الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة رجل آخر قصة قصيرة

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2012 / 10 / 13
الادب والفن


قصة قصيرة

الغريب في الأمر، أنّه لم يفقد ذاكرته الشخصية فقط، بل أستعاد ذاكرة رجل آخر...
لم يفهم من أين تنهال عليه هذه الذكريات، ولماذا لا يذكرُ أنه كان فيها يوماً ما؟ كأنه يراقبها من بعيد، كيفَ يمكن لشخص أن يسترجع ذكريات شخص آخر، باسمه وتفاصيل طفولته وأول عشقه ومدرسته وجامعته وخلافاته العابرة والعميقة معاً، من أين تأتي كل هذه الذكريات فيما لا يستطيع هو تذكر اسمه الشخصي حتى؟

لم يغير هذا من عاداته التي يعرفها عنه الآخرون، فقد ظلّ يحب اللون الأزرق، ويأكل السمك بكثرة رغم بعد بيته عن مكان بيعه، وظل يحمل جهاز حاسوبه في حقيبة يعلقها على كتفه، فقط حين كان يروي قصصاً، كان يحكي عن أحداث في بلاد لم يزرها في حياته، لكنه يحكيها بتفاصيل من عاشها لحظة بلحظة، بل وتدل تعبيرات وجهه في كل كلمة على ألم هنا وفرح هناك وحزن بينهما، ولو أن أحداً من الجالسين لا يعرفه، لصدّق ما يقوله دون أن يرف له جفن، فقد كان راوياً مذهلاً، كما كان قبل أن تسقط ذاكرته الشخصية في الغياب.

أحد أصدقائه المحبين، حاول أن يجمع الحكايات التي يسمعها منه، أن يربطها ليعرف ما يحدث بالضبط، وبعد سنوات طويلة فهم ما لم يستطع تصديقه، فصديقه فقد ذاكرته لكنه استعاد ذاكرة شخص آخر، وحاول بالطبع أن يعرف من هو، لكن السؤال الذي كان دائماً يطرق رأسه كحبة مطرٍ غاضبة: وما الفائدة حتى لو عرفت؟

قال له الطبيب الذي أحرجته الحالة لأنه لم يستطع تشخيصها منذ البداية: إن الذاكرة تشبه الإناء، لا يمكن لها أن تكون فارغة، وإذا أفرغتها فعليها أن تجد ما تملأ نفسها به، وهذا ما يحدث حين نفقد ذاكرتنا الشخصية، تأتي ذاكرة شخص آخر لتحل محلها بكل تفاصيلها، والمحزن في الأمر، أننا لا نستطيع أن نكون هذا الشخص في الحقيقة، ولا نستطيع العودة إلى أنفسنا، فنتشوه، بالضبط كما حصل مع صديقك.

الذاكرة التي عبأت صديقه كانت لرجل عاش منذ قرون طويلة، كان على ما يبدو يعمل صائغاً، ولديه في البيت حيوانات كثيرة وأتباع أكثر، لم يفهم الصديق التفاصيل كاملة، لكنه تأكد أن هذا الرجل ذا سلطة لا تُقاوَمُ، وأنّه على ما يبدو كان قادراً على صبّ ذاكرته في ذاكرات الآخرين حتى بعد رحيله بقرون، ويحدث هذا دائماً مع أولئك الذين لا تعجبهم ذكرياتهم ويحاولون التخلص منها، كانوا يسلمون عقولهم للهباء، وبما أن الهباء عملياً غير موجود، فإنهم كانوا يسلمونها فعلاً لمن يستطيع ملأها، وهذا بالضبط ما حدث مع صديقه.

رواياته "الذكرياتية" كانت تتطور يوماً بعد يوم، تدخل في أماكن غريبة ومختلفة، والأكثر إدهاشاً أنها تدخل في أزمنة مختلفة، مما يؤكد نظرية صديقه عن الذاكرات التي ملأها ذلك الرجل عبر التاريخ.

في يوم نضجت شمسه كما يحلو للصيف أن يفعل بشموسه، فوجئ هذا الصديق بأصدقائه جميعاً وقد فقدوا ذاكراتهم وبدأوا في رواية تفاصيل تشبه إلى حد بعيد التفاصيل التي كان صديقه يرويها وحيداً، كان مشهداً لا يمكن احتماله، لماذا ظل هو الوحيد الذي لم تسِلْ ذاكرة ذلك الرجل في ذاكرته؟ ولماذا عليه أن يحتمل كل هذا الألم الناتج عن فقدان أجزاء هائلة من ذكرياته بسبب فقدان الآخرين لذاكراتهم؟ ففي كل ذاكرة هناك جزء من ذكرياتنا، وحين تُفقد هذه الذاكرة، نفقد بالتالي هذا الجزء، مثل أن تعيش وقتاً جميلاً مع امرأة جميلة، فإن هذا الوقت يشكل ذكرى تنقسم بين ذاكرتك وذاكرتها، وربما ذاكرة صبي المقهى الذي كان يقدم لكما القهوة مبتسماً، وحين تفقد هذه المرأة ذاكرتها، فإن جزءاً من هذه الذكرى يختفي، فتصبح ذكراك مبتورة، فاقدة لنصفها الآخر، تصبح بلا معنى، فماذا يحدث حين يفقد الجميع ذاكراتهم بما لك فيها من ذكريات؟

أخذ يمشي في ساحات المدينة، الجميع هنا يتكلمون عن ذكريات متشابهة، كأنهم انبثاق عن نفس الشخص، كأنهم صور متكررة لمشهد واحد، لذا كان عليه أن يفكر في أحد أمرين، إما أن يبحث عن طريقة ليفقد فيها ذاكرته الشخصية فيصبح مثل الجميع، أو، أن يحكم الحماية على ذاكرته مهما حدث.

في الحقيقة، أنه قام بتدوين كل شيء، منذ اليوم الذي بدأ فيه صديقه برواية ذكريات لا تخصه، وحين نقول كل شيء، فهذا يعني كل شيء، فهناك نوع من البشر، لا يمكن أن يقبلوا أن تحل ذاكرة أخرى مكان ذاكرتهم، حتى لو أدى ذلك إلى تحويل الأمر إلى معركة مع الذاكرات الأخرى، وما زالت ذاكرته في معركتها، وما زال الآخرون يزدادون، ويروون حكايات لم تعد تحتملها الأمكنة.

الثالث عشر من تشرين أول 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال