الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملحمة -الأم الشجاعة- ..صرخة داوية ضد الحرب ..أين نحن منها !

عبدالله حبه

2012 / 10 / 15
الادب والفن


عبدالله حبه – موسكو

برتولت بريخت
أدرجت مجلة " تياتر" الروسية عرض مسرحية بريخت " الام كوراج وابناؤها" في مسرح دوتشه ثياتر في برلين ضمن عشر مسرحيات "هزت العالم" في القرن العشرين. وتبدو هذه الملحمة الانسانية تصويراً حياً لوقائع الحرب حتى بالنسبة الى عالمنا العربي حيث اندلعت خلال العقود الاخيرة نيران حروب ليس لدى شعوب المنطقة اية مصالح فيها ، بينما جلبت الكوارث والهلاك والدمار الى بلدانها.
لقد كتب برتولت بريخت (1898 – 1956) هذه المسرحية في السويد بعد هروبه من المانيا النازية مع غيره من رجال الثقافة الالمان، حين بدأ هتلر بحرق الكتب في الميادين العامة وبملاحقة جميع من يعارض نظامه الفاشي. وكان بريخت يتصور ان مسرحيته، التي تمثل صرخة داوية ضد الحرب، ستجد من يخرجها على خشبة المسرح في عواصم اوروبا وستكون بمثابة تحذير للشعوب من شن الحرب كوسيلة لحل النزاعات بين الدول. لكن بريخت تأخر في نشر مسرحيته، فقدمت بعد فوات الأوان على خشبة المسرح لأول مرة في سويسرا في عام 1941 بعد نشوب الحرب العالمية الثانية التي حصدت هي الأخرى ارواح عشرات ملايين الناس، ودمرت مئات المدن والآف القرى في اوروبا. ولهذا لم يكن هناك بين الاوروبيين من يستمع الى تحذيره سوى ابناء سويسرا الذين خاضوا أنفسهم في الماضي حرب الثلاثين عاما التي اسفرت عن تأسيس الاتحاد السويسري.
وهكذا لم يجد بريخت الجمهور الاوروبي الذي يشاهد مسرحيته إلا في عام 1948، حين عُرض عليه اخراج المسرحية في " دويتشه ثياتر" وكانت نيران الحرب العالمية الثانية قد خمدت فوافق على اخراجها. وقدم العرض الأول للمسرحية في عام 1949. وعلى خشبة المسرح، بدت الاسمال البالية على ابطالها الذين عاشوا في القرن السابع عشر شبيهة بملابس الجمهور الالماني بعد الحرب. وتجاوب الجمهور كليا مع بطلة المسرحية الأم الشجاعة (كوراج) التي مثلتها هيلينا فايغل زوجة بريخت، إذ انها ذكرتهم تماما بواقعهم. علما ان بريخت لم يكن يتوقع من الجمهور التعاطف مع البطلة فحسب، بل التأمل في مغزى فكرته في المسرحية، أي الوقوف ضد الحرب مهما كانت الذرائع لشنها. ولهذا عمد الى تغيير بعض مقاطع النص واضافة بعض الابتكارات الاخراجية. وقد ساعدت فايغل كثيرا في ايصال فكرة بريخت بأداء دورها بإسلوب جاف خال من الانفعالات مما لم يدع أي مجال للمشاهد لكي يتعاطف مع الأم كوراج.
سيطرت فكرة الدعوة الى السلام على عرض المسرحية في برلين في عام 1949، وتركت صدى كبيرالدى الجمهور في ظروف زحف خطر الحرب الباردة . كما انها كشفت بجلاء عن الدوافع الاقتصادية للحرب ووجوب فضح جرائم الحرب المرتبطة ليس فقط بالايديولوجية العدوانية بل بالدوافع المالية لشن الحرب، واظهار ان البزنيس يقف وراء كافة الحروب في زماننا.
وبالرغم من ان سلطات الاحتلال السوفيتية في برلين رحبت بالعرض المسرحي من حيث كونه يجسد فكرة معاداة الحرب ، كما قدمت الدعم الى بريخت ومسرحه ،الا ان بعض النقاد السوفيت وجدوا ان المسرح الملحمي البريختي لا يتفق مع قوانين الواقعية الاشتراكية. وقاد هذا لاحقا الى اتخاذ موقف البرود من أعمال بريخت في بلدان المعسكر الاشتراكي عموما. لكن بريخت حقق نجاحا باهرا لدى الجمهور التقدمي المعادي للحرب في اوروبا الغربية بعد تقديم عروض مسرحية بريخت من قبل فرقة مسرحه " برلينر انسامبل " - في باريس (1954) وفي لندن (1956).
إن بريخت الكاتب المسرحي والشاعر والمخرج المسرحي والناقد الذي بدأ في شبابه يستعد لأن يدرس الطب ثم تحول الى الادب، ولع بدراسة الادب اليوناني القديم وتأثر بالدراما الملحمية اليونانية. وكتب العديد من المسرحيات ومنها " فعل" و" قرع الطبول ليلا" و"ما هذا الجندي وما ذاك " و" اوبرا القروش الثلاثة" و" الخوف واليأس في الرايخ الثالث" و"مهنة ارتورو وي" و" الام كوراج وابناؤها" و" دائرة الطباشير القوقازية " و" حياة غاليلو " وغيرها. ان جميع أعماله المسرحية تعتبر فعلا من ملاحم الادب المسرحي المعاصر.
وتدور حوادث مسرحية " الام كوراج وابناؤها" في أيام الحروب الدينية في اوربا، وبالذات في ربيع عام 1624 حين كان جيش ملك السويد يستعد لغزو بولندا ، بينما يقوم العرفاء في جيشه الذين يعتبرون الحرب الوسيلة الوحيدة لفرض "النظام والحضارة"، بتجنيد الشباب للحملة القادمة. وبرأي العسكر انه بدون الحرب والعنف لا توجد أية أخلاق – وبرأيهم اذا لم يسيطر النظام العسكري فعندئذ يتجول الفرد وفق هواه ، ويقول كل ما يريد التفوه به، ويأكل كل ما يحلو له. فأي نظام في الدولة هذا الذي يسير بدون أوامر وبدون محاصصة في التموين وبدون محاسبة!.

مسرحية الأم الشجاعة
وفي المسرحية، يقوم شابان بجر عربة الأم البائعة المتجولة آنا فيرلينغ (وأصلها من بافاريا في المانيا) التي اطلق عليها اسم "كوراج" أي الشجاعة، لأنها لم تكن تخاف قصف المدافع وازيز الرصاص. وكانت ترافق بعربتها التي يجرها ولداها الكتيبة الفنلندية الثانية للجيش السويدي وتقدم للجنود بضاعتها. علما ان ولديها الشابين وابنتها البكماء كانوا جميعا يحملون ألقابا مختلفة. ولا يعرف أحد بالضبط من هم آباؤهم. اذ كانوا من جنود مختلف الجيوش، وربما قتلوا او اصبحوا في عداد المفقودين. وسرعان ما يجذب قائد الكتيبة ابنها الاكبر ايليف الى الخدمة في الجيش فيلقى حتفه في المعارك . وهكذا تفقد الأم احد اولادها. وبعد مضي ثلاثة اعوام من الحرب تقع الام في أسر جيش العدو لكنها تفلح في تغيير العلم اللوثري على عربتها بالعلم الكاثوليكي وتنجو بجلدها من الخطر. وعندما طلب جنود العدو من ابنها الاصغر شفيتسركاش ان يدلهم على مكان حفظ خزانة الكتيبة، رفض فأطلقوا عليه الرصاص وأردوه قتيلا. وانكرت الأم لدى عرض جثته عليها معرفتها به، بغية الحفاظ على العربة وبضاعتها. وهكذا تواصلت الحرب عدة اعوام وجابت الام كوراج خلالها اراضي بولندا وموارفيا وبافاريا. وفي نهاية المطاف اغتصب الجنود ابنتها وشوهوا وجهها. لكن الام كوراج صبرت لاسيما انها بلغت عندئذ ذروة النجاح في تجارتها .
في عام 1632 يلقى الملك السويدي غوستاف ادولف حتفه وتعلن الهدنة ويحل السلام مؤقتا. ويتهدد الافلاس تجارة الأم كوراج فهي ليست بحاجة الى السلم. ان الحرب مصدر رزقها الاساسي. وصارت تتمنى استئناف المعارك. واستمرت الحرب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك 16 عاما، هلك خلالها نصف سكان المانيا وساد الدمار والجوع في كل مكان. وفي نهاية المسرحية يقتل الجنود الابنة كاترين التي قرعت الطبول لتحذير ابناء المدينة من وقوع مذبحة. وهكذا ابتلعت الحرب جميع ابناء الأم كوراج التي تواصل مع هذا سحب عربتها لوحدها في دروب الحرب ، ويمضي الجنود الى جانبها فتناديهم :" خذوني معكم ..".
ان بريخت في مسرحه الملحمي هو فيلسوف وكاتب مسرحي في آن واحد، لأن اعماله تتجاوز المفاهيم المسرحية المألوفة. وقد اقتبس الكثير في تأليفه للمسرحيات من الاعمال الدرامية اليونانية القديمة ولا سيما مسرحيات سوفوكليس الذي كان معجبا به. ويركز هذا الكاتب الفذ اهتمامه على الاحداث التأريخية الكبرى التي يكسبها في مسرحياته ابعادا اجتماعية ونقدية. انها تتميز بعدة عناصر منها وجود عدة ذروات للحدث الدرامي ومعالجاته والفصل بين زمن الحدث الدرامي وزمن المؤلف ويقدم المؤلف من على خشبة المسرح رواية للأحداث أما النهاية فهي معروفة. وبرأي بريخت ان الحياة في المسرح التقليدي مرئية لكنها غير مفهومة. ولهذا استحدث في مسرحياته شخصية "الراوي" اي الممثل الذي يعلق على الاحداث دون ان يكون أحد ابطالها. ولا يحتاج الممثلون في عروضه الى تقمص الدور .
ان المسرح العربي بحاجة اليوم الى ابداع بريخت وغيره من عباقرة المسرح العالمي بغية الاستفادة من خبراتهم للخروج من حالة الركود في فترة الردة الثقافية التي يمر بها العالم العربي عموما. واليوم يعترف رجال الثقافة العرب انفسهم بتدهور عنصر الابداع ومنه في المسرح،وكأن بلداننا قد خلت من المواهب المتألقة التي عرفت نجيب محفوظ ومهدي الجواهري وغائب طعمة فرمان وجواد سليم ومحمود صبري وعشرات غيرهم .وفيما يخص العراق يمكن القول ان البلاد اصبحت بعد الحروب العديدة التي ابتلي الشعب بها بدون سينما ومسرح وفنون تشكيلية وموسيقى وفنون فولكلورية، وحتى الشعر والقصة والرواية غدت ليس بالمستوى الذي يؤهلها لأخذ المكان الذي يليق بها، ليس على المستوى العالمي بل حتى على المستوى الاقليمي، وفي بلدان العالم الثالث بشكل عام.
وتكتسب مسرحية"الأم الشجاعة" أهمية خاصة اليوم حين تجتاح المنطقة العربية شتى اصناف الحروب ذات السمات الطائفية مرة وسمات التدخل الخارجي بحجة الدفاع عن الديمقراطية تارة أخرى. وتبرز شرائح معينة في المجتمع لا تجد غضاضة في التضحية بأبنائها من أجل كسب الثروة التي لا قيمة لها في غياب هؤلاء الابناء . وتفقد في هذه الأيام القيم الانسانية ومغزى مفاهيم الوطن والحرية والكرامة الانسانية
15/10/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استاذ عبدالله حبه لاتتركنا وحيدين فالعراق في صحراا
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2012 / 10 / 15 - 21:31 )
تحية واحتراما اخي استاذ عبدالله وشكر جزيل لاخينا عادل حبه لتفضله بتزويدي بنتاجاتك التي نحن باشد الحاجة لها لان العراق كان منذ 8 شباط في صحراء قاحله ومنذ عشر سنوات فوضعنا اشد وامر فليس من سلاح مجرم بحق الثقافة والفنون مثل سلاح الحرام
كنا قبل ايام في مقهى شعبي بعمان الاردن محمد مهر الدين وانا وتذكرناك وحدثته عن نتاجاتك التي تسد فراغا كبيرا نعانيه ببغداد والعراق في مجال الفكر والثقافة ونتاجاتك ايضا حتى المترجمه او التي تتحدث عن المجتمعات الاخرى هي اكثر من رشة الماء البارد بوجه من وقع في غيبوبة
للاسف نتاجاتك قلما تكون مقروءه للجميع فالرجاء ايصالها لمواقع اخرى وكذالك للصحافة المكتوبة الجرايد منها والمجلات ولو انني والصديق الذي درس معنا قبل نيف وخمسين سنة الهندسة وصار خبيرا في الصناعة العراقيه ولكنه ايضا بعيد عن ممارسة المهنة العراق اليوم ليس بحاجة للمثقفين وللكفاءات
فالملالي والجهلة مع مليارات عوائد النفط تسد كل الحاجات
محمد مهر الدين يقول بمعرفته معك ورجاني الحصول له على ايميلك ولكنه وكاءنه سمع بان عفيفه اسكندر وطالب القره غوللي دخلا المستشفى ببغداد فهو صار ثالثهم بعمان انحن منقرضو

اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??