب منظومة القيم – لدي هؤلاء الذين يعيشون في الأعماق السفلي للمجتمع الروسي – والتي أشرت إليها في بداية هذه المقدمة - يرجع إلى فساد القيصر ، وحاشيته ، وحين يستشري الفساد في أي مجتمع من المجتمعات ، فان منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية يصيبها العطن ، ومن الصعب – في هذه الحالة – أن يكون هناك معني لقيم : الشرف أو الضمير أو الحقيقة أو الحق أو العدل أو الحب أو الحرية .، كلها تصير إلى عدم ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ربما يكون هناك استثناءا علي القاعدة ، لكننا – هنا – نتحدث عن القاعدة وليس عن الاستثناء .
وسوف أضرب أمثلة لتوضيح ذلك المعني :
فاسيلي الشاب الذي يعمل لصا يتساءل: "ما قيمة الشرف أو الضمير ، انك لا تستطيع أن تلبسهما في قدميك بدل الحذاء ، الشرف والضمير مهمان بالنسبة للأقوياء القادرين فقط ".
وفي موضع آخر من المسرحية نراه يقول : "أحاول أن اسري عن نفسي ، بتذكر أولئك الذين يسرقون أضعاف ما أسرق، ويحاطون بالاحترام والتقدير ، ولكن ذلك لا يسري عني لأنه ليس الحل لما في نفسي .. وأنا حينما أقول ذلك ، لست مدفوعا بما يسمونه الضمير ، فأنا لا أومن به ، شيء واحد اعلمه جيدا هو أن هذا الطريق ليس طريق الحياة الحقة ، أريد أن أحيا حياة افضل ، ويجب علي أن أحيا بطريقة تدعوني إلى احترام نفسي. “ وهذا ديالوج آخر يدور بين التتري – الذي يعمل حمالا في الميناء- وساتن القاتل ولوز الذي يعمل حمالا أيضا في الميناء .
التتري ( متحمسا ) : يجب أن تلعبوا بأمانة ..
ساتن : لماذا ؟؟
التتري : ماذا تعني ؟؟
ساتن : لا أعني إلا ما قلته .. لماذا يجب أن نلعب بأمانة ؟ التتري : ألا تعلم لماذا ؟
ساتن : أنا .. لا . هل تعلم أنت ؟!
( يبصق التتري باحتقار شديد ، بينما يضحك الآخرون منه )
جويتر أو لوز ( مازحا ) : يالك من إنسان مضحك أيها التتري ، ألا تفهم انهم لو بدأوا يعيشون بشرف وأمانة ، فسيموتون من الجوع بعد ثلاثة أيام ..
وكلستش صانع المفاتيح (10) يندهش من الذين يبحثون عن الحقيقة ، ويتساءل وهو في حالة منْ اشتعلت فيه النار : أي حقيقة ؟؟ أين الحقيقة ؟؟ لا عمل ولا قوة ولا مكان أعيش فيه ، كل ما بقي هو أن أموت كالكلب ، أليست هذه هي الحقيقة ؟! يارب رحمتك ، ما قيمة الحقيقة بالنسبة إلى ؟؟أنى أريد أن أ تنفس بحرية اكثر ، هذا هو كل ما أريده ، أي ذنب جنيته ؟ وما قيمة هذه الحقيقة التي تتشدقون بها ؟ ليست لدي فرصة للحياة يارب يا قادر .. ليست هناك أي فرصة !! هذه هي الحقيقة .
- ويسرد الواعظ ( لوقا ) حكاية طريفة من حكاياته ، يدلل بها علي مفهومه للعدل ، وللحق ، ومفهوم زملائه من ساكني القبو تجاه تلك القيم ، يقول : حضر إلى سيبريا عالم نفته الحكومة ، وكان يحمل معه كثيرا من الخرائط والكتب ونحوها ، فقال له رجل كان معه : هل تصنع فيّ معروفا وتدلني علي مكان أرض الحق والعدل ، وطريق الوصول إليها ؟ ففتح العالم كتبه ، واستشار خرائطه ، بحث هنا ، وبحث هناك ، فلم يجد أرص الحق والعدل ، لا هنا ولا هناك ، كل شيء في مكانه ، وكل البلاد والأراضي واضحة في أماكنها ، أما أرض الحقيقة والعدل فلا وجود لها . . لم يصدقه صاحبه وقال له : لابد أنها موجودة ، حقق النظر مرة ثانية ، وإلا فكتبك وخرائطك ، لاقيمة لها إذا ما فشلت في إرشادنا إلى أرض الحقيقة والعدل ، فغضب العالم وقال : إن خرائطي أدق خرائط في العالم ، أما أرض الحقيقة والعدل ، فلا وجود لها في أي مكان ، فغضب صاحبنا وقال محتدا : لقد عشت وقاسيت كل هذه السنوات ، معتقدا في وجودها ، ثم تأتي خرائطك لتدحض هذا الاعتقاد .؟ هذه سرقة أيها القذر الحقير ، أنت لص ولست عالما ، وضربه بقبضته علي أنفه مرتين ، ثم تركه وعاد إلى غرفته ، حيث شنق نفسه .
والكذب الذي يلجأ إليه هؤلاء البؤساء ، إنما يتخذونه ستارا لخداع غيرهم ، ولكن الإنسان المستقل - كما يقول ساتين القاتل في المسرحية – سيد نفسه ، الذي ليس عالة علي أحد ، هذا الإنسان يستطيع أن يستغني عن الكذب ، لأن الكذب عقيدة العبيد والأسياد ، أما الصدق فهو اله الإنسان الحر ..
إن الجو العدمي ، الكابوسي الذي يقدمه ( مكسيم جوركي) في هذا النص باستعراضه لتلك النماذج التي تعتمل فيها المشاعر المتناقضة من الخير والشر ، والقبح والجمال ، والحب والكراهية ، والدنس والطهر ، يعريها أمامنا ، ويكشفها من اجل التغيير ، أو قل الرغبة في التغيير ، انه حال المجتمع الروسي قبل الثورة ، ذلك المجتمع الذي شهد عدة اضطرابات مهدت للثورة البلشفية ، وجعلت مكسيم جوركي كاتبا منحازا للطبقة المطحونة ، التي ظلت لسنوات طويلة وقودا للأغنياء والنبلاء ، وقد يري القارئ لأعماله ، إن شخوصه يرددون الشعارات ، فتصبح المسرحية وكأنها دعائية ، إلا أننا نستطيع أن نقول : انه استطاع أن يستدعي إلى خشبة المسرح أشخاصا حقيقيين يتحدثون بتلقائية كما يحسون ، رغبة منه في إحداث التغيير بهم ، فها هو ساتين يتحدث في الفصل الرابع ، وقبل نهاية أحداث المسرحية بوقت قليل قائلا : انه سأل الواعظ ( لوقا ) مرة : " لماذا يعيش الناس أيها الجد ؟؟ فأجاب : يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل يا صاحبي ، خذ النجارين مثلا ، انهم يعيشون كلهم حياة قذرة تافهة ، ولكن سيأتي يوم يولد فيه نجار لم تشهد له الأرض مثيلا ، ليس له نظير ، فيغمر ضؤ وه الجميع ، ويقلب صناعة النجارة رأسا علي عقب ، فإذا تتقدم عشرين عاما في قفزة واحدة ، وهذا شأن سائر الناس ، هذا شأن الحدادين وصانعي الأحذية وغيرهم من العمال والفلاحين كذلك ، وحتى الأسياد ، كلهم يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل ، يعيشون مائة عام ، وربما اكثر من ذلك في انتظار ظهور رجل أفضل ممن حولهم " .


أحمد عبد الرازق أبو العلا























هوامش :

1 – أناتول لونا تشارسكي – من مقدمة كتاب ( مكسيم جوركي) طفولتي - ترجمة : سهيل أيوب – دار التقدم – موسكو – 1981- ص 12
2- البرجوازيون صدرت الترجمة العربية لها في عام1971 – ترجمة :أبو بكر يوسف حسين ، وصدرت ضمن سلسلة مسرحيات عالمية التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – العدد رقم 73 3- ترجمها فؤاد دوارة تحت عنوان ( الهمج ) في نفس العام الذي ترجم فيه مسرحية الحضيض عام 1953
4- ولد جوركي في عام 1868 وتوفي في عام 1936 ، أي أنه عاش ثمانية وستين عاما .
5- تنتمي مسرحية الحضيض لمكسيم جوركي الي المنهج الطبيعي في الكتابة المسرحية ، ذلك المنهج الذي آمن وقدم به أعماله المسرحية الكاتب ( اميل زولا) 1840 – 1902 وكان يري أن الفن يجب أن يكون علميا في موضوعه ومنهجه ، ويأتي الموضوع – في رأيه – من مصدرين : أن يكون من نتائج الكشوف العلمية ، أو أن يكون تسجيلا صادقا لظروف الواقع المعاش ، ولهذا فان علي الكاتب الدرامي – الطبيعي – أن يختار شريحة من الحياة اختيارا موضوعيا ، وأن يجعل شخصيتها تتفاعل مع الأحداث طبقا للقوانين الخاصة بالوراثة والظروف الاجتماعية ، تلك القوانين التي تحكم الإنسان وتكسبه كل سلوكياته وأفعاله ، كما ينبغي أن تكون نتيجة تفاعلات الشخصيات مع أحداثها ، مطابقة للكشوف العلمية . أنظر في هذا الشأن وبالتفصيل معجم المصطلحات الدرامية – د. إبراهيم حمادة –صفحة 300 وما بعدها .
6- انطون بافلوفتش تشيكوف( 1860 - 1904)الذي يرى فيه معظم النقاد قمة الطبيعية، ومن أعماله المسرحية : مسرحية (بستان الكرز) التي تعد من أعماله الهامة، فالمسرحية قصة رمزية مفعمة بالحنين عن الضياع الذي يحل بطبقة النبلاء الروسية وعجزها عن الالتقاء والتفاهم مع العالم الحديث. ومن أعماله الأخري: (الخالة فانيا) و(النورس) و (الشقيقات الثلاث) .
7- (الكسندر أوستروفسكي ( 1823 - 1886) يختلف عن جوجول وبوشكين اللذين لم يكتب كل منهما أكثر من بضع مسرحيات ،لكنه ألف – وحده - أكثر من أربعين مسرحية .ومن مسرحياته (لكل حكيم غلطة).
8- الأوتشرك – يعني الاستطلاع أو الريبورتاج .
9- د. محمد مندور – الأصول الدرامية وتطورها – مقال – مجلة المسرح – العدد السابع – يوليو 1964
10- عمل جوركي في شبابه صانعا للمفاتيح مثل كلستش .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي