الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمقم الذكريات

جمانة القروي

2012 / 10 / 15
الادب والفن


مر وقت طويل على اخر مرة راته فيها، اعتقدت منال خلالهــا، أن الجرح الغائرالذي ســببه رحيلــه بعيدا عنها،غدا اثرا باهتا وقد تلاشــى مع الزمن .. لم يكن ليخطر ببالهـــا بان ما تصورتــــه اندثر وغاب في اغوار نفســها ،سينتفض من سباته ويشمخ كمارد، سكن اكثر من اربعة وثلاثين عاما داخل قمقم عمرها... هكذا وبدون موعد عاد الماضي بكل تفاصيله الدقيقة، كما السيل الجارف لتملأ مياهه شقوق حياتها ولياليها العطشى الخاوية، بعد ان تعودت الحرمان والجفاف ..
حاولت منال وأد الذكريات، والعودة الى حاضرها الا ان الماضي كان يشدها إلى اعماقه، ويدور بها كدوامات ماء مجهولة القرار، فيسحبها بقوة، لم تستطع الخلاص منها... مسحت دموعها بظاهر كفها معترفة بخسارتها للرجل الوحيد الذي تمكن من اقتحام قلبها.. اجتاحتها رغبة جامحة وحقيقية بدفن راسها في صدره، والبكاء لخسارة شبابها بعيدة عنه..
مازالت عيناها منغرستين في صورة قديمة تجمعها وطفليها... حينما مرت تفاصيل لقاءهمــــا الاخير، وقبلة الحب التي لم تنس طعمها ..
في ذلك اليوم الشاحب البعيد... لم تكن قد بلغت السابعة عشر من عمرها بعد؟؟ مازال بريق عينيه ونظراتــه الاخيرة،محفورة في ذاكرتها، يوم اخبرهـــا بانه على علاقة باخرى !! كم بكت عندما عرفت بان من وهبته قلبها لم يكن لها..! تلقت تلك الصدمة التي لم تفق منها لسنين عديدة، بصمت تام..!! خالجها احساس بالوحشة والوحدة بعد رحيله.. كم ندمت لانها لم تدافع عن حبها، وتثأر له، ولكن ماذا ينفع الندم بعد هذا الزمن! فقد تزوجت وانجبت، وبالرغم من ذلك لم يفارقها خياله ولو ليوم واحد، ولم تنساه حتى لساعة واحدة ، حيث انها اغلقت قلبها دونــــه..!!
التقاها خالد عند عتبة الباب مع اخته مريم، كان يروم الخروج إلا ان شيئاً ما ، جعله يتراجع،ليعود فيجلس قبالتها.. كان حديثهما عادياً، أحس بنبضات قلبه كأنها تعزف لحناً مختلفاً ،خالجه شعور غريب لم يالفه ، حاول الانصراف ، إلا أنه لم يتمكن ، فقد سمرته نظرتها الخجولة الصامتة..تحدثا لبرهة طالت قليلا وهما ينظران لبعضهما خلسة .
" لماذا جاءت الان ؟؟؟ لمَّ لم التقي بها قبل هذا الوقت ؟ هذه الفتاة كان يمكن ان تكون رفيقة دربي "!!اطلق زفرة الم بائسة! فهو على علاقة باخرى وقد وعدها بالزواج، صارحها لانه ليس بالرجل اللعوب الذي يستطيع ان يشطر قلبه كما يهوى ويشتهي !!

في صخب وضجيج سنواتها، كثيرا ما كان يقف معها وبقربها.. كم تمنت ان يكون هو والد ابناءها، وهو من يطبع على جبينها قبلــــة السلامة عند ولادتهم ..!! لن تستطع نسيان ما جرى بينهما رغم ان قصتهما لم تستغرق سوى بضعة اشهر، إلا ان رحيقها، وعبقها لم يبارحها على طول السنوات !! فقد تغلغل حبه بكل خلية من خلايا جسمها، وجرى بكل قطرة من دمها.. ! كان ينتصب امامها دائما ويخفف عنها همومها ، ويفرح معها للحظات السعادة القليلة التي مرت عليها خلال رحلتها مع الحياة ... تخيلت وجهه دائما في وجوه كل الرجال الذين التقتهم على مدى الاعوام، قرأت اسمه في اسمائهم ولاحقها ظله في ظلالهم.. !! مكث الرجل الوحيد الذي انتظرت عودته الى احضانها.. وما فارقتها ملامحه ابدا، ولا رائحة جسمه ، ولا نبرة صوته، طوله الفارع الذي سحرها دوما، اصابع يديه، كانها اصابع عازف بيانو..كما يحلو لها وصفها.. ابتسمت بالم لتلك الذكريات...!!
صار الكلام مع النفس عادة مستحكمة عندها، حيث تستطيع المصارحة والمناقشة دونما خجل او ملامة !!
لاحت منها التفاتة الى ساعة الحائط ، ياترى كم مر من الوقت وهي تسبح بعيدا بافكارها في بحر لا شواطئ له، تتقاذفها امواج الحاضرالمثقل بالقسوة والظلم، ورياح الماضي المملوء بالحب والعاطفة !!.. جلدت ذاتها باسئلة لا جواب لها.." لماذا سألت وبحثت عنه ؟؟ وما الذي جعلني استقصي اخباره ؟؟ لما سعيت للقائه بعد كل تلك الاعوام الطويلة؟؟ هل اردت ان اثبت لنفسي بان حبي لــم يزل شــجرة وارفة الظلال "..؟ تجاذبتها طوال الوقت الافكار والاحلام، طاردها خياله وصدى صوته... حاولت مرارا الهروب من نظراتــه... امتلأ راسها ثانية بصور شهدتها معه..
" كنت اتذكرك دائما ، واحاول ان اعرف اخبارك، احيانا كثيرة ،كنت اسمع نداءك لي ، وارى شعرك الذي مازلت اعشقه منسدلاً على وجهي، فيمسح تعبي، وألمي "!!
نهضت محاولة القيام باي عمل ربما يبعدها عن هواجسها .. لكن كيف وفراقه للمرة الثانية فتح الجرح القديم بمشرط صدأ..!!
اعدت لنفسها فنجان قهوة وهي ترتشف منه ..عادت الى اغوار الماضي مرغمة ، واوغلت في احراشه.. تذكرت ذلك اليوم الشتائي شديد المطر حين شدها الشوق لحرارة احضانه.. كيف هربت من المدرسة مستقلة سيارة الاجرة المتجهة الى بيت حبيبها، متحدية بذلك كل الاعراف والتقاليد..!! غير مبالية بما يترتب على تلك المغامرة، من عواقب وخيمة لو رأها احدهم ووشي بها عند اهلها ..!! حينما فتحت باب غرفته، وهي ترتعش من البرد وقطرات الماء تقطر من شعرها وملابسها... انتفض ليحتضنهــا ويغرقها بقبله، ويدفئها بحرارة احضانــــه.." انا من سعت الى النار.."!!!عنفت نفسها المفعمة بالم فراقــه من جديـد !!!
" اقترفت حماقة عمري حينما ابدلتها بالاخرى ، فقد سفحت ماتبقى من حياتي على قارعة الطرقات الموحشة ، فوجدت نفسي انهار كجدار عتيق، وكلما مر يوم تيبست ازهار حياتي في هذا القلب الذي ذاب من الفراق ذاكرتي تمطر بصورتتقافز ثم تقف برهة، وبعد ذاك تتلاشى ، كل شئ فيها عبره الزمن إلا حبها ظل محتفلا بي"!! كان يمضغ هواجسه بشرود تام..
اخذت اصابع يديها تقلب فنجان القهوة يمينا ويسارا وهي ترى صورته في بقايا البن المتبقي في قعره.. عادت اليها الذكريات من ثقوب الذاكرة وثنايا الاحلام المطوية..!
التقت مريم في اليوم الاول للعام الدراسي ، لم تعد تتذكر مالذي جذبهما لبعض؟ وكيف ارتبطا معا بصداقة ومن الوهلة الاولى!! ما الذي جمعهما؟؟ حب القراءة ربما؟؟ام التشابه في اسلوب الحياة..؟؟ ام أنه المرح الذي ميز مريم عن الاخريات ؟أوقد يكون بسبب كنز الكتب الذي يملكونه في البيت، والمكتبة الكبيرة والمتنوعة، التي لاخيها خالد الفضل في جمعها، وتنسيقها !.. دون وعي منها شغفت برؤية من تتحدث عنه صديقتها باعجاب..فقررت مع نفسها، استغلال اي فرصــــة للتعرف على من تقول عنه مريم بانه شاعــــر، وفنان ..!!
هكذا وبدون استئذان، ولدت مشاعرها، وترعرعت، وامست وليدا جميلا فيه كل صفات الاستمرار، والبقاء.!! لكنها لم تكن لتعلم بان من وهبته قلبها سيرحل عنها !!
فرشت سجادة صلاتها، وما ان بدأت بالاستغفار حتى جلس امامها ، وبدل ان تكلم ربها اخذت تكلمه.." انا احيا داخل ذكراك، وحتما ساموت حينما اخرج منها، اعرف تماما بأن الحياة تغدو مملة وقاسية ،عندما لا أجد ما يشغلني سوى مضغ الماضي بحسرة ، لكني لا اقوى على غير ذلك "!!
أنزوت تبكي هذا العمر المسفوك على دروب الحرمان والالم... شعرت بجسدها ينهار وثمة ذبول يستشري فيه ، فيقف في مخيلتها لقاءهما الاخير !!
في ذلك اليوم الخريفي،تلونت السماء وماء النهر وضفافه بلون الغسق الارجواني..بدا ذلك العصر ثقيلا تخللت سكونه همهمات تتناهى اليهما من بعيد .. شيئا ما يدعو للسأم والكآبة!! سارا معا على شاطئ الفرات.. ملامحه تنطق بحيرة، لم يكن من السهل اخفاؤها.. تردد كثيرا قبل ان يخبرها بان الظروف تقف حائلاً دونهمـــا.. هو على علاقة بفتاة اخرى ! كما ان وطنه يحاصره، الاعتقال و التعذيب، والموت هي المفردات اليومية..!! صارحها.. لابد له من السفر، الى بلد اخر يوفر له الامان والاستقرار.. لم تكن قد وضعت ضمن حساباتها بانه قد يغيب او يبتعد عنها او لا تراه.. لم تخش شيئاً اكثر من فقدانه!!.. لم تفقه ما تفوه به الا بعد حين ..!! التزمت الصمت، اسئلة كثيرة مكثت دون اجابة!! ماذا تقول له؟هل تزيد من همومه، بسؤاله اين هي من مشاريعه ، ومستقبله !! وكيف ستتحمل بعده عنها ؟؟ لن يعود لحياتها اي معنى دونه!! ..كان يجتهد محاولا ترتيب الكلمات، إلا انها خرجت مبعثرة،ممزقة.. وبالتدريج راح صوته يتلاشى، ولم تعد تسمع شيئا..!! اسكتتها الصدمة، و اكتسى وجهها بالمرارة والذهول.. التزمت الصمت،وتمسكت به .. كان الاجدر بها ان تدافع عن حبها وتعلن بانها لن تتخلى عنه ابدا.. لو صرخت يومها ، لو لم تكن سلبية، لو ثارت، لو..لو.!! ،
مازال يركض في اوردتها وينمو بداخلها، فيقف في مواجهتها ، فتلمح وجهه، وتسمع كلماته وضحكته.. تطاردها الذكريات فتضيق انفاسها .

عبثا كانت تحاول اسكات ضجيج راسها..كانت ترتجف فزعا، وتتسارع دقات قلبها..وتتهدح انفاسها للذكرى التي أبت النسيان..على الرغم من غياب وجه الحبيب في ضباب السنين..!! لكن هاهو يعود من قاع الماضي، جاء اليها بذات الشموخ لتلتقيه في قاعة مكتبة الكليــة التي تُدّرس فيها..
مرات عديدة تخيلت هذه اللحظة ، وكثيرا ما راته مقبلا عليها ..كم حلمت بانها حينما تراه سترمي بنفسها في احضانه وتبكي سنوات الحرمان كلها.. تسمرت في مكانها وهي تحدق بوسع عينيها في وجهه الذي حفظته عن ظهر قلب.. لم يتغير كثيرا بل ازداد وسامة رغم بعض الشعيرات الرمادية التي تخللت شعره .. وامتلاء قليل في جسمه .. لم تتمالك نفسها ومشاعرها .. فاخذت دموعها الغزيرة المفعمة بالم السنين تحرق وجنتيهــا، لم تستطع إلا مد يديها لتحضن يديه...!!

"احقا أرى حبيبي بعد هذا الزمن "..!! كما الينبوع الحبيس تحت صخور حجرية، تدفقت احاسيسها.. ثائرة سريعة في جريانها.. في تلك الليلة تناوبت عليها الاسئلة .. ومكثت تتقلب بفوضى مشاعرها، شح عليها النعاس، وبات فراشها كانه اشواك تخترق لحمها وتدمي قلبها... امتلأ راسها بصور شهدتها وعاشتها معه كانت تخاف حبه وتخاف ان يشتعل من رماده مرة اخرى،فالحب الكبير يظل خطرا حتى وهويحتضر ومخيفا حتى وهو يموت..!!
لاتعرف ما الذي جمعها باحد زملاء العمل يوما.. حينما تجاذبا اطراف الحديث وطال بينهما وتشعب، اخبرها بان له اصدقاء كثيرون مما غادروا الوطن منذ سنوات طويلة، وانقطعت الصلة بينهم لعقود ، لكنه عاد والتقى بالبعض منهم ايضا.. لاحت لها فكرة سؤاله عن حبيبها الغائب..فلربما يعرفه.. لكنها ابعدت هذا الهاجس..شيئا ما صرخ في داخلها يحثها على السؤال عن الذي ترك جرحا في القلب مكث ينزف على مدى السنين، ولم يلتأم ابدا.. هكذا وبدون اي تحفظ سالتـــه.." إ يكون خالد من بين الذين تعرفهـــم؟؟ما ان نطقت باسمه حتى شعرت بحشرجات صوتها ، ودقات قلبها تقرع معلنة عن كل ما خبأته في طياته ،من حب لهذا الحبيب الغائب الحاضر دائما ..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا