الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب: جنة أبي العلاء

عبدالكريم كاصد

2012 / 10 / 16
الادب والفن


(صدر كتاب"جنة أبي العلاء" عن "دارالتكوين"، دمشق2011)


1- الليلة الأولى

عندما انتصف الليل، ونام الأهل، وكاد الصمتْ، أن يبعثَ حتّى الميْت، فإذا بشيخٍ يقف أمامي كملاكٍ هابطٍ من السماء، بلحيةٍ بيضاء، وعصاً سوداء، مقطوعة من حماطة( )، فعلتني صفرة، وانتابتني حيرة، قلتُ: مَن الشيخ؟ ومِنْ أين؟ وكيف اجتزتَ الاقفال إليّ؟ أفي يقظة أنا أم حلم؟ فتقدّم إليّ فاتحاً ذراعيه. قال: أنا صاحب الكتاب الذي بين يديك. قلتُ: ولكنّه كتاب قديم وصاحبهُ ميْت، فمن أنتْ؟ قال: أنا ابو العلاء وقد بُعثتُ فأنزلني ربّي منزلة الأولياء، بعد أن قضيتُ في الأعراف زمناً، لا أعرف فرحاً أو حزناً، حتى دبّ بي الملل، وطلبتُ من الله عزّ وجلّ، أن يقبضني إليه ثانية، فلا جَنة ولا قطوفَ دانية، ولم أكنْ وحدي في مللي، وتقريب أجلي، فمعي خلقٌ كثير من أهل الجَنة، فكأنّ بهم من ضجرٍ جِنة، حتّى سمح لنا الله الغفور الرحيم، وقد ضجر من الشكوى، بزيارة أهل الأرض، لا ليبلونّنا، بل ليبصّرنا بالبلوى، فوقع الاختيارُ عليّ، فحمدتُ الله على النعمة التي آلت إليّ، فكان ما كان من مجيئي إليك، واعتمادي عليك، وفّقني ووفّقك الله في هذه الليلة الظلماء، الخفيّة على الرقباء، قلتُ: وقد استنفدتُ ذهولي، واستعدتُ فضولي، حللتَ يا أبتِ أهلا، ونزلتَ سهلا، ولكن لماذا وقع اختيارك عليّ؟ وكيف اهتديتَ إليّ، وما أنا أهْلٌ لتلك المنزلة، قال: ذلك يسيرٌ على الله ، وإنما هي قصيدة كتبتَها فأعجبتني، قلت: أيّ قصيدة تعني، وقد كتبتُ عنك الكثير؟ قال: قصيدتك (يا أبا العلاء!) ثمّ أنشدنيها:


يا أبا العلاء
أيّها المبصرُ
يا أبي
لقد سرتُ في الهواء
ولم أبلغ الأرض
ولعلّني لن أبلغها أبداً
وقد يدفعني الهواءُ بعيداً
فلا أرى أرضاً
ولا سماءً
ولا ما يشيرُ إليّ
أو ما يشيرُ إليه
يا أبا العلاء
أيها المبصر
يا أبي

قلت وهل حفظتها يا أبتِ!، قال: كما رأيتَ وسمعت، قلتُ: هذا شرفٌ ما بعده شرف، يغنيني عن الطارف والسلفْ، ولكنْ أنّى لقصيدةٍ كهذه أن تخترق السماءَ إليك، وهي أعجز من دابّةٍ على الطيران، والمثول بين يدي من إليه استقيد البيان. قال: هذا تواضعٌ منك يا بنيّ، فالقادمون إلى الجنّة قد كثروا هذه الأيام، وقد أطلعني أحدُهم على قصيدتك، فتشوّقتُ إلى رؤيتك، وحين حانت زيارتي إلى الأرض، كنتُ في حِلّ من الرفض، قلتُ: ليت شعري، أولم يحمل القادمون قصائد أخرى لغيري؟ قال: أجلْ، ولكنني وجدتُ أغلبها إلى التظاهر أقربْ، وإلى التمحّل أنسبْ، وإنما الشعر في ما قرب من الأفهام، وتجلّى في صلة الأرحام، ولا نعمى لمن يتمحّل الشعر، ويخوّض في بحر، وما مديحهم إلا كمديح ابن القارح، وإنما اخترتك لنبوّ فيك عمّا يشين الشعر، من تملّقٍ أو فخر.
ـ وهل تريدني يا ابتِ أن أطلعك على أششششحوال الأرض وشعرائها وأنت الأدرى بها وبهم؟ أولست القائل؟:

وما شعراؤكم إلاّ ذئابٌ
تلصّصُ في المدائح والسبابِ


ولك أبيات ـ ما أكثرها ـ في هذا المعنى:

ما ثعلبٌ وابنُ يحيى مبتغاي
به وإن تفاصح إلاّ ثعلبٌ ضَبَحا


وما أدّب الأقوام في كلّ بلد
إلى المين إلا معشرٌ ادباءُ


فرقاً شعرتُ بأنها لا تغتني
خيراً وأن شرارها شعراؤها




وكيف ترى أحوالهم وهم في السماء؟
ـ ليست بأفضل منها في الارض. الحطيئة انتحى له مكاناً قصيّاً في الجنة فلا يزورُ ولا يُزار إلا نادراً وعلى عجلٍ.
ـ وهل لايزال يعوي في آثار القوافي كما يعوي الفصيل في آثار الإبل، مثلما رويتَ في رسالتك الشهيرة (رسالة الغفران)؟
ـ لقد أبدل الله عواءه بكلبٍ يؤنسهُ ويرعاه. وشاء الله أن تجاورهُ الخنساء في أقصى الجنة المطلة على جهنّم لترى أخويها صخراً ومعاوية وهما في النار حتى رقّ لها الله وأعاد لها أخويها وأسكنهم جميعاً في قصرٍ مجاورٍ لقصر الحطيئة الذي لا يطيق إقامةً فيه.
ـ إنّ قصائدها في رثاء معاوية لا تقلّ أهمية عن قصائدها في صخر.
ـ لم أعدْ أتذكرها.
ـ كقصيدتها التي تبدأها بهذا المطلع الجميل:

ألا ما لعينك أم مالها
لقد أخْضَلَ الدمعُ سربالها

ـ هناك أبو محسّدٍ أيضا يقضي سحابة نهاره نادماً على ميتته، صموتاً لا يحدّثُ أحداً وإنْ حدّث فغمغمةٌ لا تعرف ما وراءها.. أسعفه الله، وأعانه على مصيبته وجراحاته التي لايزال يشكو منها حتى بعد شفائه، وهو، لوحدته، يكاد يستحيل صخرة أو شجرة؟ لا يحركه شعرٌ ولا حورية تمرّ ومن أين يأتيه الشعر وقد هجرالشعرُ أهلَ الجنة فلا يقربُ منهم أبداً.
ـ أتراه يفكّر بإمارة في الجنّة؟
ـ محال. وأنّى له ذلك والملائكه تحوطهُ، والزبانية على بعد ذراعين من الجنّة.
ـ وما سبب كثرة الشعراء في الجنة وهم من ذكرهم القرآن بالسوء؟
ـ لقد عفا الله عن شعراء الارض أجمعين متعلّلاً بالآيات التي ورد ذكرها في القرآن: "والشعراء يتّبعهم الغاوون، ألم ترهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون" ومعتبراً إياهم أطفالَهُ المشاغبين الضالين، إلاّ من حقّ عليه العقاب لجريمة أو معصية لا غفران لها، مع ذلك فإنّ هذه الآيات ظلت تلاحقهم حتى وهم هناك فلا يخلو أذان بين فترة وأخرى من ذكرها، ولعلّ أثقل الأصوات على الشعراء صوت بلال حين يترنّم بها وكأنه يغني. وهذا ما يدفعهم إلى السخرية منه والهزء به حين يمرّ، وقد يتبعه بعضهم مردّدين وراءه: "أسهد أن لا إله إلاّ الله، واسهد أن محمداً رسول الله" إذ كان بلال الحبشيّ مؤذن الرسول يقلب الشين سيناً، وكان النبي لا يضيره ذلك ويقول "سين بلال عند الله شين" أو يتبعونه صائحين "نحن الغاوون وأنت الشاعر" فيلعنهم بلال بأفحش الألفاظ ويضحك أهل الجنة، ولا ينتهي هذا المشهد حتى بالعرائض المرفوعة إلى الله والتي كثيراً ما يمزقها الملائكة في الطريق..
ـ وما يفعل الشعراء في الجنة؟
ـ مطرقون ابداً. ألسنتهم شتى ولولا إطراقتهم الدائمة لسمعت لهم ضجيجاً أين منه ضجيجُ برجِ بابل.
ـ وهل لنسيانهم علةٌ؟
ـ كيف لا ينسون وقد رأوا من الأهوال ما يشيب له الولدان، بعد ذلك الحساب العسير والوقفة التي ترتجّ لها حتى الأفلاك، وبعد ذاك العذاب الذي وقع لهم قبل مجيئهم الجنة، ولعلّ أخفّ الأسباب عبورُ السراط الذي يكاد يكون مستحيلاً.. تعبره فتخال نفسك تسير فوق هوّة لا قرار لها وأنت تهتزّ ذات اليمين وذات الشمال، لا تدري ألك رأسٌ حقّاً أولك قدمان؟
كتب الخليل بن أحمد الفراهيدي أبياتاً في العاجلة تغنيها حوريات الجنة، أحياناً، ويرقصن على إيقاعها، وحين سئل: لمن هذه الأبيات يا أبا عبدالرحمن؟ لم يحر جواباً، معتذراً بعبور السراط الذي لم يترك له ذاكرة لكي يستعيد ما مضى. فإذا كان هذا حال أذكى العرب في عصره فما بالك بالشعراء وهم من عُرِفوا بالسهوم والنسيان ولاسيّما أولئك الذين أبدلت جلودهم في جهنم مراراً.
ـ هل تقصد تلك الأبيات المنسوبة إلى الخليل والتي أولها:

إن الخليط تصدّعْ
فطر بدائك أو قعْ

لولا جوارٍ حسانٌ
مثل الجآذر اربعْ

أم الرباب وأسما
ء والبُغوم وبوزعْ

لقلتُ للظاعن:اظعنْ
إذا بدا لك، أو رعْ


ـ نعم هي ما أقصد.
ـ ألمْ تسعف الخمرةُ على قول الشعر؟
ـ كيف تسعف لمن اعتاد السكر وهي كعصيرالعنب حلاوة حتى أنهم أصبحوا يتجنبون المرور بأنهار الخمرة لئلا تذكرهم بخمرتهم الحبيبة، مطبوخة ونيئة.
ـ وما خبر امرئ القيس؟
ـ إنه الآن أضحوكة المجالس؟
ـ لم؟
ـ كلّ يوم وهو يسوق الجمال في موكب إلى بركة نائية في الجنة ليضع لواءه هناك أو لينحر ناقته ويشوي لحمها وسط ضحك الحوريات وحين تستوي الناقة حيةً بعد الذبح، يعلو ضجيجهنّ حتى يصل أسماعنا، فيأخذن يترامين بشحمها وهي واقفة تنتظر صعود الحورية التي تسمّي نفسها عنيزة إلى الهودج، عندها يبدأ أمرؤ القيس توسلاته التي تضحك الحجر، و يعود الموكب بعد أن أدّى كلّ ما عليه من مشاهد مصطنعة مكرورة عبر ممر الشعراء الذين يستقبلونه دوماً بصفيرهم وتعليقاتهم بألسنتهم المختلفة مما يزيد الموكب طرافة والحوريات تغنجاً، ولعلّ أكثر الشعراء حماساً للمشاركة في هذا الموكب الظافر هو شاعركم محمد مهدي الجواهريّ الذي يغيظ بحركاته وهتافه شعراءَ كثيرين، إلا أن أكثر الشعراء أصبحوا يسأمون هذا المشهد ويتوارون عند حدوثه. أما امرؤ القيس فهو الوحيد الأشد حزناً بعد انتهاء المشهد وتواريه في خدر عنيزة.
ـ ومَنْ من الشعراء العراقيين الذين التقيت بهم هناك وتحدثت إليهم؟
ـ كثيرون،من بينهم الجواهريّ الذي سبق ذكره، والرصافيّ، والزهاويّ، ، و بدر والبياتي.
ـ وكيف وجدتهم؟
ـ جاءني البياتي يوماً وقال لي أنه كتب عني قصيدة لم يتذكرها فأدنيته منّي وحين سألته عن شعراء الارض لم يذكر حسنة لهم. وله عداواته العديدة في الجنة مع شعراء كثيرين فلا يحييه أحدٌ ولا يحيي أحداً، ولاسيما بعد وصول الجواهريّ وما لاقاه من حفاوة قلّ نظيرها إذ استقبله الله جلّ جلاله والملائكة استقبالاً حافلاً مما أثارحفيظة البياتي الذي دخل الجنة منهكاً يهدّهُُ التعب من رحلته الشاقة إلى السماء فلم يستقبلهُ غير الحارس رضوان الذي عامله بجفاءٍ كما قيل. لماذا؟ لا أدري. ربما لكراهته الشعر فرضوان مشهورٌ بهذه الكراهة، غير أن البياتي لا يعرف ذلك.
أسرّني البياتي أن كلّ ذلك جرى لأن الله والملائكة ورضوان لا يحبّون الشعر الحرّ، مع أنه قريب الشبه بآيات القرآن، فقلتُ له أواسيه: مهلا..! إن الخالق، سبحانه، لا يتوقف عند شكلٍ من أشكال الشعر. مهما ادّنى أو ارتفع. ثمّ أن رضوان مازال لم يتعلم العربية وهو لا يتحدث أبداً. ومن سمعه قال إنه يتحدث الآرامية. خفّفتْ كلماتي هذه من عذاب البياتي إلاّ أن ما أغاظه أن الله لم يجلب الملائكة وحدهم في استقبال الجواهريّ بل الجنّ ايضا لينقروا الدفوف ويعزفوا احتفاءً بالشاعر وكأنّ ثمة عرساً في الجنة. وهذا خرق لقوانين الجنة وياليتها خُرقت كما قال بعض الشعراء في أعراف أخرى تستدعي الخرق، وخرقُها أولى من هذا الحفل العابر الذي أثار سخرية الشعراء ولاسيما شاعرين إفرنجيين متلازمين كتلازم الشنفرى وتأبط شرّاً فحيثما ذهبتَ وجدتهما معاً.
ـ من هما؟
ـ لا أتذكر اسميهما ولكنهما شاعران يقضيان نهارهما في شجارٍ دائم.
ـ وهل يتكلمان العربية؟
ـ أنّى لهما ذلك وهما لا يعجبهما العجب نفسه.
ـ هل تقصد رامبو وفرلين؟
ـ نعم هذان هما الاسمان اللذان يعرفان بهما في الجنة، واللذان ينطقهما شعراؤكم العراقيون ممن دخلوا الجنة حديثاً، نطقاً صحيحاُ لا شائبةَ فيه، بل إنني رأيتهم يتوددون إليهم رغم أنهم لا يعرفون لغتهما.
ـ وكيف كان ردّ فعل الجواهريّ لهذا الاستقبال؟
ـ كان مشدوهاً لا يعرف ماذا يقول وقد خانهُ الشعر ونسي كلّ شئ يتذكّرهُ في الارض، بعد عبوره السراط، فأخذ يتمتم يفتح فمه ويغلقه دون أن تخرج لفظة واحدة منه حتى استدعى ذلك ضحك الشعراء وفرحتهم بفشل الاحتفال ولاسيما الشاعرين الفرنجيين صاحبيك...
ـ ليسا بصاحبيّ ولكني قرأتُ لهما وأحببتُ شعرهما، لكن مادام الأمركما قلت يا أبتِ فلِمَ غيرة البياتي؟
ـ احتجاجاً على الخالق وملائكته الذين آذوه بالتسمّع لنمائمهِ وشكاواه ونقلها إلى الله الذي أغضبتهُ لجاجة البياتي فلم يمنحهُ ابتسامة، دون الشعراء كلهم، أثناء جولاته المسائية في الجنّة.
ـ وماذا عن بدر؟
ـ إنه يقضي جلّ وقته قبالة نهر أطلق عليه اسم بويب، هامساً ليله ونهاره:" بويب..بويب" ولاشئ غير ذلك، لعلّ هذا مقطع من قصيدة كتبها في العاجلة ونسيها في الآخرة. لم يشاطره أحدٌ حزنه فالشعراء في الجنة في شغلٍ شاغلٍ عن وساوسه وأحزانه..
ـ وهل يعجبك أن تلتقي ببعض الشعراء هنا على الأرض؟
ـ لِمَ لا..إذا صدف أن التقينا بواحدٍ منهم؟ هل ثمة شعراء أحياء كثيرون على الأرض من الفرنجة والعرب؟
ـ نعم كثيرون.
ـ ألا تذكر لي واحداً منهم؟
ـ أدونيس
ـ وهل هذا شاعر فرنجي أم عربيّ؟
ـ عربيّ.
ـ ولماذا يسمّي نفسه بأدونيس؟
ـ هكذا ارتضى أن يسمي نفسه.
ـ وهل شعره كاسمه..فرنجيّ عربيّ في آن واحد؟
ـ بالضبط.
ـ ماذا تعني بالضبط؟ هل يكتب شعره بالحروف اللاتينية؟
ـ لا ولكنّه يتقعّر ويتثاقف ويستعرب ويستغرب، فلا تدري أهو شاعر عربيّ أم فرنجيّ؟
ـ هذه هي المرّة الأولى في حياتي أرى فيها شاعراً كهذا مستعرباً مستغرباً.
ـ وله قصائد فيك، وبالمناسبة فهو من محبيك.
ـ وبأية لغة سأحدّثه؟
ـ كما تتحدّث معي.
ـ ومن هناك من الشعراء غيره؟
ـ عبدالمعطي حجازي؟
ـ ما هذا الأسم؟ عبدالمعطي؟ وهل هو كثير العطاء.
ـ إنه على العكس تماما انقطع عن الشعر منذ سنين، لكنّ له قصيدتين أو ثلاثاً هي من عيون الشعر.
ـ وكيف يقطع كل هذه المسافة بين الإجادة والضعف؟ ألا يتعبهُ ذلك؟
ـ لهذا انقطع عن الشعر.
ـ أثمة شعراء آخرون؟
ـ سعدي يوسف.
ـ نعم سمعتُ عنه من بعض القادمين إلى الجنة.
ـ كيف هو الآن؟
ـ شيخٌ طاعن؟
يحارب ذات اليمين وذات اليسار.
ـ يحاربُ مَنْ؟
ـ نفسَهُ ربّما! مدعياً إنّه يحارب الطواحين
ـ وما شأنهُ والطواحين؟
ـ هذا ديدنهُ.
ـ واين هو الآن؟
ـ في الريف.. الريف الإنجليزي.
ـ ما الذي تقول؟ هذا اسمه أدونيس، وذاك في الريف الإنجليزي، والثالث عبدالمعطي ولا عطاء له، ما هذه الفوضى؟ أهي في العالم أم في الشعر؟ وأنت اين تسكن الآن؟ ما اسم مدينتك التي هبطتُ إليها؟
ـ لندن
ـ ما الذي أسمعه؟
ـ هذا هو الواقع.
ـ هذا ليس واقعاً.. إنّه الخيال بعينه.
ـ شعراء في بلاد الفرنج! وهل في بلاد العرب شعراء من الفرنج؟
ـ كيف يكون هناك شعراء فرنجة والشعراء العرب أنفسهم هاربون من بلدانهم؟
ـ عجباً؟
ـ ولماذا؟
ـ لأنها لم تزل كما قلتَ:

مُلّ المقام فكم أعاشرُ أمةً
أمرتْ بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعيةَ واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها


ـ عجباً! كل هذا الزمن الذي مرّ، ولم تصلح هذه الأمة أمورها. شئ محزن حقّا.
ـ وهل صلحتْ الجنة لتصلح الأرض؟
ـ ألم تقلْ أن عالمها ليس بأقلّ سوءاً من الأرض؟
ـ أجلْ.
ـ وكيف تتفاهمون في بلاد الفرنج؟
ـ بلغتهم حتى أصبح الشعراء وخاصة العراقيين منهم يرطنون بكلّ اللغات يصيبون ويخطئون. ولعلّ حالهم أفضل من شعراء الفرنجة في الجنّة.
ـ لم يتعلم واحدهم لغة القرآن قطّ. ومن يتكلم منهم العربية يرطن بها فلا تفهم منه شيئاً. لعلّه يتحدّث لهجات بعض القبائل التي تسكن في الشمال من أفريقيا، أو الشرق منها، ومن بينهم صاحبك الذي ذكرته لي.
ـ تقصد رامبو
ـ نعم
ـ ولكن ألم يحاول أهلُ الجنة تعليمهم؟
ـ حاول الكثيرون ومن بينهم الأصمعي والخليل بن أحمد الفراهيدي، والاخفش، وأساطين اللغة فلم ينفع الدرس نحويّاً أو لغويّاً بل أنه أدّى إلى خلافات النحاة ثانية وهذا ما سرّ الشعراء فجعلهم لا يبالون بالدرس ويزدرون النحاة وطرائقهم.
ـ وفي معمعة الأجواء هذه ما يفعل المتصوفة؟
ـ تعرف أنني لا أحبهم.
ـ أعرف ذلك فأنت صاحب القول الشهير:

ارى جيل التصوف شرّ جيل
فقل لهم، وأهون بالحلولِ

أقال الله حين عشقتموهُ كلوا
أكل البهائم وارقصوا لي


ـ بعضهم غائبون عن أنفسهم دائماً، في حضور الله أو في غيابه، والبعض الآخر لا همّ لهم سوى الأكل ومعاشرة الحوريات وإرهاق الولدان المخلدين بطلباتهم التي لا تنتهي، فلا يكتفون ولا يطعمون الغمض إلا وهم يحركون ألسنتهم ويلوكون بأسنانهم. بعض الفرائس التي ألهمها الله أن تتكلم كالأسد أخذت تحتجّ بنهمِ أهل الجنة وتقول: "أليس أحدكم في الجنة تقدّم له الصحفة فيأكل منها مثل عمر السماوات والأرض، يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا أفترسُ ما شاء الله. وكانت من قبل يكتفي الواحد منها بشاةٍ عمياء فيقيم عليها الأيام لا يطعم سواها شيئاً".
ـ ما ترويه يذكّرني بقصة قراتها عن شبحٍ مرحٍ يتلف أغراض الناس ثمّ يندم فيرسل إليهم الهدايا في أعياد رأس السنة الفرنجية ومن بينها حلويات شتى غير أن الناس يكتشفون في ما بعد إنها مجرّد أشباح. كلما التهموها عادت ثانية، فلا يكتفون أبداً. لقد افزعني التعبير الذي ورد على لسان أحد الفرائس:" نأكل منها عمر السماوات والأرض" مثلما أفزعني التعبير الآخر:" يلتذّ بما اصاب فلا هو مكتفٍ ولا هي الفانية" أليس هذا شبيهاً بالجوع؟
ـ أجل وهذا ما دفع بأحدهم أن يعتزل أهل الجنة ويصرخ: "الجنة فوق بطون العباد".
ـ ومن هو يا أبتِ؟
ـ تذكرتهُ أجل، الغزالي.. أبو حامد الغزالي.
ـ وكيف يحتمل الحلاج ذلك، رغم أنك لا تحبه؟
ـ إنه في غيبوبةٍ دائمة لا يدري ما يجري حوله.
ـ وأبو يزيد البسطامي؟
ـ تراه في الجنة ويداه ممدودتان، دوماً، إلى النار كالمجنون، وهو يصرخ: أجعلوني فداءً للنار وأهلها.. اجعلوني وقوداً للنار وأهلها! ولم يكفّ عن صراخه حتّى جاء عشرة ملائكة بسلاسل من حرير ليبعدوه عن النار. ومرّة رأى يهوديّاً في النار فقال: ما هذا؟ ثمّ توجّه إلى الله غاضباً هبه لي! أيّ شئ هذا حتّى تعذّبه؟ فزجره الله لكنّ ابو يزيد أو طيفور كما يسميه أصحابهُ من متصوّفة الجنّة ظلّ يجمجمُ ويهمهمُ كأنه فرسٌ حرون مربوطة ثمّ علا ضحكهُ حتّى أرعبَ حوريّات الجنّة، وهو ما زال ممتنعاً عن شراب ماء الجنّة حتّى يبستْ شفتاه وصارتا كأنّهما حشفٌ يابسٌ فلا يكاد ينطق، وإذا نطق فلا تسمع منه غير "حاسبني، حاسبني" فيقول الله: "لمَ يا عبدي؟ فيطرب أبو يزيد ويعود إلى الرقص كالطفل فرحاً بكلمة "يا عبدي" التي كان يبتغيها من وراء غضبه. بعض الخبثاء من أهل الجنّة علّق على هذه الحالة: "الله من وراء القصد"، غير أنهم كانوا يتحاشون أن يسمعها لئلاّ يشتطّ في غضبه فيكسر كأسَ محبّته على رؤوسهم.
رأيته مرّة جالساً فحيّيتهُ فلم يردّ التحيّة فسألته: "لِمَ لمْ تردّ التحية يا أبا يزيد؟"
قال:"أهل الجنّة محجوبون بمحبّتهم حتّى في الجنّة"
قلتُ له: "ولمَ؟"
أجابني: "وأين أنت منّا يا أبا العلاء! لقد ابتلاني ربّي بالإيمان في الدنيا والكفر في الآخرة". فلم أتوقّفْ عنده ومضيتُ لشأني مردّداً قوله في العاجلة:" سبحان الذي لايستأنس بغيره".
قلت لابي العلاء: أو تدري أن ابن كثير روى عن الحافظ أبي نعيم عن أبي بكر أحمد قال: أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر حمارٌ أسود فوقف بين يديه فقال: من أنت؟ قال: أنا عمرو بن فلان، كنّا سبعةَ أخوة كلّنا ركبنا الأنبياءُ وأنا أصغرهم، كنتُ لك فملكني رجلٌ من اليهود، فكنتُ إذا ذكرتك كبوتُ به فيوجعني ضرباً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنت طيفور( وفي رواية أخرى يعفور). فما معنى طيفور يا ابتِ؟ قال: علمي علمك، ولكن ما هذا الحديث الغريب! وما هذا اليعفور أو الطيفور؟ لو كان صحيحاً لالتقيت بطيفور في الجنّة. ولكن لا أكتمك أنّني التقيتُ بحمير كثر آنس لي في الجنة من الناس وألطف معشراً يروون حكايات عن البشر لا يصدّقها عقل، ولولا ثقتهم بي لما ردّدوها لأنّ بهم خشية من النقل بعد أن رأوا أنّ بعض الملائكة لا يجدون حرجاً في نقل ما يأنفه السمعُ إلى الخالق البارئ الذي لا يحول بينه وبين عبده حائل، فكان يقول اتركوني وعبدي.
قلت لابي العلاء: لعلّ هذا خير ما يروّح به الناس والحمير عن أنفسهم. قال ما تقصد؟ قلت: ما يفضون به، ففي الإفضاء راحةٌ للنفس، كما تعلم، ولكن قل لي يا أبتِ وما يفعل الحمير في الجنّة؟ قال: إنهم يسيرون مطأطئي الرؤوس، مطرقين كالشعراء وقد ارتسم الحزن على وجوههم، لا يكترثون للرائح والغادي، ونادراً ما يحدّثون راكبهم. قال لي أحدهم: إنه ضجر من الجنّة، فلا يطيق أحداً أن يركبه، ولا يطيقُ انفرادَهُ أيضاً، وهو يعيش على ذكرياته في الارض. مرّة صادفت يعفور، أقصد أبا يزيد لا الحمار، وهو غائب عن وعيه يركض كالمجنون حتّى أفزعهم، فلا يعرفون ماذا يفعلون حتّى أتى بضعة ملائكة ليحملوه إلى قصره الذي لم يأوِ إليه قطّ.
ـ حدّثني يا أبت عن الحمير!
ـ وما شأننا بالحمير وهي أكثر من عباد الله؟
ـ ولكن ما سرّ كثرتها في الجنّة؟
ـ لأنها لم تسئ لأحدٍ ولم ترتكبْ معصيةً أو حماقةً وهي إلى الوداعة أقرب ولعلّها أقرب المخلوقات إلى الأطفال.
ـ وأيّ جدوى في كثرتها وهي تتشابه حتى لا تكاد تميّز بعضها عن بعض؟
ـ وكذلك حال الكثير من البشر وقد تقول الحمير الشئ ذاته عنّا.
ـ هذا صحيح.
قرأت مّرة لشاعر فرنسيّ طريف غير معروف لأبناء جلدتنا، واسمه فرانسيس جام ، قصيدة بعنوان (صلاة من أجل الذهاب إلى الجنة مع الحمير). ما أحراني أن أقرأها لك! ما أظنّك التقيته في الجنّة أو الأعراف ولعلّ مسكنه النار، إن لم يتمّ التعرف عليه، فهو متواضع، مجهول. لا أدري لماذا؟ مع أن شعره يفيض عذوبة ورقة وإنسانية وقد هالني الأمر أنّ مترجماً عربيّا ترجم مرة مختاراتٍ لفترة امتدت مئة عام من الشعر الفرنسي، ضمت من هبّ ودبّ من شعراء فرنسا حتى من لا علاقة لهم بالشعر. ولم يورد ذكراً لهذا الشاعر الرائع ولعلّ ما حدث من إهمالٍ أو نسيان أو جهل من حسن حظه فالترجمة واختيار القصائد كبياض هذا الشاعر الذي يدعي أنه يكتب البياض.
ـ وما هذا البياض؟
ـ بياض الورقة، وهو، مع ذلك، يتصور نفسه ندّا لشاعر مشهور سبق أن ذكرناه في حديثنا هذا، مفتعلاً الشجار معه على بياضٍ من سواد الأمور.
لندعْهُ جانباً، فأمثاله كثر، ولأقرأ لك القصيدة:

صلاة من أجل الذهاب إلى الجنة مع الحمير

أيها الربّ
إن كان عليّ المجئ إليك
فليكن ذلك في يوم عيد تعجّ فيه الدروب بالغبار
أرغب مثلما كنتُ على الأرض أبداً
أن أذهب ، عبر أيّ طريق أشاء،
إلى الجنة
حيث النجوم طالعة في وضح النهار
سأتخذ عصاي وعلى الطريق الواسع
سأمضي قائلاً للحمير أصدقائي
أنا فرانسيس جام في طريقي إلى الجنة
فما من جحيم في بلاد الإله الطيب
أقول لهم: تعالوا معي يا أصدقاء السماء الزرقاء الوديعين
أيتها المخلوقات الفقيرة المحبوبة، يامن بهزة مفاجئة من الأذنين
تبعدين الذباب، الضربات الموجعة، والنحل المطنّ.

دعني أيها الرب أقف أمامك بصحبة هذه المخلوقات
التي أحبها كثيراً لانها بعذوبة تحني رؤوسها
وتقف ضامة أقدامها الصغيرة
بطريقة عذبة تثير الإشفاق
سآتيك متبوعاً بآلاف الآذان
متبوعاً بتلك المخلوقات التي تحمل السلال عند خواصرها
وتلك التي تجرّ عربات المهرجين
والعربات المحملة بمنفضات الريش والصفيح
وتلك التي تتكدس العلب على ظهورها حدْبةً
الحمير الأناث المنفوخة كالقرب، ذات الأقدام المكسورة العرجاء
وتلك التي يلبسونها سراويل صغيرة تحت الركبتين
لأنّ جروحاً زرقاء نازفة
سبّبها ذباب يتجمع حول الجروح

إلهي
حين آتيك مع هذه الحمير
فلتوص ملائكتك أن يقودونا بسلام
إلى الأنهار المعشوشبة حيث يرتعش الكرز
لامعاً مثل أجسادٍ تضحك لصبيات جميلات
ودعني منحنياً،
في مقام الأرواح هذا،
على مياهك المقدسة،
أكن شبيهاً بحميرك وهي تعكس فقرها المتواضع الوديع
في صفاء الحبّ الأبديّ

ـ إنه شاعر جميل حقّاً.
ـ إنه يشبهك في نواح ما فأنت محبّ رفيقٌ بالحيوان يا أبتِ. ما أرقّ بيتيك هذين إن كنت تذكرهما:

أرى حيوان الارض يرهب حتفهُ
ويفزعهُ رعدٌ ويطمـــعهُ برقُ

فيا طائرُ ائمني ويا ظبيُ لا تخفْ
شذاي فما بيني وبينكما فرقُ


ـ شكراً لك على هذا الإطراء.
ـ ولكن ما يستوقفني في شعرك ولاسيما في لزومياتك أنك لم تذكر الحمير في شعرك. لقد ذكرت الحمامة، والديك، والثعلب، والأسد، والنحل، والغراب، والذئب، وأتيت بالبغل شاهداً في حواريتك الجميلة (رسالة الصاهل والشاحج)، وحرّمت الحيوان وامتدّ حبك للفرائس، وهذا شئ نادر لم نجد نظيره في الآداب الأخرى، ألست القائل:

أذود عن الفرائس ضارياتٍ
وأعلم أنّ غايتها افتراسي


ـ كفانا الله في الآخرة ما أعوزنا في العاجلة.
ـ حين قرأت قصيدتيك عن ثعالة (الثعلب)، والديك لم أتمالك نفسي إلاّ أن أكتب عنهما، مثلما ملكك الجاحظُ كما يقول باحثٌ من عصرنا: "إنّ الجاحظ ملك المعري إلى أبعد حّد ولاسيما في الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعري، وفي رسائله التي أدارها على السخرية الحادة اللاذعة".
ـ وما اسم هذا الباحث؟
ـ الشيخ عبدالله العلايلي وهو لبنانيّ الأصل، وله رأي طريف هو أنك صاحب فلسفة تنحو فيها لا إلى وحدة الوجود بل وحدة الموجود.
ـ وما هي وحدة الموجود؟
ـ يفسرها كالتالي:" معناها أن الموجد الذي معنى فساده في تكثره يتحرك إلى توحد موجوديته بالله، وليس يتحرك إلى وحدة وجوده بالله".
ـ لم أفهم ما يقصد هذا الشيخ.
ـ ولا أنا . ما موضع قوله هذا من قولك:

قلتمْ لنا خالق حكيمٌ
قلتُ صدقتم كذا نقولُ

زعمتموه بلا مكانٍ
ولا زمانٍ الا فقولوا

هذا كلامٌ خبئٌ
معناه ليس لنا عقولُ


ـ هلاّ ذكرتني بما قلتُ عن ثعالة؟
_ ثعالة حاذر من أميرٍ وسوقةٍ
فمن لفظ صيدٍ جاء لفظ الصيادنِ( )
ولا تتخذ من آل حواء صاحباً
وغيرهم إن شئت فاصحب وخادنِ
ـ وماذا كتبتَ أنتَ؟
-لا أميرَ ولا سوقةٌ
يا ثعالة!
فاحذرْ
إنّ لي أخوةً بين تلك الثعالبْ

لا سميعَ ولا سامعٌ
يا ثعالةُ!
فانظرْ
أقبل الصائدون من كلّ جانبْ

ـ جميل. حبّذا لو ذكّرتني ببضعة أبياتٍ من قصيدة الديك أيضا فقد بعُدَ عهدي بها.
ـ إنها قصيدة طويلة تبلغ سبعةً واربعين بيتاً سأورد منها الأبيات التي انعكست في قصيدتي كلمات وأخيلة:


أياديك عدّت من اياديك صيحة
بعثت بها ميت الكرى وهو نائمُ
هتفت فقال الناس أوس بن مُعيرٍ
أو ابن رباحٍ بالمحلة قائمُ
عليك ثياب خاطها الله قادراً
بها رئمتك العاطفات الروائمُ
وتاجك معقودٌ كأنّك هرمزٌ
يباهي بها أملاكه ويوائمُ
وعينك سقط ما خبا عند قرّةٍ
كلمعة برقٍ مالها الدهر شائمُ
وما افتقرت يوماً إلى موقدٍ لها
إذا قرّبت للموقدين الهشائمُ

أما قصيدتي عن الديك فهي:


صعدتْ نجمةٌ كالنعامةِ
عيناكَ برقٌ
وهذي الثيابُ الجميلةُ
سودٌ وحمرٌ
كأنّكَ هُرْمُزُ
أيّ المواقدِ شُبّتْ !
وأيّ المُدى قُرّبتْ !
أيّها الديكُ
يا ملكََ المحصنات
ويا أوسُ
يا ابن رُباحٍ
ويا صيحتي
حين ينبعثُ الميْتُ في صيحتي


وما بين ثعالة والديك يمر الزقّ أمام المسجد كما لو أنه حيوانٌ ثالث فيدعي ابنُ القارح أنه عندما أبصر الزقّ من باب المسجد أسرع ووجأه لكن الخمرة لم تنسكب من الزق وهذا ما كذّبه الزق الذي قال إن ابن القارح لم يره ولو رآه لتبعه مما خلّف ندماً شديداً لدى ابن القارح:

ما رواه المعرّي عن ابن القارح:


من باب المسجد
أبصرتُ الزقّ يمرّ
قال ابن القارح
فوجأْتهُ..( )
لكنْ لم ينسكب الخمر
قال الزقّ:
"من باب المسجد
أبصرتُ ابن القارح
فأشرتُ له أن يتبعني"
قال ابن القارح:
"ما أجهلني
لو صحّ الأمر!"


كلّ هذا يذكرني بمناظرتك التي رواها ياقوت، والتي جرتْ بينك وداعي الدعاة أبي نصر هبة الله بن عمران، في تحريم الحيوان. أحسستُ وكأنك دُفعتَ إليها دفعاً يا ابتِ، لاسيما وأنت القائل:

غدوت مريضَ العقل والدين فالقني
لتســمعَ أنباءَ الأمور الصحائحِ

فلا تأكلن ما أخرج البحرُ ظالماً
ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائحِ


ـ هذا لا شكّ فيه، أراحنا الله من دعاواه وإلحافه وسرفه في المحاججة.
ـ أظنّ يا أبت أنّ الوقت حان لتستريح، بعد هذه الرحلة الشاقة عبر أقطار السماوات.
ـ الحديث معك ممتع، يابنيّ وفي أرضكم ثمة ما هو جديد دوماً.

* * *


2- النهار الأول



المكان نفسه.
الوقت نهاراً.

ـ عمتَ صباحاً يا أبتِ
ـ عمتَ صباحاً يا بنيّ
ـ كيف كانتْ ليلتك؟
ـ نمتُ نوماً عميقاً بلا أحلام.
ـ هذا حسنٌ، أما أنا فحلمتُ أنني في الدار الآخرة وسط الشعراء وصمت الحوريات ثمّ أفقت مذعوراً لا أدري أأنا حيّ أم ميْت.
ـ ومن التقيتَ بهِ من الشعراء هناك في نومك؟
ـ لم التق بأحدٍ أعرفه. جهدتُ أن أتعرف على واحدٍ منهم فلم أستطعْ. كانت وجوهُهم صامتةً حتى خلتُ أنني في صحراء وليس في جنة بشرٍ والحوريات يمررن ولا يلتفتن. لم يكن لي وجهة فلم اعرفْ أين أذهب أو أجئ، ولم يمنّ عليّ الله بأحدٍ لأسألهُ عمنْ أعرفهم. كانت جنة غرباء موحشة بأشجارها وأنهارها وبركها وقصورها النائية، وحين تراءى لي الملائكة بأجنحتهم التي تصطفق ووجوههم الشمعية المخيفة بجمالها وذهولها وتسبيحها الصامت أصابني الذعر، فهربتُ ناحية أرضٍ خلاء لم تكن خلاءً وإنما هي محتشدة. بماذا؟ لا أدري ثمّ أفقت مذعوراً وحسبتني ميتاً. كان حلماً مخيفاً لن أنساه ولا أتمنى بعده جنة، وعذرتُ الشعراء وما يلقونهُ من ضجرٍ وسوءِ فهمٍ من ملائكة، أوأشياعٍ من أهل الجنة.
ـ لا تثريب عليك، إن هي إلاّ أضغاث أحلام. فالجنة أفضل مما تصف في حلمك على الرغم من كلّ منغصاتها وأثقالها. قل لي وأين هو المكان الآمن للإنسان في هذا الكون الشاسع؟
ـ أردتُ أن أسالك البارحة ولكنني أرجأت سؤالي، لئلا أجهدك وأنت القادم من عالمٍ آخر، عن الشاعرين الفرنجيين، هل التقيت بهما أو اطلعت على بعض ما كتباه؟
ـ لماذا أنتم، العراقيين، مهتمون بهذين كلّ هذا الاهتمام وكأنهما أبو تمام والمتنبي؟
ـ إنهما شاعران شغلا العالم أجمع مثلما شغلنا أبو الطيب المتنبي وأبو تمام ولا يزالان؟
ـ أجل، التقيت بهما ولم يكونا مهتمَين باللقاء أو الحديث عن الشعر، ولاسيما أصغرهما المدعو رامبو, وكان مترجمنا شاعراً سوريّاً عاش في العراق طويلاً عرّفني عليه البياتي يدعونه خليل الخوري هل تعرفه أو سمعتَ به؟
ـ كيف لا ولي معه قصصٌ حينما كنتُ طالباً في جامعة دمشق، سأرويها لك فيما بعد؟
ـ حين وصل خليل الجنةَ لم أتعرف عليه أوّل الأمر، ولكنه يلفتُ انتباهك بوجهه الشاحب وعينيه الحمراوين من أثر سكرٍ قديم ونحافة غريبة على أهل الجنة من الشعراء التي أصبحت بدانتهم موضع قلقٍ للحوريات وللولدان، فقد كثرت طلباتهم وثقلت حركتهم وبات التصرف معهم على شئ من التكلّف والعنت.
ويبدو أن الأنهار وأطعمة الجنة ومثول الحوريات لم تنفع معه، فهو منحنٍ دائما على أنهار الخمر كالطفل ليشرب براحتيه دون أن يرتوي حتى أصبحت له نظرةُ وحشٍ ـ طفل. قلت له يوما بعد أن عرّفني عليه البياتي مارأيك أن تترجم لنا قصيدة واحدة لكل من هذين الشاعرين الفرنجيين اللذين شغلا أهل الأرض لنعرف منزلتهما؟، فاعتذر بذاكرته الضعيفة إلاّ أنه جاءني بعد يومين معتذراً لما يحمله لي من محبةٍ. كيف لا وأنا ابن بلده ومعلمه كما قال لي، فترجم لي قصيدة بعنوان (ديمقراطية) لرامبو شارحاً هذه اللفظة بلفظة أخرى هي الشورى وكأنني من أعوان ابن حنبل فقلت له يا خليل لا تترجم لي الكلمات الغريبة بكلماتٍ أشدّ غرابة عليّ وإن ألفتُها ولكن اشرحْها كما تفهمونها أنتم أهل الأرض في يومكم، فاعتذر ثانية، وهو لكثرة اعتذارهِ وتلكئه في الترجمة أحرجني حقاً، حتى كرهتُ الساعة التي دعوتهُ فيها ليعرّفني بهذين الشاعرين ويترجم لي أشعارهما. قرأ لي في الحقيقة قصيدة لا رأس لها ولاذنب وحين رآني أهز رأسي دون أنْ يفهم القصد، اعتذر ايضاً، فقلتُ له ياخليل لا تكلّف نفسك ما لا تطيق.
ـ نعم لديّ ترجمته لهذه القصيدة في كتاب ولو سمحتَ لي فأنني سأقرأها لك لعلّها - وآمل ذلك أن تذكّرك بالأصل:


تذهب الراية إلى المنظر الدنس، ولهجتنا الباتوا تخنق الطبل
في المراكز سنغذّي المومسة الأكثر كلبية،
سننحر الثورات المنطقية
في البلدان المبهرة والمسقية
في خدمة أبشع الاستغلالات الصناعية أو العسكرية
وداعاً يا هنا ما همّ أين، حديثي الإرادة الخيّرة، سننال الفلسفة الكاسرة،
جهلاء بالنسبة للعلم، دون مبادئ بالنسبة للرفاهية، الانفجار للعالم المولي، إنها المسيرة الحق، إلى أمام طريق


ـ أجل، إنها القصيدة ذاتها.
ـ هذه القصيدة بسيطة في الأصل بل هي شديدة الوضوح ولكنها في الترجمة تبدو مفككة وغامضة ومبعثرة وهذا ما لمسته ليس لدى خليل وحده، وهو مترجمٌ جادّ، بل حتى لدى بعض المترجمين من الفرنجة، ويبدو أنّ السبب يرجع إلى الفكرة المسبّقة المأخوذة عن رامبو بصفته شاعراً غامضاً، شديد الغموض. القصيدة تتحدّث عن جنود متطوعين، ولفظة ديمقراطية ترد هنا سخرية بالأنظمة الغازية وبلهجة جنودها الريفيين التي تعلو على وقع الطبل، رمز لغة الأقوام المغزوة، والبيت الثاني يمكن ترجمته بشكل أوضح:
في المدن سنغذي أكثر الدعارات عهراً
مثلما يمكننا أن نتجنب كلمة منطقية الثقيلة في العربية ونستبدل بها كلمة أخرى، مثلما فعل بعض المترجمين الفرنج، متجاوزين حرفية الترجمة:

ونبيد كلّ انتفاضة على حقّ

يريد أن يقول رامبو هنا إنّ الجنود المرتزقة هم الذين أعطوا الانتفاضة الحق أو منطقيتها بغزوهم.
أما البيت الرابع فلم أجد له ترجمة دقيقة حتى في بعض لغات الفرنج الأخرى ، غير أنّ والاس فاولي، وهو من أشهر مترجمي رامبو وشراحه، وإن أبقى على كلمة المبهّرة أو المفلفلة الثقيلة في لغتنا، استبدل الصفة الثانية "الجافة" أو " الشديدة الجفاف" بلفظة "المسقيّة"، معبرّاً عن عدم قناعته بلفظة "المسقية"، غير أنّ ما يعنيه رامبو هنا هو "البلدان الحارة المنتجة للتوابل" كما يرد ذلك في بعض الشروحات، وهذه البلدان عادة ما تكون رطبة، وهذا ما فات فالاس فاولي، لذا فإن الترجمة الأدق والأبسط ربما، بعيدا عن لفظتي "المسقية" و"الجافة"هي:

لنمض إلى بلدان التوابل الرطبة

أما العبارة المترجمة: "حديثي الارادة الخيرة" فلا إرادة خيرة هناك لجنودٍ مرتزقة غزاة ولا هم يحزنون، بل التعبير يعني الجنود المتطوعين حسب. ولكي لا أتعبك بالتفاصيل أكثر سأقرا عليك القصيدة كاملة بصيغتها أو ترجمتها الأبسط:


ديمقراطية
العَلَم يمضي إلى المنظر القذر، ورطانتنا تعلو على ضجة الطبل
في المدن سنغذّي أكثر الدعارات عهراً،
ونُبيدُ كلّ انتفاضةٍ على حقّ
لنمض إلى بلدان التوابل الرطبة
في خدمة أعتى المنشآت الصناعية و العسكرية
إلى اللقاء هنا أو في أيّ مكان آخر
نحن المجنّدين طوعاً سيكون لنا فلسفتنا الضارية
جاهلين بالعلم ،
منهكين من أجل راحتنا، وخراب العالم الذي يسير
إنها المسيرة الحق. إلى الأمام طريق!


ولا يخفى ما في البيت الأخير من سخريةٍ وقلبٍ للتركيب المألوف:

إنها الطريق الحق. إلى الأمام سر!

ـ أجل أصبحت الصيغة الآن جلية ولكني مع ذلك، واعذرني على صراحتي لا أستطيع استساغة مثل هذا الشعر.لابدّ لدى شاعرِكم المفضّل هذا قصائدُ أجمل بالتاكيد.
ـ ساقرأ لك شيئاً جميلا له لعلّهُ يوازن ما سبق.. قصيدة يترجم عنوانها الكثيرون باسم (عبقريّ) لكنني أفضّل ترجمته بكلمة (روح). هذا الروح يشير إليه الشاعر في القصيدة بالضمير "هو" متّخذاً أشكالاً عديدة فهو تارة "الحنان والحاضر" وتارة "الحنان والمستقبل"، وتارة الحب... حتى يكاد يشمل العالم بأسره:


روح


هو الحياة والحاضر، بعد أن أقام البيت مفتوحاً على ثلج الشتاء المزبد وضوضاء الصيف. هو الذي طهّر المشارب والمآكل. هو سحر الأمكنة الهاربة، والبهجة الخارقة للمحطات، هو الحنان والمستقبل، القوة والحب، تلك التي نراها، واقفين في سورات الغضب وتقلبات الضجر، وهي تمرّ في سماء العاصفة وسط رايات الذهول.
إنه الحبّ، الميزان الحق، وقد أعيد خلقُهُ، العقل المدهش المفاجئ، إنه الأبدية: الآلة المحبوبة بقواها المميتة. كلّنا ينتابنا الفزع لتنازله وتنازلنا. يا فرح عافيتنا، واندفاعة قدراتنا، أيها الحنان الأنانيّ، والهوى الجامح باتجاهه، هو الذي أحبنا من أجل حياته اللامتناهية.
نناديه فيرحل، وحين يزول التولّه، يرنّ، موعده يرنّ: خلف هذه التطيرات، هذه الأجساد العتيقة، هذه الأُسَر، وهذه الأعمار، هوذا العهد الذي غرق.
لن يرحل ولن يهبط من السماء ثانية. هو لن يفتدي غضب النساء ولا كل صنوف بهجة الرجال ولا كلّ تلك الخطيئة، لأن ذلك تمّ، مادام هو كائنٌ ومعشوق.
يا لأنفاسه، يا لالتفاتات رأسه، يا لسباقاته، يا لرشاقته الرهيبة في إتقان الأشكال والفعل!
يا لخصوبة الفكر وشساعة الكون!
جسده! الانعتاق المرجوّ، انكسار النعمة المقطوعة بعنف جديد.
مرآه، يا لمرآه! كلّ ضروب الركوع القديمة والعقوبات رُفعتْ إثر خطاه.
نهاره! إبطال كلّ عذاب مثيرٍ مرنّ في الموسيقى الأشدّ حدّة.
خطوته! الهجرات الأوسع من الاجتياحات الغابرة.
آه هو ونحن! التكبر الأرفأ من إحسانٍ ضائع.
أيّ عالمٍ هو! والنشيد النقيّ للشرور الجديدة.
هو الذي عرفنا جميعاً، أحبنا جميعاً. فلنعرف، في هذه الليلة الشتوية، من رأسٍ بحريّ إلى آخر، من قطب ضاجّ إلى قصر، من حشدٍ إلى شاطئ، من نظراتٍ إلى نظرات، بقوىً ومشاعر متعبة، كيف نناديه، نراه، نرسله بعيداً، تحت المدّ والجزر، في أعالي الصحارى الثلجية مقتفين أثر رؤاه، أنفاسه، جسده، ونهاره.


ـ نعم هذه القصيدة أجمل من سابقتها، تذكرني بلغة المتصوفة.
ـ قلتَ لي إنك التقيت خليلاً من قبل أين كان ذلك في بغداد أم دمشق؟
ـ في دمشق عندما كنت طالباً في جامعتها في الستينيّات، كان لقاءً محتدماً ابتدأ بنقاشٍ عاصف عن الشعر وانتهى بالمعانقة والذهاب إلى بيت أحد الأصدقاء، وكان نحّاتاً. شربنا وسط تماثيله وكأننا في حضرة هيكل قديم تملؤه التماثيل، يصحبنا ثلة من الأصدقاء، غير أن خليل عاوده سعارُهُ السابق صارخاً بي: " وماذا تفعل هنا؟.. ارجع إلى بلدك!"، ثمّ أدّى به سعاره إلى قذف أحد التماثيل، فأصاب التمثال رأس واحدٍ منّا، ثمّ اختفى هارباً غير أنا لحقنا به وكدنا نمسكه لولا تحوله إلى غزال مذعورٍ راكضٍ بسرعة البرق في شوارع خالية من الناس. لا أزال لا أصدق حتى الآن كيف ظل معطفه معلّقاً على كتفيه دون أن يسقط وهو يرفرف طائراً في الهواء.
ـ وهل التقيته ثانية؟
نعم التقيته في صالة مطار البصرة أيام المربد، وكان في صحبتي صديقي الحميم الشاعر السوري عليّ الجنديّ الشاهد على حادثة دمشق. لم اقلْ له: "ماذا تفعل هنا؟ ارجعْ إلى بلدك!" لأنني أعلم أنه فقد بلده، مثلما فقدتُ بلدي الذي أقيم فيه، بل أشفقتُ عليه لأنه لم يحسنْ اختيار إقامته أو منفاه. انصرف خليل مرتبكاً عندما أوقفه عليّ الجنديّ قائلاً:" "هذا فلان" وكم كان حزني شديداً حين روى لي صديقٌ سجين، فيما بعد، إنه التقى خليل الخوري في واحدٍ من سجون السلطة السريّة، وكان موضع سخرية السجناء والمسجونين معاً. لم أحزن له فقط، بل حزنت لمصائرنا جميعاً ... شاعرٌ لم يشفع له حتى ولاؤه للسلطة وقصائد مديحه لها... أية سلطة هذه؟
ثمّة شرخ لا في شخصه وحده وإنما في شعره أيضاً. كيف تفسّر شرخ الشاعر بين تغنيه الساذج بالحاضر الهشّ وأمجاده الكاذبة:

من قاسيون أطلّ يا بلدي
لأرى دمشقَ تعانق الشهبا


وقوله:

لا درّ في الصدفْ
لأنّ بعد كلّ رحلة قرفْ


وليس هذا بملمحٍ خاص بخليل وحده فأنت تجدهُ لدى شعراء عديدين ولا سيما شعراء السلطة من حزبيين وغير حزبيين.
أخشى أن يستغرقنا الكلام أكثر كليلة البارحة فلانرى مدينة لندن وسكانها الإنجليز الذين لم يعودوا سكانها وحدهم وقد ملأتها الجاليات المهاجرة واحياؤهم الآخذة بالاتساع. سأريك أوّلاً شارعاً لن تسمع فيه غيرلغط لغتنا فلا تكاد تفهمها لكثرة اللهجات التي تتحدث بها.
ـ وما اسم هذا الشارع؟
ـ إجوار رود.
ـ وماذا فيه؟
ـ مقاهٍ ولحم وفول على امتداده...
ـ ماذا تقصد باللحم والفول؟
ـ المطاعم العربية
ـ وكيف نذهب إليه؟
ـ بالباص أو قطار الأنفاق، ستسألني عنهما ولكني أفضل أن تجربهما بنفسك ، ولنبدأ بالباص فهو أسهل وسيلة تلائمك ربما. وأنتم ما الوسائل التي تستخدمونها في الجنة غير الحمير.
ـ الخيول والجمال ولكن لم أرَ أحداً يركب الجمال إلا صاحبيك لإضحاك أهل الجنة، وامرئ القيس وهو يتقدم حورياته كلّ يوم إلى البركة. ثمة حمقى آخرون كعديّ بن زيد الذي يمتطي فرسهُ كلّ يوم أيضا ذاهباً إلى الصيد، وحين يهمّ بصيد دابة سرعان ما تصرخ به:أمسكْ! أنا لستُ من الوحش. لقد أنعم الله عليّ بالجنة لأني فعلتُ كذا وكذا وحين تنتهي من سرد مآثرها يعتذر إليها عديّ بن زيد، كخليل، مرغماً ويبدأ بنصيحتها أن تبتعد عن الوحش وسط سخرية الشعراء، ومعهم ويا للغرابة طائفة من علماء اللغة وفرسان الصيد، وعلى رأسهم الأصمعي خارجاً عن طوره، صائحاً بـ (عديّ): ألم أقلْ لكَ إنكَ لا معرفة لك بالخيل والصيد منذ إن كنّا في العاجلة. فلا يردّ ابن زيد بل يبتسم ويواصل طريقه ماسكاً رمحه الطويل باتجاه الغابات البعيدة في الجنة. فأنت تعرف أن عديّاً بن زيد كان يسكن الحيرة ويراكن الريف وقد هذبه اختلاطُهُ بناس المدن فلم يعد ذلك البدويّ الجلف.
من النادر أن تنتهي مثل هذه المواقف بالمشاجرات، بل ان أبا ذؤيب الهذليّ المولع بحليب النياق مع أنّ أنهار لبن الجنة على بعد ذراعين منه، أخذ يستأنس بصاحبيك حين يقتربان منه وهو يحلب الناقة ويمازحانه بلا لغة، وهو لحبهِ مزاحهما وسخريتهما يفتعل أحياناً حلب الناقة بانتظار سفاهات أخرى يشارك فيها جمعٌ من الشعراء ولا سيما شاعركم الجواهريّ الذي عاد فتىً وسيماً طائشاً يرتدي طاقية لا يتركها حتى في النوم. نسيت أن أسألك: ماذا عليّ أن ارتدي غداً؟
ـ ملابسك ذاتها. يمكنك أن ترتدي أيّ زيّ هنا فلا أحد يتوقف عند لباسك، بل يمكنك أن تسير عارياً ـ وعذراً يا أبتِ _ إذا رغبتَ، في بعض الأماكن من مدينة لندن.
ـ نعم نقلوا لنا هذا في الجنة. عجباً! أصبح العالم صغيراً بسمائه وأرضه، وما أكثرأهلَ الجنة المشغوفين بالحديث عن تفاصيل حياتهم السابقة حتى وإنْ لم يعودوا يتذكرونها جيّداً، بل إنها لغيابها وغموضها أصبحت موضع إضافات وتغييرات كثيرة، حتى يمكنك القول إن بعض أهل الجنة يصحّ أن نطلق عليهم لقب روائيّ من الدرجة الأولى ولكن من دون كتبٍ. هنالك قد تسمع الأعاجيب التي لا موضع لها في سماء ولا أرض، ولكنها توجد، أجل توجد، في أذهانهم.. أليست أذهانهم عالماً أيضاً؟
ـ ما تذكره عن السلام الذي يسود الجنة غريبٌ حقّا. هذا يعني أن ما تخيلته في رسالتك في العاجلة لم يكن غير وهم.
ـ وما هذا الذي تخيلتهُ؟
ـ الشجار الذي حدث بين الأعشى والنابغة الجعديّ ومارافقه من ألفاظ لا ينطقها إلاّ السوقة والتي طالت في جراءتها حتى الخالق عزّ وجلّ حين قال أحدهما وهو النابغة أن الله غلط في الأعشى فأدخله الجنة وحقّه الدرك الأسفل من النار. ولم يقفا عند هذا الحدّ إذ وثب الجعديّ وضرب الأعشى بكوزٍ من الذهب.
ـ أجل هذا لا يحدث إلاّ نادراً.
ـ هذا يعني أن ما قاله طرفة بن العبد إنّ في الجنة همجاً وطغاماً لا صحة له.
ـ قال ذلك حين كان في النار.
ـ أظن أنّ لأوس بن حجر رأياً شبيهاً بهذا.
ـ لأنه كان في جهنم أيضاً يقارن حاله بـ (درم من بني دُبّ ابن مرّةَ بن ذهل بن شيبان) الذي دخل الجنة وهو شرّ منه، ـ كما يقول ـ معلّقاً أن المغفرة أرزاق كأنها المال في الدار العاجلة، لكن أوس الآن في الجنة هو وطرفة بين الحوريات ومن على شاكلتهما من الشعراء.

* * *




3- في المقهى


ـ كما ترى فالباص مريحٌ يا أبتِ.
ـ أجل إنه مريح، وأستطيع القول إنه أفضل من دواب الجنة التي يخلّف ركوبُها وجعاً شديداً في الخاصرة، لا سيّما إذا قطعتَ مسافاتٍ لزيارة أصدقاء لك في أطراف الجنة العريضة، رغم سرعتها الهائلة. هل جربت ركوب الدواب من قبل.
ـ نعم. ركبتُ الجمل لأيام عديدة في رحلتي عبر الصحراء هرباً من بطش السلطة آنذاك. كنت أشعر بآلام الخاصرة كأنه قدْحُ حصىً. أحيانا كنّا نفضّل المشي جوار الجمال، على ركوبها لنريح الخاصرة من الآلام.
ـ وكم استغرقت الرحلة؟
ـ سبعة أيام تقريبا.
ـ أجل.تذكرت. سبق أن أشار إليها شاعر من أصدقائك غمرني بمحبته اسمه ـ لعنة الله على الشيطان وعلى الذاكرة التي هرمت في الجنة ـ عزيز...
ـ عزيزالسماوي.
ـ هذا هو. إنه يحبك كثيراً، ونقل عدوى محبته إليّ.
شكراً لك يا أبتِ على هذه المحبة.
ـ ألم يقرأ لك عزيز شيئاً من شعره؟ فله طريقة غريبة في إلقاء الشعر.
ـ أجل أراد أنْ يقرأ لي مرة إلا أنّ ذاكرته خانتهُ فلم يمتنع أو يتوقف بل استمر يحرك شفتيه علوّا وسفلاً ويؤشّر بيديه وينطق بلا كلمات حتى قلتُ أنّ مسّاً أصابهُ. لقد ظل على هذه الحال زمنا حتى انتهت قصيدته وكاد أن ينتهي معها طالباً رأيي فيها، فلم أستطع أن أقول له إنني لم أسمع حرفاً منها ولحسن الحظ جاء في هذه اللحظة شاعرٌ آخر لم يره عزيز من قبل فتبادلا العناق والصراخ والسباب أيضا ـ يالغرابة محبتكم أيها العراقيون ـ فنسي القصيدة والمطالبة برأيي فيها.
ـ سنغادر الباص الآن يا أبتِ. هذه (ماربل آرج)، بعدها سنسير على الأقدام في شارع (إجوار رود) لنختار بعد ذلك مقهىً مريحاً نجلس فيه ونواصل حديثنا أو رحلتنا لبعض المعالم الشهيرة في لندن، سترى هناك الكثير من العرب العاربة والمعرّبة بكل قضّهم وقضيضهم وكأنهم فاتحون قدموا للتو.
ـ بعُد عهدي بالفاتحين.
ـ وصلنا فلنهبط!
ـ هل اعتدت مثل هذا الزحام من قبل؟
ـ إنه زحامٌ أنيس لا كلفة فيه، وأجمل ما فيه هو هذا الاختلاف في هيئة البشر.
ـ أليس الأمرُ شبيهاً بما في الجنة؟
ـ هناك لا تبصر غير وجوه بيض وأجساد بيض، ولا غرابة حين تكسر جوزة فتخرج حورية تقول لك إنها كانت سوداء في العاجلة.
ـ وما لون عنترة في الجنة؟
ـ أبيض بياض عبلة.
ـ هذا يعني أنه لم يعد عنترة الذي نعرفه، بل شخصاً آخر.. عنترة آخر. وفي أحسن الأحوال عنترة العبسيّ بقناع أبيض. وهذا أليق بفرسان القرون الوسطى في أوربا.
وهل شيبوب في الجنة ، وأبيض أيضاً.
ـ لم أصادفه يوما، فالجنة كما تعرف عَرضها السماواتُ والأرض، ولعلّه ليس في الجنة. من يدري؟
نحن في زحمة من الشعراء دائماً فلا تدري من تودعه ولا تدري من تلتقيه. أما الاسماء فقد تختلط حتى يصعب التمييز بينها حتى لو كنت أذكى أهل الجنة طرّا.
ـ ليس عالمنا وحده الغريب، ففي الجنة أيضا يبدو ثمة غرائب كثيرة.
ما رأيك أن ندخل هذا المقهى الآن؟
ـ لا بأس
ـ ماذا تشرب؟
ـ ماذا يقدمون عادة؟
ـ الشاي والقهوة والبيرة إذا أحببت أن تحتسي شيئاً خفيفاً من الشراب؟
ـ وما هذه البيرة؟
ـ نوع من الشراب يصنع من الشعير تسمونه الفقّاع كما أظن.
ـ أوه.. الفقّاع ذلك الذي يعلوه الزبد.
ـ إنه هو تماما.
ـ لنرَ إذاً ولتدعُ لنا بكأسين لنرى العالم أكثر إشراقاً كما نراه في جنتنا الخالدة.
ـ يبدو أن الجنة رقّقت الطباع تماما فشتّان ما بين إقامتك فيها وإقامتك على الأرض حيث آليت أن تحرم نفسك من أبسط مباهج الدنيا.
ـ هذا له حديث آخر ليس موضعُهُ هنا.
ـ أصبتَ يا أبتِ.
ـ أنا اليوم لا أفضّل أن نقوم بجولة في أكثر من مكان فلا طاقة لي على ذلك وأفضّل أن نستمتع بيومنا الجميل هذا في الشمس بين الناس.
ـ كيف تراهم يا أبتِ؟
ـ لا يبدو الناس في هذا الشارع في عجلة من أمرهم.
ـ هذا صحيح فأغلبهم سائحون أو مقيمون كالسائحين.
ـ حسن أن يتنزه الإنسان ليأوي بعد ذلك إلى بيته وقد تخفّف من أثقاله مستقبلاً ليلَهُ بجسدٍ خفيف وروحٍ أخفّ. ما أجمل أن يتحقّقَ ذلك للإنسان!
ـ أليس هذا ما يحدث في الجنة عادة؟
ـ كثيراً ما نرهف أسماعنا في الليل وقد تناهت إلينا أصواتٌ شبيهة بأصداء بعيدة كأنها وقعُ إبرة في قش.. غير أنها سرعان ما تتعاظم وتقترب فلا ندري أين نحن أفي جنة أم جهنم ؟ في سكينة أم ضوضاء؟ منتظرين أن تطلع الشمس حيث لا شمس، والقمر حيث لا قمر. سبحان الخالق ما أحوجنا إلى الراحة! أين نجدها؟ لا تقل: في القبر فلا أوحش منه وقد اختبرته.
ـ ما تقوله غريب.
ـ هل ما قلته فاحشٌ ؟ هل بحتُ بسرّ ؟ لذا حين نستيقظ يكون فرحنا باللحظة طاغياً وقد انتقلنا من كابوسٍ إلى حلم. هل هو حلم حقّاً؟ وهل الكابوس كابوس حقّاً؟ هل نحن بين يقظة وحلم دائمين؟ وهل حلمنا يخلو من خوفنا الدائم مما سيأتي وينقضي ثم ينقضي ويأتي وهكذا ... لذلك أحسد العابرين حتى المهمومين بمشاغلهم لأنهم يعرفون أن ثمة نهاية لهذا في يومهم. أو هكذا يتخيّلون في الاقلّ.
ـ وما هي هذه الأصوات كما تعتقد أو تظنّ؟
ـ لا أعرف.. ربّما هي أصوات الذين يعذّبون في جهنم تأتي خافتة في البعيد ... ربّما...
ـ ربّما تكون عزيف جنّ...أما من جنّ في الجنّة؟
ـ هناك الكثيرون منهم، بعضهم شعراء ولكنهم مسالمون عابدون زرتهم مرّة ... ـ حسنٌ أن نغيّر الموضوع فهو باعث على الهمّ ولأحدّثك عن الجنّ ـ قلتُ لك زرتهم مرّة على سبيل الفضول، ومعي رهطٌ من الشعراء الذين لم يروا الجنّ من قبل وجاء معنا نفرٌ من شعراء الفرنجة ساقهم الفضول أيضا. كان بينهم شاعر يتكلم العربية هتف حين رأى الجنّ : "بدئ.. بدئ "
ـ هل يقصد "بديع"؟
ـ نعم، دون أن يدري أنّ "بدئ" فصيحة أيضا وتعني "بديع" يستخدمه أحياناً شعراء أعراب من أهل الجنة.
ـ أجل تذكرت. لقد وردت في كتابك (رسالة الغفران) وهي مذكورة في بعض كتب اللغة.
ـ أحقّا هي وردت هناك؟ غير أنّ بعض الحاضرين من شعراء العرب ضحكوا. وما كان من حقهم أن يضحكوا.
ثمّ التقينا بشاعر اسمه الخيثعور.
ـ وماهذا الخيثعور؟
ـ شاعر من قبيلة الشيصبان.
ـ وما هذه الشيصبان والأسماء الغريبة؟
ـ قبيلة من الجن المؤمنين
ـ قلت له وكيف نخاطبك بأية كنيةٍ، فقال: كنيتي (أبو هدرش)، ثمّ طلبنا منه قصيدة فقرأ علينا قصيدة طويلة تبدأ:

حمدتُ من خطّ أوزاري ومزّقها
عنّي فأصبح ذنبي الآن مغفورا

والعجيب أن في هذه القصيدة ترد كلمة (يغبور) وتعني ملك الصين مثلما قيصر تعني ملك الروم. وما ذكره لنا بعد ذلك في غاية الغرابة فلديهم من أوزان الشعر العشرات ومن القوافي الآلاف ومن الاستعارات ما لا يطرأ في ذهن شاعر من البشر.
ـ وهل يختلطون بالبشر؟
ـ لا... إلا في مناسباتٍ نادرةٍ كهذه فيبدون كالبشر تماما في طباعهم وتفاخرهم وأشعارهم التي يطيلون فيها فلا يحسنون..
ـ مع أن العرب عادة ما تنسب الشعر الحسن إلى الجنّ، بينما تبيّن في الجنة أن الجنّ ليسوا سوى نظّامين مولعين بالغريب والحوشيّ من الكلمات. وقد سبق أن ورد في أحد أبياتك في سقط الزند هذا المعنى تقريباً:

وقد كان أرباب الفصاحة كلّما
رأوا حسناً عدّوه من صنعة الجنّ

ـ وهم فوق كل ذلك تميزوا بحافظة لا يفوتها حتى الأحداث الصغيرة التي حدثت لهم في الدار السالفة، وما أن انتهى خيثعور من قصيدته الرائية تلك حتى أعقبها بقصيدة سينية أطول منها، فأصابنا الملل.

مكة أقوت من بني الدردبيسِ
فما لجنيّ بها من حسيسِ

ـ هذا يعني أن الجنة مكان آمن تماما رغم ما يحدث أو ما تتخيلونه في الليل.
ـ يمكن أن تقول ذلك فأنت تمرّ بالأسد المؤمن وأنت مطمئن تقول له: "عمتَ مساء يا أبا خميس" فيردّ عليك التحية بأحسن منها ثمّ ينطق اسمك وكأنه صحبك زماناً على الأرض، ولم ينسَ لك الصحبة في الآخرة وهذه من أعاجيب الجنة. ولو فعلت هذا في العاجلة لقالوا عنك مجنون. وقد سبق أن مرّ الفرزدق عندما كان في الدار السالفة على كلابٍ مجتمعةٍ وهو سكران فسلمّ عليها فلمّا لم يسمع الجواب، أنشأ يقول:

فما ردّ السلام شيوخُ قوم
مررتُ بهم على سكك البريدِ

ولا سيما الذي كانت عليه
قطيفة أرجوان في القعودِ

ـ هذا ما حدث لأخي الكبير أيضاَ إذ مرّ، وهو يكاد يعثر بخطواته، بنعاج سود فظنها نساء يرتدين العباءات فسلّم دون أن يرفع طرفَهُ: "مساجن الله بالخير" قالها باللهجة العراقية ويعني "مساء الخير"، فلم يسمعْ ردّاً، غير أن أخي لم يكن سكران بل يعاني من قصر نظرٍ شديد، ولعله بقي قصير النظر طوال حياته، لا يميز النعجة من المرأة، ولا المرأة من النعجة. لكني أودّ أن أسال كيف يتحدث الأسد بالعربية ولا يتحدثها الشعراء الفرنجة.
ـ هذا ما ليس لي به علم.
ـ الغريب يا أبت هو أننا نتحدث عن الجنّ الآن في عالم لا يعترف بوجود الجنّ.
ـ حين كنت على الأرض كنت في شكّ أيضاً من وجود الجنّ إلى أن هيأ الله لي رؤيتهم عن قرب.
ـ أجل أتذكر أبياتاً لك تشكك فيهما بوجود الجن منها هذا البيت:

قد عشتُ عمراً طويلا ما علمتُ بهِ
حسّاً يُحسّ لجنيّ ولا ملكِ


كيف يصدّق المرء في العاجلة أن جنّاً مؤمنين قتلوا سعداً بن عبادة زعيم الخزرج، مثلاً، لانه بال واقفاً، حرصاً على دينهم، بينما الواقعة هي كما جاءت في هذه الأبيات التي يرويها ابن أبي الحديد:

يقولون ســـعدٌ شكّتْ الجنّ قلبه
ألا ربّما صحـّحت دينك بالغدرِ

وماذنبُ ســعدٍ أنه بال قائماً
ولكنّ ســعداً لم يبايع أبا بكرِ

وقد صبرتْ عن لذة العيش أنفسٌ
وما صبرتْ عن لذّة النهي والأمر


مشيراً إلى ضلوع عمر بن الخطاب في اغتياله. أمّا جنّ الجنة فيبدون وكأنهم ليسوا بجنّ، في خمولٍ دائم، فأيّ جنيّ هذا الذي لا يتحول ولا يتغير ولايمكر جادّاً أو مازحاً، راضياً بما آل إليه في موضع صغير من الجنة لا يلتقي إنساً إلا نادرا ولاجناً غير مؤمنين.
ـ إنهم راضون عن حالهم فما شأننا بهم.
ـ وهل اعترضتك كفرتهم في طريقك الى الأرض؟
ـ كنت في شبه غيبوبة فلا أدري ما يحدث حولي. يحملني ملائك أشداء غير أني حين أفقت رأيتُ الملائك وهم منهكون من الرحلة إلى حدّ الإعياء مما جعلني أحدس أنهم كانوا في حربٍ مع الشياطين والجنّ في الطريق، فحمدت ربّي على سلامتي. وتأسيت للملائك لأنهم لم يأخذوا قسطهم من الراحة قبل عودتهم إلى السماء.
ـ لقد زار الملائك بيتي إذن؟
ـ بالطبع وإلاّ من يوصلني إليك؟
ـ وسيزورونه ثانية ليحملوني إلى السماء، لكن متى؟ لا أدري. ولو دريت لقلتُ لهم: تمهلوا ليتعرف عليكم صاحبي، وقد لا يصغون لطلبي فهم متشددون في تطبيقهم لوائح السماء.
ـ كنت أتمنى لو جئتني بهيئتك الحالية في الجنة لأراك وأنت ذلك الشاب اليافع، وإن سرّتني هيئتك هذه فلديّ فضول أيضا لمعرفة أبي العلاء الذي أحببته على الأرض وليس في السماء، حسب.
ـ كنت في عجلة من أمري ولم اعرف هيئتي حتى وصلت إليك. والحمد لله أن الخالق أبقى على نظري لأرى الدنيا ثانية بعينين مفتوحتين.
ـ لقد اصبح نظرك حديداً.
ـ كيف عرفت ذلك؟
ـ لاحظته ونحن سائران في الطريق.
ـ نحن أهل الجنة نرى الأشياء ـ حتى الصغيرة منهاـ على بعد أميال، وإن كنّا لسنا بحاجة إلى مثل هذا النظر، فلا نقرأ ولا نكتب ولو قرأنا وكتبنا لامتلأت الجنة بالكتب والأوراق وبأردأ الأشعار فلا مكان لنا وسطها لكثرة الشعراء ومختلقي القصص من الأدباء الذين بدأوا من جديد يتناقلون ما يكتبون شفاهاً عبر الرواية ولا ندري أين ستصل الأمور.
ـ ما أسعدكم بهذه النعمة التي تعوزنا والتي لا يعوضها أبداً حتى انتشار المستشفيات في هذا البلد، وما لديها من قدرة على إعادة النظرثانية لمن فقده، وقد فقدته مرات وأعادوه إليّ فلم أحرم من متعة القراءة قط، ولو حُرمت منها لأصبحت حياتي قفراً لا يسكنه حتّى الشوك. يبدو أنكم أصبحتم في غنى عن كلّ ما سعى أو ما يسعى إليه البشر من مستشفيات وصحة واختراعات وطائرات فلديكم من القلوص ما تقطع بكم أرجاء الجنة بدقائق.
ـ هذا صحيح فنحن لا نشكو حرّا ولابرداً ولا مرضاً فقد أغنانا الله عن كلّ هذه المزعجات التي تؤرق البشر في العاجلة وتجعلهم يقتتلون.
ـ ألم يقتتل أهل الجنة من حولك يوماً؟
ـ لا.. قد يتشاجرون لكن لم يصل الأمر بهم يوماً إلى الاقتتال. فإن كان هذا مازالت آثاره في طباع أهل الجنة فإن ثمة من النواهي ما يردعهم عن فعل ذلك وأبسطها التهديد بعودتهم إلى جهنم التي اختبرها الكثير منهم مثلما اختبر الكثير منهم ما مرّ بهم في الأعراف وهم لا يريدون أن تتكرر تلك التجربة أو يعودوا أدراجهم إليها.
ـ وهل هناك من يعرف برحلتك إلى الأرض؟
ـ لا ولو عرفوا لجاءني بعضهم مسرعاً ليوصيني بما أحمل منه إلى الأرض أو ما أحمل له من الأرض ولاسيما من أصحابي القريبين.
ـ مثل منْ؟
ـ أبو نواس وصحبه حماد والضحاك ووالبه ومطيع بن أياس وغيرهم.
ـ وهل تلتقي بأبي نواس وصحبه كثيرا؟
بين فترة وأخرى وهم معشر لطيفون، يبعثون البهجة في الأماكن التي يمرون بها لظرفهم وخفتهم التي لم تفارقهم في الآخرة، وقد لا حظتُ أنّ الملائكة نفسها تأنسُ لهم وهي المتشددة المسبّحة في كلّ آن. ولو علموا بسفري لجاءوا يطلبون أن أحمل لهم شيئا من أم زنبق؟
ـ وما أمّ زنبق؟
ـ حبيبتهم خمرة الأرض التي ما زالوا يتحسرون عليها وعلى مجالسها رغم ما يحفهم من نعيم في الجنة لا يعادله نعيمٌ آخر.
ـ لعلّ في خمرة الأرض نكهة ليست في خمرة السماء وهم أدرى بها؟
ـ لعلّ.
ـ وكيف رأيت أبا نواس هل هو كما وصفه ابن منظور في كتابه عنه"حسن الوجه، رقيق اللون، أبيض، حلو الشمائل، حسن الجسم، وكان ألثغ على الراء، يجعلها غيناً وكان نحيفاً في حلقه بحة لا تفارقه"
ـ نعم كما وصفه ابن منظور إلا أنّه لم يكن في الجنة ألثغ ولا في حلقهِ بحة كما قال عنه، عندما كان في الارض. ولقد منّ الله عليه بفضل لم يمننه على شاعر آخر هو غناء الحوريات لأبياته بأعذب لحن، ولعلّ الملائكة أكثرنا شغفا لسماعها.
ـ أية أبيات؟
ـ تلك التي تبدأ:

إلهــنا ما أعدلك
مليك كلّ من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك أن الحمد لك
والملك لا شريك لك


سيزعل أصحابه لو قلت لهم أنني زرتُ الارض، وحتى لو طلبوا مني ذلك فأنّى لي حمل زقّ من الخمر وسط معارك السماء مع الشياطين والجنّ، وفي اغفاءتي تلك. ولربما سيُطلب مني عدم ذكر هذه الرحلة أبداً. لا أعرف حتى الآن ما سيُطلب مني.
ـ ثمة شاعرٌ محدث شبيه به ألم يمرّ عليك؟
ـ ما اسمه؟
ـ نزار قباني؟
ـ نعم تذكرتُهُ. وكيف لا أتذكّره وقد ضجت الجنة عند قدومه، وقبله عمر بن أبي ربيعة كما قيل لي، إذ تظاهر المئات من أهل الجنة احتجاجاً على قدومه إلى الجنة إلاّ أن الملائكة كانوا حازمين فلم يسمحوا لهم بالتجمع وطلبوا منهم العودة إلى مساكنهم مؤقتاً وإلا ستحل عليهم اللعنة وستكون عقوباتهم أشدّ وأمضى مما يتصورون، وهدّدوهم بإرجاعهم إلى الأعراف، ولمن يبالغ في احتجاجه ودوامه بإرجاعه إلى جهنم فهم ليسوا بأدرى من الخالق بمعرفة ما في ضمائر البشر. ويا سبحان الله، إنّ هذا الشاعر هو الوحيد من بين الشعراء مَنْ يحفظ شعره ويردده في الجنة أينما حلّ، بعد هزيمة المؤمنين من المتشددين ممن يضمرون له البغضاء.
ـ كيف حدث ذلك؟
ـ لا ادري؟
ـ لقد ظلّ يردّد شعرَهُ حتى سئمه الجميع المتعصبون منهم وغير المتعصبين، شعراء وغير شعراء. وكان في نسيانه حلّ لم يتوقعه أحد.
ـ مع أنه شاعر جميل.
ـ قد يكون ذلك ولكن أنى لك أن تستسيغ شعراً كهذا؟

سمراء صبّي نهدك الأسمر في دنيا فمي
إنه شعر لا يقوله غير السوقة. وما هذا الفعل البائس المبتذل "صبّي".
ـ هذا قاله في بداياته.
ـ في بداياته أو نهايته فهو سواء لدى من يسمعه، أو خذ هذا الشعر:
بدراهمي
لا بالحديث الناعم
أو قصيدة أخرى أضحكت شعراء الجنة قاطبة اسمها (حبلى)، ولا سيما بشّار بن برد الذي قابل إنشاد شعره بالقهقهات فلم تنقطع حتى انقطع نزار عن القراءة. ولكني أشهد أن الرجل دمثٌ، رقيقُ الحاشية والطبع كأبي نواس، ولم يعد للقراءة قط بعد قهقهات بشّار ولعلّه نسي الشعر. فكان ذلك راحة له ولنا نحن الذين بعُد بنا العهد بالشعرحتى كدنا ننساه لولا أغانيَ ورقصات تؤديها الحوريات مصحوبة بأبيات لنا نسمعها فنطرب، مع أننا، ويا سبحان الله مازلنا نذكر شيئا من نثر العرب.
ـ وهل يعجبك أن أقرا لك شعراً حين نعود إلى المنزل مما كتبه شعراؤنا الأحياء أو الأموات أو مما كتبته أنت إذا أردتَ، فكتبك أغلبها لديّ.
ـ لم لا؟ هذا فضلٌ منك يا بنيّ سأذكره لك طويلاً؟
ـ وقد أقرأ لك فصولاً من كتابٍ شبيهٍ برسالتك كتبه شاعر إيطاليّ شهير..
ـ هل تقصد دانتي؟
ـ نعم.
ـ حدّثني عنه الكثيرون في الجنة ولكنني لم ألتق به أو يلتق به أحد.
ـ لعله ما زال في جهنم.
ـ لماذا؟
ـ ربما بسبب ما كتبه من كلام مهين، وما رسمه من مشهدٍ مقزّز عن النبيّ محمد وابن عمه عليّ بن ابي طالب اللذين وضعهما في جهنم. حتى أن مترجمه اضطر إلى حذف الأبيات المتعلقة بهذا المشهد، منتحلاً له الأعذار، ولكنه أسرف إيّما إسراف في الحديث عن تسامحه بلغة إنشائية لا تمت للمعرفة بصلة، مُضفياً عليه من النعوت ما يتناقض مع حذفه واعتذاره، معتبراً إياه شاعر الفكاهة أيضا وهذا ما لم يتلمسه حتى النقاد من بني الفرنجة كديورانت مثلا الذي يرى في دانتي رجلاً يخلو من الفكاهة، ولكنه يثير حباً أحالته المصائب إلى لا هوت، فتصورما أبعد المسافة بين هذا وذاك، بين ناقد مدقّق ومترجم مأخوذ، بين موضوعيةٍ متمهلة وعاطفةٍ هائجة تتحمس لما تترجمه حماساً يعميها حتى عن رؤية ما تتلمسه اليد.
ـ وما اسم هذا المترجم العربيّ.
ـ حسن عثمان وهو من مصر. وحين ترد العلاقة بين رسالتك وقصيدة دانتي يقفز وكأنّ ناراً لسعته ليهرب من الموضوع، دون أن يدقّق إن كان ذلك خطأً أم صواباً.
ـ وما الذي بيني وبينه؟
ـ يرى ديورانت في دانتي ما هو أكثر من ذلك : قوّة معذبة نصف همجية وإنساناً غادر الجحيم متجهماً، وأن شعره لا يخلو من الوعظ واللاهوت اللذين لاحاجة للقصيدة بهما، والتعذيب الذي يورده في الجحيم غريب ولا مكان له حتى في حضارة الإفرنج، فلم يكن معروفاً قط لدى اليونان، بل أن لديه رأياً في غاية الجرأة هوأنّ دانتي أحال حبيبته في الجنة إلى تجريد بلا ملامح ومثل هذا الجمال البرئ غير خليق بهذا المصير فتصور أيّ ذكاء وأيّ أحساسٍ مرهف وقراءةٍ ذكية على النقيض من مترجمنا المأخوذ المعطّل العقل من النقد .
ـ أجل إنها ملاحظة في غاية الذكاء فأن تحيل إنساناً، ولاسيما الحبيبة، إلى تجريد يعني أنك استلبته كلّ شئ حتى لو كان في الجنة. هناك الملائكة رأيتهم بهيئاتهم، وهم يشاركوننا الخلود ومسرات اليوم العابرة..
ـ إن من يقرأ هذا المشهد الذي كان ينبغي أن يترجم ليطّلع القارئ على بشاعته، سيلوح له دانتي متعصّباً شديدَ التعصب مقارنة بتسامحك أو بتسامح جلال الدين الرومي أو الحلاج أو ابن عربي الذين كتبوا عن المسيح عيسى بن مريم، وعن وحدة الاديان أجمل الابيات ولاسيما جلال الدين الرومي. لا بدّ أنك التقيت جلال الدين في الجنة هو والشاعر الفارسيّ الآخرعمر الخيام القريب منك في روحه وشعره، وإن اختلفتَ عنه في حبه للخمرة وزهدك بها.
ـ نعم التقيتهما وأنست بهما كثيرا، وبصاحبٍ لجلال أيضا لا يفارقه نسيت اسمه.
ـ أتقصد شمس الدين التبريزي.
ـ نعم هو هذا.
ـ تذكرت الآن ولا أدري لِمَ غاب عن بالي. لو رجعنا إلى الدار لا أفضّل أن ألتقي بأحدٍ من أهل الارض ولا سيما شعرائه فقد يكون هذا أمراً محظوراً، و قد ينتشر خبر قدومي إلى العاجلة فتسرع إليّ الصحف السيارة والناس بالسؤال فلا تقوم لي ولك قائمة ابداً، وقد يرجع ذلك بالسوء عليك أيضاً لذا أفضّل حين نذهب إلى الدار أن نستأنس بالحديث معاً بعيداً عن كل ما يجلبُ لنا المتاعبَ من حيث لا ندري.
ـ معك الحقّ، وليكن لك ما تشاء فلا أضيق من وقتك في التعرف على معالم لندن وناسها وما تستفسرعنه من أدبٍ قديمٍ أو حديث لأجلبه إليك، وقد أمضّ بك الحنين إلى الكتاب والشعر.
ـ هذا الصواب بعينه.
ـ إذن فلنتجنب يا أبتِ ما يكدّر صفو أيامنا. وفي الحقيقة أن من تريد لقاءه ربما تفصلنا عنه أميال وأميال، فالشعراء الأحياء الذين ذكرنا بعضهم يسكنون في بلدان بعيدة ويتطلب السفر إليهم إجراءات ستقف حائلاً دون سفرك وإقامتك في المدينة بلا شكّ. أمّا من يقيم هنا قريباً فهم قليلون بعد أن رجع الكثيرون أو استبدلوا مكان إقامتهم ببلدان أخرى. وبعضهم حتى لو سمح لك الوقت لا أفضّل أن تلتقي به أبداً.
ـ لمَ؟
ـ كيف تلتقي بمن يترجم كلمة قديمة لشاعرٍ قديم تعني " الأمّهات" بإجماع الشراح بهذه السلسلة من الكلمات المضحكة " النساء المتزوجات العجائز"، وله من نظائرها الكثير، أو ذلك الناقد الآخر الذي يترجم الكلمات بالمقلوب فالبواب، في قصيدة لشاعر كبير آخر من بلاد الفرنجة يدعى ت. أس. إليوت مكتوبة للكبار والأطفال، يصبح لديه مفوضاً سامياً، والكلاب البكينية تصبح بطات بكينية، والمركب الواحد قوارب نهرية عديدة، والفعل "يشرب" "يبلل لحيته" هكذا بضربة ساحر. هذا الناقد مع جهله هذا بأبسط قواعد الترجمة يدعي أنه ضالع بالحداثة وأهلها! فلله كم ينطبق عليه ما قاله الحكميّ:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
ولعلّ أشدّ أخطائه شناعة وجهلا وباعثاً على الهزء أن شاعراً أرسل له قصيدتين للنشر في مجلته بعنوان (على البسيط) ويقصد أنهما جاءتا على بحر البسيط فكتب هذا الناقد الفهلويّ "تحت هذا العنوان البسيط الملغز بعث للمجلة الشاعر (…) الكبير قصيدتين....إلخ" حتى أن بعض الخبثاء قرأ ساخراً:
على البسيط وكوز الماء يرفدهُ
مشيراً إلى البيت الشهيرفي قصيدة الجواهري التي قالها في مناسبة ما أقيمت للاحتفال بذكراك وهي من بحر البسيط أيضاً:
على الحصير وكوز الماء يرفدهُ
وذهنه ورفوفٌ تحمل الكتبا

ولو تصفحت كتبه لرأيت السفاهة والجهل على أوضح ما يكونان، فهو يناقش كتاباً يتناول شاعراً فرنسيا ولا يعرف الفرنسية محاججاً، مراجعاً، مسترجعاً بلا علم، وهو يشتم شاعراً ذكرته لك من قبل في واحد من كتبه، مع أنه سبق أن مدحه في كتابٍ له قبله، دونما حياء ولا حرجٍ، وكأنه في حِلّ من ذكر الأسباب للقارئ: لماذا مدح؟ ولماذا هجا؟ وهو بعد كلّ احتقاره هذا للكلمة يسمى مجلته بـ (الكلمة) ، فهل تريدني بعد ذلك أن أعرّفك عليه وعلى الآخر.
أمّا بالنسبة إلى الشعراء فقد خلت المدينة منهم بعد رحيلهم ولم يبق منهم غير نظّام شتّام بخيل، لا في العير ولا في النفير، أعمى العينين والقلب، لا همّ له سوى جمع المال ومصاهرة أعوان الجلادين، والكذب على الفرنجة، ولو عرف أنك عدت مبصراً لمات في ساعته من الغمّ والحسد. هذا النظّام الشتّام، سليل أزقة بغداد كان يمالئ السلطة حين كنتُ أنا أقطع الصحراء على جملٍ.
يروي هذا الأعمى الدجال المسمّى حسناً وهو القبيح القبيح أن عينه ذهبتْ عندما كان مرّة في مرحاض ولكي يخفّف من وقع هذه اللفظة استبدلها بلفظة (حمّام) حتى أنّ طفلَ صديقٍ لي شاعرٍ كان حاضراً فسأل: كيف يفقد إنسانٌ عينَهُ في حمّامٍ أو مرحاض؟ فقال له أبوه ساخراً: "هذه من حسنات حسن " ، ثمّ أنشد يقول، وقد شتمه حسن من قبل رغم فضلهِ عليه، مشيراً إلى رسالة الجاحظ (رسالة البرصان والعرجان والعميان):
قال الجاحظ:
إنّ فلاناً ذهبت عينُه يوم الطائفْ
وفلاناً ذهبت عينُه يوم اليرموكْ
وفلاناً ذهبتْ عينُهُ يوم الجُفرة بالبصرةِ
لكنْ
لم نسمعْ يا أقبحَ حسنٍ
أن فلاناً ذهبتْ عينهُ في مرحاضْ
ـ الحمد لله الذي جنبنا اللقاء بهؤلاء بما عرض لنا من وساوس جعلتنا نعيد التفكير ثانية باللقاء بأهل الأرض، ولاسيما أصحابك المقيمين في لندن. ولكن لا عليك، فهكذا هو ديدن الحياة منذ نشأتها فما من عهد إلا وطفا فيه زبدٌ كثير.
ـ أعرف ذلك وهذا ما يجعلني على ثقة من زوال الزبد.
ـ أقترحُ عليك أن نذهب إلى حديقة قريبة وبعدها إلى البيت.
ـ وهو كذلك.

* * *



4- العودة إلى البيت


ـ كانت عودتنا في قطار الأنفاق طريفة أيضا لولا الزحمة.
ـ سرّني أنني لم ألحظ عليك ارتباكاً ما وكأنك ممن أقاموا في لندن زمناً.
ـ لمَ ارتباكي ومعي خير الادلاء!
ـ شكراً لك يا أبتِ ، سأفتقدك كثيراً حين ترحل ولن يعوّض كتابٌ من كتبك عن شخصك أبدا.ً
ـ وأنا أيضاً. لقد رأينا اليوم خلقاً كثيراً وتحدثنا كثيراً وآن لنا أن نستريح قليلاً لنسهر مع تلفازكم العجيب هذا الذي حدثوني عنه في الجنة ولم أره، أو نقراً ما فاتني دهراً. لو قرأتُ أو قرأتَ لي شيئاً الليلة من شعر المتنبي والطائيّ، وقصيدة نونية للبحتريّ طالما أحببتها كثيراً.
ـ أتقصد نونيته الشهيرة التي مطلعها:

عناني من صدودك ما عناني
وعاودني هواك كما بداني


ـ أجل، هي ماقصدتُ.
ـ وأنا أحبها أيضاً ولاسيما أبياتها التي ما زلتُ أحفظها:

نظرت إلى طدان فقلتُ ليلى
هناك وأين ليلى من طدان

ودون لقائها إيجاف شهرٍ
وسبعٍ للمطايا أو ثمان

تجاوزن الستار إلى شرورى
فأظلم واعتسفن قرى الهدان

ولما غرّبت أعراف سلمى
لهنّ وشرقت قنن القنان

وخلّفنا الأياسر واردات
جنوحاً والأيامن من إبان

وخفّض عن تناولها سهيلٌ
فقصّر واستقلّ الفرقدان

تصوّبت البلاد بنا إليكم
وغنّى بالإياب الحاديان


عجيب أمر محبتك التي جمعت هؤلاء الشعراء مع اختلاف مذاهبهم. لقد قلتَ في البحتريّ، مشوقاً إلى أهل بغداد:

ذمّ الوليد ولم أذمم جواركم
فقال: ما أنصفتْ بغداد حوشيتا

فإن لقيت وليداً والنوى قذفٌ
يوم القيامة لم أعدمه تبكيتا


فهل لقيتَ الوليد في الجنة؟
ـ لولا تذكيرك لي الآن لما تذكرتُ هذين البيتين. ما رأيك أن نقرأ الليلة أيضاً من شعر شاعركم الذي لم أسمع منه سوى كلمتي " بويب.. بويب". لم هو على هذه الحال؟
ـ لقد رأى أهوالاً في العاجلة.
ـ أية أهوال؟
ـ عاش شبه يتيم. في قرية نائية، وسط قوم لا يفقهون من دنياهم غير ما يُحيط بهم من زرع. ولضيق عالمهم تكاد لغتهم تقتصرعلى ألفاظ يردّدونها بعدد ألفاظ زرعهم. وحين وصلتهم أفكار جاءت من البعيد اتسع عالمهم ليضيق أكثر فلم يغتنوا بهذه الأفكار، ولا هي اغتنت بهم، بل ظلت بينهم مشوهة غريبة لا تتعرف على نفسها ولا عليهم، بعضهم وهو قريبٌ منه كان يصرّ أن يسموه _ كما يروي في مقالٍ له ـ لتيفنوف لأن اسمه عبداللطيف تعبيراً عن ولائه لهذه الأفكار وموطنها البعيد. وقد آذاهم السياب مثلما آذوه في مقالاتٍ (جمعت في كتابٍ بعد موته) لم توفر منهم أخاً أوقريباً. وهو لولا الشعر لظلّ فلاحاً متعلماً أو متعلما فلاحاً لا يعرف من دنياه غير بيته والمقهى. وقد كان لتوقيفه المتكرر وملاحقة الشرطة له وتنكّر رفاقه أثرٌ كبيرعلى شخصه، وحين حلّ مرضُهُ الغامض اكتملت المأساة فلم تترك جرحاً في جسده لم ينزف. ولا أدري كيف احتمل جسده الواهن عبور سراط الجنة. لعلّ حوريةً حملتهُ إلى هناك.
ـ بودي أن أقرأ قصيدته عن بويب. أهو نهرٌ؟
ـ أجل هو نهرٌ.
ـ وهل له قصائدُ أخرى بشهرتها؟
ـ أجل ولعلّ أشهرها (أنشودة المطر) فهو كان يحب الماء الذي كان يتردّد في شعره نهراً أو غيمةً أو زرعاً فقد يعوّض الماء عن جفاف حياته القصيرة التي لم تشهد خصباً قطّ.
ـ أتمنى لو اطّلعتُ على ذلك كلّه. يذكّرني بويب بنهر قويق في حلب.
ـ أتذكر بيتَ شعرٍ لك في (سقط الزند) عن قويق تقول فيه حين بلغتْ إبلك نهر الصراة في بغداد:

تمنتْ قويقاً والصراة حيالها تَرابٌ لها من أينقٍ وجمالِ( )

مثلما أتذكّر إشارتك إليه في كتابك (الصاهل والشاحج)، ووصفك في رسالتك (رسالة الغفران) لبناته الصغار المخطوبات اللواتي يؤخذن منه فلا يغار، وتقصد أسماكه، ثم تصف كيف يسترن أنفسهن فلا يتبرجن، وكيف يرغمن على الخروج من خدورهنّ في الماء، بعد أن تُلقى عليهنّ الشباك. ومثلما ذكّرك بويب بقويق المسكين ذكرتني أسماكُهُ الصغار بضفادع الجواهري.
ـ وماذا كتب الجواهريّ عن الضفادع التي سبق أن كتب عنها زهير بن أبي سلمى:

يحيل في جدولٍ تحبو ضفادعه
حبو الجواري ترى في مائه نُطُقا

يخرجن من شربات ماؤها طحلٌ
على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا


ـ كتب أبياتاً هي جزء من قصيدة طويلة سماها المقصورة هذا بعضها:

سلام على جاعلات النقيق
على الشاطئين بريد الهوى

لعنتنّ من صبية لا تشيخ
ومن شيخةٍ دهرها تصطبى

تقافز كالجنّ بين الصخور
وتندسّ تحت مهيل النقا

حلفت بمن راءكنّ الحيا
ة سمحاء أبدع ما ترتأى

وألبسكنّ جمال الغديـــ
ـرمن صافَ منكنّ أو من شتا

لأنتنّ من واهبات البيان
جمالاً ومن محييات اللغى

على أنها لغة ثرّة
عواطفكنّ بها تمترى

لقد عابكنّ بما لا يعا
ب فدمٌ بخلقٍ جميل زرى

بسمحٍ ينادم ركب الخلود
ويحسن للخابطين القِرى


ـ ولكن قبل أن نتطرّق إلى كلّ ذلك ألا حدّثتني عن نفسك أم أنت عن حديثها ضنين؟
ـ ابداً.. ما من شئ أحبّ إليّ من مسارة صديق أو أب.
ـ يهمني أن أعرف كيف تقضي يومك؟ ماذا تفعل؟
ـ ليس ما أفعله ما يستحق الذكر. هنا أنت وسط قومٍ لا تعرفهم حتّى لو عرفت لسانهم واختلطت بهم. ثمة شئ غامض فيهم ينأى عنك فلا تمسكه أبداً حتى وإن كانوا أكثر إنصافاً منّا في الحق، ولنا بينهم أخلاّء.
ـ هذا كثير وقد قلّ الإنصاف في الأرض.
ـ ولكني أقطع سأم الإقامة وبرد شتائهم المتجهم بالترحال ورؤية الأهل بين آونة وأخرى، ولولا عنايتهم لكنت أعمى منذ سنين. وهذا ما منّ به عليّ المنفى.
ـ وهذا كثير أيضاً لمن اختبر الدنيا.
ـ نعم هذا كثير ولست بجاحدٍ أبداً
ـ وكيف رأيت البلاد في زيارتك الأهل؟
ـ خراب ولولا الناس والأهل لما زرتها ثانية.
ـ لِمَ هي خراب؟
ـ الحروب وفساد الحكام. ولعلّ الأمر ليس ببعيد عما قلتَ عن البلاد في زمانك:

أرى حلباً حازها صالحٌ
وجال سنان على جِلّقا

وحسّان في سلفي طيىْ
يصرّف من عزّه أبلقا

صالح بحلب، وسنان بدمشق وحسان بالرملة حتى مصر، والبلاد ساحة قتال ولا أمنَ هناك.
ـ لعنة الله على الحكام. دوماً هم هكذا. ولعلّ ما يحمد للجنة أنك لا تجد فيها من الحكام والملوك إلاّ القليل النادر، لا تميزهم عن غيرهم أبداً.
ـ ربما هؤلاء هم الخلفاء الراشدون وبضعة حكام آخر.
ـ أجل وإن اختلفنا حولهم في الجنة، كما في الدنيا السالفة، فمنّا من يرى بعضهم على حقّ ومنا من يرى بعضهم على خطأ، ولولا مباهج الجنة، وتباعد أقطارها بعضها عن بعض ، لربّما عادت إلينا وساوسُ العاجلة ذاتها ولكنك تعرف أن في ترف البيئة والنعيم الذي نحن فيه ما يخفّف من حدّة الاختلاف ويجعل الناس ألين مظهراً وطبعاً.
ـ بلا شكّ. يقال إن عثمان كانتْ أسنانُه ذهباً في العاجلة فهل مازال يملأ فمه الذهب؟
ـ لم ألحظ ذلك.
ـ وهل في الجنة ملوكٌ وحكامٌ من غيرالعرب و المسلمين؟
ـ بالطبع.
ـ وهل لايزال عمر بن الخطاب يسير في الجنة بدِرّته المشهورة؟
ـ وماحاجته للدرّة هناك؟
ـ وكيف رأيتَ صاحبها؟
ـ أدهشني أنني وجدت عمر أرقّ حاشية من أبي بكر على خلاف ما يتصور الكثيرون، مما أكدّ لي شكوكي في العاجلة بعد معرفتي بوقائع حدثتْ في خلافته.
ـ كيف؟
ـ تعرف أن أبا بكر أبدى قسوة قلّ نظيرها في حروب الردة فهو لم يمنع خالد بن الوليد ممّا اقترفهُ من جرم بحقّ بني يربوع ، مثلما أمر في خلافته بحرق أياس بن الفجاءة وأياس بن ورقاء، رغم أن النبي نهى عن ذلك، أي الحرق، مهما كانت طبيعة جرم المحكوم وحجمه، حتى يقال أنه ندم على فعلته هذه حين وافته المنية.
ـ وهل يبدو عليه ندم هناك.
ـ لم يعد شاغلنا السؤال عن ذلك، وقد أخذ كلّ حقّه في الآخرة. ثمّ إننا في شغل عن لقاء الحكام حتى العادلين منهم، وقد تباعدت بنا السبل ولم يعد هناك حاكمٌ أو محكومٌ، خليفةٌ أو غير خليفةٍ. أخطأ أو أصاب. ولي من صحبة الشعراء وأنسهم ما يغنيني عن صحبة أولئك.
ـ مازلت على الموقف ذاته الذي عرفناه عنك في اللزوميات:

توحّدْ فإن الله ربك واحدٌ
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء

ـ ما أطرى ذاكرتك!
ـ إذاً ما الذي يدعوك ويدعو غيرك من الشعراء أحياناً إلى الشكوى والتذمر من الجنة كما فهمت من حديثنا الحالي؟
ـ كلّ شئ هناك روح وليس تجريداً كما في جنة شاعر الفرنجة دانتي الذي تحدثنا عنه.. الحجر هناك روح، الشجرة روح، الحيوان روح، وقد تصمتُ هذه الروح دهراً وفجأة تتحدّث فلا يفجؤك ذلك ولا يدهمك خوف. وقد تستحيل إلى كلّ هذه الاشياء أحياناً فتشعر أنك حجرٌ يصمت، وشجرة تهتزّ، وحيوانٌ يتنقّل، ولكن أن تشعر أنّك محاطٌ بالأرواح هو الخوف، فلا مكان تنأى فيه بنفسك، ولامكان تخاطبها فيه، فتقول: ربّي، أعنّي على نفسي التي أردتُها صاحباً فأصبحتْ خصماً!
ـ أليس في وجود الحوريات ما يهب الجنة روحاً أخرى، روحاً تشغلك عن الأرواح الأخرى؟ وعذراً لسؤالي هذا يا أبتِ إن كان فيه جانب شخصيّ جدّاً؟
ـ لا شكّ في ذلك. لكن أقول لك الحق إن الحرمان في العاجلة أدّى بي إلى الزهد، ونقيضه في الجنة إدّى بي إلى الزهد بمقدار، فسبحان الخالق كيف اجتمع النقيضان ليكونا سبباً واحداً. لعلّها مشيئة ربك شاءت ذلك ولعلّها الأقدار، ولستُ بعيداً، كما أظن، من اعتقاد أبي حامد الغزالي أن الجنة تحت أقدام الأمهات وفوق بطون العباد، وإن كنتُ لا أرضى للحلاج هذه الغيبوبة الدائمة، والإفاقة السريعة المفاجئة التي يعود بعدها الى غيبوبته ثانية، إنّ في ذلك رهقاً وإسرافاً في العبادة لا يستسيغهما حتى الملائك.
ـ حين يُفيق ألا يحدّث أحداً.
ـ كلما أفاق وجد شخصاً بجانبه فيغمض عينيه ثانية.
ـ ومن هو هذا الشخص.
ـ شاعر أيضاً يقال أنه كتب عملاً جيّداً عن الحلاج وهو يكاد أن يكون من مريديه.
ـ أتقصد الشاعر المصريّ صلاح عبدالصبور؟
ـ نعم هو بالذات. إنه يلازم الحلاج في غيبوبته وإفاقته، ولا يتركه إلاّ نادراً، حتى صار هو بحاجة إلى من يوقظه من غيبوبته الدائمة أيضاً. غير أن الشعراء ، لحسن الحظ ، من النادر أن يتعرضوا بالهزء لهما بل يمرّون بهما غير مكترثين وقد اعتادوا المشهد.
ـ جاء في (رسالة الغفران) أن في معلقة عنترة وردت لفظة (المُحَبّ) وهذا ما لم يسمع به في الزمن القديم إلاّ في بيت عنترة:

وقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المُحَبّ المكرمِ


وفي شعر صلاح عبدالبصور وردت لفظة باخل بمعنى بخيل وهذا ايضا ما لم يُسمع به في شعرنا إلاّ في بيت الصبور هذا:

ولست باخلاً لكنّها فقيرة خزائني

ـ إنه استخدام جميل حقّاً.
ـ وأين الشبلي في الجنة من صديقه الحلاج؟
ـ ما كنت أظنّه دوماً هو أن الشبليّ سليمٌ من مذهب الحلولية.
ـ وكيف تفسّر بيتيه الشهيرين:

باح "مجنون عامرٍ" بهواهُ
وكتمتُ الهوى ففزتُ بوجدي

وإذا كان في القيامة نودي
أين أهل الهوى؟ تقدمت وحدي


ـ لا أعتقد أن هذين البيتين له، وقوله بالانفراد عن العالم إن هو إلاّ دعوى منسوبة إليه. وسكون الياء في نودي لا يوجد إلاّ في أشعار الضعفة من الشعراء.
ـ يبدو أن الجنة لا تختلف في بعض مشاهدها عن الأرض.
ـ تستطيع أن تقول ذلك لكن شتّان ما بين سلام الجنة وحروب الارض. ثمة مشاهد أخرى لها نكهة أخرى . نكهة أرضية إن شئت مما يجعل عالم الجنة عالماً محتملاً.
ـ مثل ماذا؟
ـ رؤبة الراجز المشهور وهو يتحدث بلغته البدوية الطريفة: كها، كهِ، كهنّ ويعني مثلها، مثله، مثلهن، مجيزاَ إضافة كاف التشبيه إلى الضمائر. أو البردوني الذي أدمن معاشرة بني قومه من قدماء اليمنيين وهو ينطق الجيم كافاً. لا شك أنك سمعت بالبردوني الشاعر؟
ـ بلا شك ومن منّا لا يعرف البردوني!
ـ يقول يا جماعة فينطقها ياكماعه، أو يقول : الله جلّ جلاله، فينطقها الله كلّ كلاله بلهجته اليمنية المحببة، فنستأنس لها ونضحك، فيضحك معنا، وقد يبالغ في جيماته ويتصنع، فتبدو جمله وكأنها حشيت بها حشواً، ولعلّ الله كلّ كلاله يضحك معنا.
وليس بغريب أيضا أن يأتي إعرابيّ تعرفه من ملامحه قد يكون شاعراً في العاجلة أو راوياً ويحييك بصيغة المثنى وأنت فرد فتقول له يا فلان أنا وحدي فلم تحييني بصيغة المثنى، فلا تعلم أن ثمة قبائل تسيغ الخروج من مخاطبة الواحد إلى الاثنين، أو من مخاطبة الاثنين إلى الواحد، فتضحك وتشكره لأنه ضاعفك حسنة بجعلك اثنين.
ـ ولكنك ذكرت ذلك في رسالتك (رسالة الملائكة ) واستشهدت عليه ببيت ظريف
ـ لا أتذكره. ما هو هذا البيت؟
ـ أنه....

فإن تزجراني يا ابن عثمان أنزجرْ
وإن تدعاني أحمِ عرضاً ممنّعا


ـ ولا تعدم أن تجد شاعراً كمعروف الرصافي وهو أسيرُ وساوسه أن يكون محمّد قد اطلع على كتابه (الشخصية المحمّدية) فيكون سبباً في إخراجه من الجنة وإرجاعه إلى جهنم التي رأى من نيرانها مايرجف جسده حتى الآن، فتراه يهمس في إذن هذا وذاك : هل اطلع محمّد على كتابي؟ وقد ازداد خوفه واشتدت هواجسه بعد أن أنس مجالسة الولدان ومسامرات الخلاّن، وهو لا يستحق كلّ هذا العناء من الخوف والهواجس، لما لمسته فيه من سعة أفق ودقّة رأي، ولكنه سرعان ما يحترس ويتصنع اللامبلاة كلما أقبل عليه الزهاوي بمرحه المعهود.
ـ وما الذي يقوله الزهاوي الآن وهو صاحب البيتين الشهيرين:

لمّا جهلتَ من الطبيعة سرّها
وأقمت نفســـك في مقام معللِ

صوّرتَ ربّا تبتغي حلاّ به
للمشكلات فكان أعظم مشكلِ

ـ لا يقول شيئا لأنّ ما يشغله الآن شئ آخر غير أسئلته هذه. أما شوقي شاعركم الآخر الظريف فتراه يستقبل شهر رمضان، كعادته، متوجساً مذعوراً، وقد رأى طائفة من المتصوفة وهم يتهيئون له، ويستقبلونه بالتباشير والتهنئة، بل وبالدفوف أحياناً: أفي هذه السنة صيام؟ فيطمئنه من حوله وبعضهم من الملائكة أن لا رمضان في الجنة، فتهدأ روحه وهويتناول قدحه الذهبيّ راشفاً ما تبقّى به من خمر الجنة.
ـ ليس غريباً هذا على شوقي وهو صاحب البيت الشهير:

رمضان ولّى هاتها ياساقي
مشتاقة تسعى إلى مشتاق


ـ يشاع عن عمر بن الخطاب أيضاً أنه مازال مبتلىً بداء الغيرة، كما في العاجلة؟ أهذا يعني أنّ حديث النبيّ عنه والذي رواه البخاري في صحيحه فد صحّ؟
ـ وماهذا الحديث ؟
ـ يُروى أن النبيّ قال: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميضاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت: من هذا فقال: هذا بلال. ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظرإليه فذكرتُ غيرتك. فقال عمر: بأبي وأمّي يا رسول الله أمنك أغار؟".
أخشى وقد رويتَ لي ما رويتَ عن مغفرة الله الواسعة ألاّ تكون قد شملت الحجاج لاسيما أنّ أناساً هناك لا يأخذون عليه دينه بل سياسته وبطشه الشديد.
ـ لم أره قطّ ولم اسمع أنّه في الجنة، ولا أعتقد أنه في مكانٍ ناءٍ فيها ولو كان لوصلتني أخباره، أو لسمعت عمّن تذمر أو تظاهر مثلما تظاهروا عند قدوم ابن أبي ربيعة والقباني، وهما ممن لا يجمعهما جامعٌ بالحجاج أبداً لرقة طبعهما وعذوبة أشعارهما.
ـ وماشأن مادحه جرير؟
ـ في شجار دائم مع الفرزدق فكأنهما لم يغادرا العاجلة قطّ، ولكنهما حمداً للحظ لم يعودا يتهاجيان بالأشعار؟ ولم تعد خمرة الجنة بمسعفة للفرزدق على الصداع والتدويم ليرى كلاباً فيسلّم عليها أو يتخيل ذئباً ليصارعه والذئب الذي يلقاه في الجنة مشغول بشاته، لا همّ له سوى الأكل وردّ التحية بأحسن منها لعابر الطريق..
ـ وهل صحيح أن هناك قوماً يقادون إلى الجنة في السلاسل؟
ـ ومن أين سمعت بهذا؟
ـ جاء في صحيح البخاريّ أنّ النبيّ قال:"عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل".
ـ ولماذا يدخلون في السلاسل؟ لم أر ذلك، ولم يحدثني عنه أحد. فما أكثر الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ وهو براء منها. ولو تحدث بها جميعاً لاحتاج إلى عشرات السنين، أين منها عمره القصير وطول تأمله، وصمته الذي عرف به، وتهجّده الليليّ: "قم الليل إلاّ قليلا".
ـ وأين عشاق بني عذرة من كلّ هذا؟
ـ ينطبق عليهم قول الشاعر:

فلو كنت عذريّ العلاقة لم تبت
بطيناً وأنساك الهوى كثرة الأكل

لقد جعلتهم كثرة الأكل بطينين متكئين على الأرائك مسرفين في لهوهم، مثلما أسرفوا في وجدهم من قبل، وبدوا وكأن لم يكتبوا الشعر يوماً وقد نسوه.
ـ أهذا يعنى ألاّ شعر في الجنة؟
ـ على العكس لقد اصبح الشعر للجميع.
ـ يذكرني يا أبتِ هذا بشعار الخبز للجميع الذي تطرحه عندنا اليوم الحركات الثورية الشبيهة بثورتي القرامطة والزنج. كيف أصبح الشعر للجميع وليس هناك شعر غير ما ترويه الحوريات في الغناء؟.
ـ أجل .. هذا ما عنيتهُ ، لقد أصبحت الحوريات هنّ من يرددن الشعر في غنائهن التي ترتج له أرجاء الجنة أحيانا لعذوبته، ولكن أين ما يردّدن من هذا الكم الهائل من أشعار العرب؟ حين تقول لأحدهم: هل سمعت أشعارك؟ يقول: وهل هذه أشعاري؟ وحين يغنّين ما يردّدن من أشعار تصبح هذه الأشعار للجميع لأنها لا تنتسب لأحد ولا يتذكّرها أحد، وحتى لو تذكّرها فتذكّرهُ لا يعني أحداً.
ـ وحين تغنّي الحوريات ألا يجتمع أطفال الجنة حولهنّ؟
ـ لا، لأنهم يكونون في موضع آخر من الجنة .
ـ وهل في هذا الموضع أنهارُ خمر أيضاً؟
ـ لم يتحْ لي الذهاب هناك لأرى بعينيّ، وإن كنتُ لا أعتقد بوجود مثل هذه الأنهار، فما حاجة الأطفال لأنهار الخمر.
ـ وحتى أنهار اللبن، ألا يُخشى أن يغرق فيها الأطفال؟
ـ لم يطرأ هذا على بالي من قبل.
ـ وفي أنهار الجنة كنهر الكوثر المعروف لأهل الارض أثمة أسماك أيضاً؟
ـ بلا شكّ.
ـ وهل ينطق السمك كبقية الحيوان؟
ـ أجل، ولاسيما الجرّي أو الجرّيث.
ـ ولماذا الجرّي؟
ـ تعرف أن الجرّي هو الذي كلّم الناس الذين سألوا عليّاً بن أبي طالب هل يحلّ لهم أكله أم لا فساقهم إلى نهرٍ بصق فيه، وتلا كلاماً ظهر على إثره الجرّي وقد مدّ رأسه وفتح فمه ناطقاً ... إلخ هذه الرواية التي يتناقلها الشيعة والتي يضيفون إليها المعلومة التالية عادة وهي أن أسماك الجري تحيض.
ـ إذا كان الجرّي ناطقاً في العاجلة فما أحراه بالنطق في الآخرة. ومن لا ينطق في الجنة إذن؟
ـ قلت لك أنّ ثمة روحاً تحضر في كلّ شئ.
ـ في الأحاديث والكتب هناك الكثير مما يُروى عن الجنة لا يمكن تصديقه وقد يكون باعثاً على الشك إلاّ بعض أحاديثَ رُويتْ عن النبيّ كالعرش المحمول على أكتاف ثمانية من الملائكة، ولكن ثمة مشاهد يرويها المتصوفة من الصعب تصديقُها وهي ربما من مخاريقهم . ووجودك الآن قد يحسم الكثير من الشكوك.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل المشهد الذي يرويه ابن عربي في الفتوحات المكية.
ـ أيّ مشهد تعني؟
ـ يروي ابن عربي أنه شهد النبيّ وقد اجتمع الرسل بين يديه وأحاطت به أمته. عن يمينه الصدّيق وعن يساره الفاروق، وبصحبتهما عثمان المشغول بشأنه وعليّ الذي يقوم بدور المترجم لما يقوله الختم (عيسى بن مريم ) الواقف خلف محمّد. وهذا يعني أن عيسى ما زال يتكلم الآرامية أو العبرية في الجنة .
ـ وما الذي يترجمه عليّ؟
ـ الحديث التالي:
"فقال له السيّد (ويقصد محمّداً النبيّ): هذا عديلك وابنك وخليلك.
انصبْ له منبر الطرفاء بين يديّ.
ثمّ أشار إليّ ـ أي إلى محمد بن عربيّ ـ أن قمْ يا محمد فاثنِ على منْ أرسلني وعليّ، فإنّ فيك شعرة منّي لا صبر لها عنّي، هي السلطان في ذاتيتك، فلا ترجع إليّ إلاّ بكليّتك، ولا بدّ لها من الرجوع إلى اللقاء، فإنها ليست من عالم الشقاء، فما كان منّي بعد مبعثي شئ من شئ إلاّ سعد، وكان ممن شكر في الملأ الأعلى وحمد".
ثمّ يضيف: "فنصب الختم (أي عيسى) المنبر وفي ذلك المشهد الأخطر، وعلى جبهة المنبر مكتوب بالنور الأزهر، هو هو المقام المحمديّ الأطهر".
ـ هذه ليست سوى تخريفات ومخاريق فلم أر مشهداً كهذا في الجنة. لِمَ كلّ هذه الزحمة والمشهد المكتظ بالأمة والرسل والأولياء والصحابة والترجمة وهذا المنبر الموضوع لمحمد بن عربيّ من دون سائر الخلق؟ . إنها تخريفات متصوفة لا محل لها في واقع أوخيال. ثم هذه اللغة الركيكة في الاسطر الأخيرة والسجع المتكلف!
ـ ألا يمكن أن تحمل هذه الرواية على محمل الرمز باعتبارها إشارة إلى الولاية العامة أي ولاية عيسى بين الأنبياء باعتباره خاتم الولاية العامة والولاية الخاصة التي خصّ بها محمّد بن عربي باعتباره خاتم الولاية المحمدية.
ـ يمكن ذلك ولكنها مخاريق وشحط بالرمز، دون مصاحبة حال أو وارد لكي يبرر هذا الشحط الأقرب إلى التعقلن لا الوجد.
ـ هل أقرأ لك شيئا من شعرك؟
ـ لم لا مادام الليل طويلاً ولم يغمض لنا جفن .
وأيّ قصيدة تحبّ؟
ـ قصيدة تلائم سهرتنا هذه.
ـ أتحبذ؟:

ياساهر البرق أيقظ راقد السمُرِ( )
لعلّ في الحيّ أعواناً على السهرِ

ـ لا أحبها كثيراً.
ـ لم؟
ـ ربما لما فيها من مبالغة في المدح؟ ولما فيها من جواز نحوي متعسف
ـ أتقصد ما استجزته من رفع في عارٍ وحقّه النصب في هذا البيت:

وما تركتِ بذات الضال عاطلة
من الظباء ولا عارٍ من البقرِ

ـ هذا وغيره.
ـ ولكن فيها أبيات في غاية الجودة كمطلعها أو هذا البيت الذي كنت أحفظه منذ تعرفي عليك في سقط الزند:

إذا همى القطر شبّتها عبيدهمُ تحت الغمائم للسارين بالقُطر

ـ لعلّ في قصائدي الأخرى ما يشفع بالقراءة والسهر.
ـ لأقرأ إذن ......
ـ ما هذه الضوضاء؟
ـ إنها ضوضاء اعتدتُ عليها يا ابتِ، قادمة من الساحة المجاورة.
ـ ما سببها؟
ـ سكارى يأتون في الليل، مراهقون عابثون، امرأة ترفع الهاتف وتحدث نفسها وكأنها تحدث شخصاً آخر ثم تخرج من كشك الهاتف محتدمة لتعود إليه بعد قليل. تراها فتنسى ضيقك بضجيج الساحة وتشعر بالإشفاق على البشر.
ـ وهل يحدث هذا يوميّاً؟
ـ بين حين وآخر.
ـ وماذا تفعل؟
ـ لا أفعل شيئاً فهنا حرية الفرد تضيق وتتسع، فلا تدري متى تضيق ومتى تتسع، أمّا إذا كان الفرد مختلاً عقلياً أو مجنوناً أوسكيراً أو شابّا طائشاً عندئذ يغدو القانون في غاية الالتباس وعموما فإنها أوسع من حرية الجماعة، وهذا على ما فيه من التباس أفضل بكثير مما يجري لدينا من عسف باسم الجماعة ممثلة بسلطة أو حزب.
ـ وهل يحدث هذا في النهار؟
ـ غالباً ما يحدث هذا في الليل، ولاسيما حين يكون الجو رائقاً وهذا لحسن الحظّ نادرٌ جدّا فالشتاء هنا لا ينقضي ألاّ ويكون قد التهم الفصول الأخرى. فلا تشهد الساحة غيرَ البرد والمطر وخشخشة الأوراق التي تحسبها مطراً حين تغلق النافذة وتسدل الستارة. وشتان ما بين الضجيجين.
ـ لا أظن أنّ ثمة فصولاً في الجنة؟
ـ ربيع دائم..
ـ أنا أحبّ الخريف كثيراً وأحسبه أجمل الفصول؟
ـ وكيف تقضي شتاءك؟
ـ كما يقضيه صاحبك عمرو بن يربوع الذي تزوج سعلاة فقيل له إنها ستكون مخلصة مالم ترَ برقاً فإنْ رأته ستفارقهُ إلى الابد، فكان كلّما لاح برقٌ سترها إلا إنه غفل ذات يوم فهجرته ولم تعدْ إليه، وهذا ما أشرتَ إليه في بيتك الشهير وهو من القصيدة ذاتها التي ضمت بيتك السابق عن قويق:

إذا لاح إيماضٌ سترتُ وجوهها
كأنّي عمرو والمطيّ سعالي

ولأني كعمرو المتوجس قررتُ ألاّ أمكثَ مرتقباً البرق بل أمضي إلى مكان آمنٍ بعيداً عن البرد والمطر، مكان قد نلتقي فيه في مرة قادمة إن شاءت الصدفة وزرتَ الارض ثانية.
ـ آمل الا تكون زيارتي هذه الأخيرة إلى الأرض.
ـ خفتت الضوضاء الآن، لكني أشعر بضوضاء أخرى .. ضوضاء تسكن ذاكرتي. أظنّ أنني بدأت أتذكر أشياء كانت غائمة ... وجوهَ أناسٍ من عصري، عناوين كتب، عباراتٍ كانت مطموسةً، أبياتَ شعرٍ، مقاطعَ قصائد.. كلّ ذلك يحتشد في ذهني .. أجل أتذكر الآن الابيات التي أوردتها. إنها من قصيدتي التي مطلعها:

أرقتُ لضوء البارق المتعالي
ببغدادَ وهْناً مالهنّ ومالي

يمكنك الآن أن تختبر ذاكرتي.
ـ بأي شئ أختبرها؟. إنها علامة عظيمة أن تعود لك ذاكرةُ الشعر، لعلّها تقودك إلى الشعر ذاته؟
ـ أجل سأكون فرحاً لو كتبت شعراً عن الأرض قبل مغادرتي الأرض.
ـ آمل ذلك يا أبتِ.
ـ ما أوحشَ الإنسانَ أن يكون شاعراً أو يتذكر أنه كان شاعراً ولا يقدر على كتابة الشعر.
ـ ولاسيما إن كانت حياته سرمدية لا نهاية لها في العالم الآخر.
ـ إنها محنة الشعراء جميعاً.
ـ إنها محنة كبيرة.
ـ كيف يمكن أن يصدّق الشاعر أنّ بمستطاعه أن يحيا أو يخلد من دون شعر.
ـ أتختبر ذاكرتي .. اختبرها بأي شئ يطرأ في ذهنك.
ـ حسناً.. رويت يا أبتِ في رسالة الغفران...
ـ أكاد أتذكرها الآن كاملة.
ـ أنك التقيت بالشاعر الجنيّ خيثعور الذي روى لك بدوره أنه مرّ بيثرب في زمن المعو ـ أي الرطب ـ فسمع هو ورفقةٌ له من الجنّ " قرآناً عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا". وعاد إلى قومه ليذكر لهم ذلك، لكن كثيراً من رواة السير يقولون إنه كان طريق الطائف وهذا ما يذكره كتاب الأفرنجة أيضاً كالكاتب واشنطن أرفنغ بكتابٍ له شهير عن محمّد.
ـ كلا الروايتين وإنْ اختلفتا تؤكدان الحادثة أي استماع الجن للقرآن، وهذا هو المبتغى من الرواية.
ـ إذن تذكرتها بشكل جيّد.
ـ نعم.
ـ فهل أقرأ لك القصائد التي وعدتك بها؟
ـ سنقرؤها معاً، ما أسعدني الليلة! كأنني وُلدتُ من جديد.
ـ لنحتفلْ إذاً بمولدك يا أبتِ. ما رأيك أن أجلب شراباً خفيفا؟ً
ـ لا بأس في ذلك.
ـ لو كنتَ في مكان آخر مسافراً أكان لنا فسحة كهذه.
ـ لا أعتقد. هنا نحن أكثر حرية، ولو كنّا في مكانٍ آخر لكان ثمة قيود تحول دون ذلك، سواء أكنت في فندق أم بيت.
ـ وما المكان الأخير الذي زرته ؟
ـ العراق الذي كنت تسميه في إحدى رسائلك "مجتمع أهل الجدل"؟
ـ كيف وجدته؟
ـ إنه الخراب بعينه.
ـ كيف؟
ـ طوائف ومحتل ومزابل تملأ المدن. ولا سلطة هناك. تستطيع أن تقتل وتختفي ولا أحد يعنيه اختفاؤك لأن ثمة أحداثاً أخرى تحدث، ولو قُيّضَ لهم القبض عليك ودخلت السجن فإن بإمكانك الاختفاء ثانية، والهروب من السجن، والذي يعينك على الهرب هو سجانك. كل ذلك يجري باسم السماء التي لوثوها بوحولهم.
ـ هذا أمرٌ عجب.
ـ وماذا تفعل الناس؟
ـ تنتظر كعادتها.
ـ ماذا تنتظر؟
ـ القيامة ـ ربماـ ليلتحقوا بكم أنتم أهل السماء، وكثيراً منهم يلتحقون بكم بين فترة وأخرى عبر تفجيرات تحصد الأطفال والنساء والأسواق باسم محاربة المحتلّ. والأغرب من ذلك يُسمى العراق الآن بالعراق الجديد. لقد أضحت المأساة في العراق ملهاةً، والملهاةُ مأساة، والبلد بأكمله مسرحاً غالباً ما يختفي ممثلوه كاللصوص محمّلين بما يسرقون.
ـ لا أتمنى أن أزورك يوماً هناك فهذا مالاطاقةَ لي به. وماذا بشأن الأماكن الآخرى؟
ـ بلدانُ عربٍ هي بلدان طوائف لا تختلف في جوهرها عمّا كانت عليه في زمنك.
ـ وهل التقيت في زياراتك بأدبائها ومفكريها وأعلامها؟
ـ نادراً فأنا كما قلتَ في رسالتك إلى أهل المعرة ذات يوم "ماسافرت أستكثر من النشب ولا أتكثر بلقاء الرجال" ولكنني حريصٌ أن أقتني ما يصدرون من كتب أومقالات سواء في بلدانهم أو ما يصلني في بلدان الفرنجة.
ـ وكيف وجدتهم في كتبهم؟
لا تسرّ أحداً إلا القليل منها.
ـ كيف؟
ـ الحديث ذو شجون. والتفصيلات مملة تبدو أمامها تفصيلات جنتك في غاية البهاء.
ـ شئٌ محزن..
ـ شئ محزن اعتادهُ الناس. وأيّ شئ لم يعتده الناس: فقرهم، حكامهم، وحتى موتهم وهذا أبشع ما يعتاده المرء. أما الكتّاب فأمرهم أعجب، مولعون بالطغاة وجوائزهم واحتفالات طوائفهم وفولكلورهم المقيت وسخائهم، وخناجر قبائلهم في العشيات. أحدهم يدعي "الفضل" ولا فضل له غير تحكيمه في المهرجانات. ادعى مرّة أنّ كاتباً من الفرنجة قبل جائزة طاغية في رسالة خاصة إليه، ثمّ تبيّن كذب ادعائه حين أعلن ذلك الكاتب رفضه للجائزة علناً. يكتب عن الحداثة ويرتع في القديم. محكّماً لأحطّ مسابقة عرفها الشعر.. مسابقة نظّامين يُكافؤون بالملايين.
ـ أمثل هذا كثيرون؟
ـ أجل كثيرون. أحدهم جاء بغداد مرة متشدقاً بالجديد شاتماً الجواهريّ وحين رأى ردّة فعل الناس الغاضبة أعلن نقيضَ ما صرّح به وبحماسٍ لا يماثلهُ حماسٌ آخر، بلاحرجٍ. هذا الناقد الذي أقام سنواتٍ في لندن يدرّس في جامعاتها اللغة العربية من دون أن يتعلم لغة البلد الذي يعيش فيه، صادف امرأة جالسة أمامه في القطار حين قدم إلى وطنه عن طريق الاسكندرية متوجهاً إلى القاهرة، فانتابه الحماس ذاته وقد غضّت من بصرها حياله، واجداً في حيائها مناسبة لشتم نساء الفرنجة الوقحات على حدّ زعمه، وهو بذلك يكشف عن أصله الفلاحيّ المتخلّف، في صفحةٍ من كتاب له عن الشعر الجاهلي. وفي كتاب له آخر عن ابن الرومي يرى فيه أن ابن الرومي كان يستحق ميتة السم... هل أضجرتك بأمثلتي؟.
ـ لا.. أبداً يهمني أن أعرف ذلك.
ـ آخرهو علمٌ أيضاً يصف عزلته بعزلة الراعي وهو أبعد ما يكون عنها، يشتم في مذكرات له ناقداً سودانياً حصيفاً يفوقه ذوقاً وسعة اطلاعٍ، وينعته بالجهل مادحاً آخر يعتاش على كتابة هذا الناقد الحصيف هو ذلك الفلاح نفسه الذي ذكرناه قبل قليل فتصوّرْ أيّ تداخلٍ مشين. أمّا المتحدثون عن المدنية والتجديد والتجاوز ويقبضون مكافآت الطغاة فلا حصر لهم آخرهم يلقب بـ (العصفور) لخفته في التنقّل بين الجوائز. حتى أصبحتُ وبي خشية مما قد يفجؤني من مباذل في الكتّاب والكتب. المبدعون أنفسهم لم يعودوا بمنأىً عن هذا الوحل. أحدهم أخرج كتابا سمّاه خلوة الغلبان أو ماشابه يتحدّث فيه عن يهوديّ مصريّ التقى وفدَهم في باريس، أراد الاحتفاء بهم فوعدوه ولكنّهم لم يفوا بوعدهم مرّات، وفي آخر مرّة انتظرهم، مشوقاً لأبناء وطنه الذي غادره إلى فرنسا منذ زمنٍ طويل، حتى ما بعد منتصف الليل فلم يحضروا، بسبب كونه يهودياً وهو المصري الملئ بالحنين إلى مصر وأهلها. يروي هذا الكاتب الغلبان مفتخراً رغم تظاهره بالندم أن هذا اليهودي المصري هو أحد أبرز علماء النفس في فرنسا، وهو لم يعرف ذلك إلا حينما قرأ نبأ وفاته في صحيفة مصرية، فتصور أيّ إنسان هذا المبدع الذي يغادر الطاولة لأن جليسه يهوديّ! أو أن اسمه حين قدّم نفسه إليه، لا يعني له شيئاً، رغم تفاخره بكتابته عن الناس البسطاء، بل إنه لشدّة رعبه مال على أقرب أذن صادفها ليهمس لها أن الرجل يهوديّ. وليس خدينه، حاصد الجوائز، الآخر الذي كان معه في السفر بأحسن منه لو تحدّثنا عمّا يكتبه في مجلته وأخبارها من هُراء.
هل أقول لك أن أدبنا يعوزه الكاتب الإنسان؟ ما أصدق بيتك يا أبتِ!:

والأرض للطوفان مشتاقة
لعلّها من درنٍ تُغسلُ

أتذكره دائماً وأردده كثيراً.
ـ وأنا كنت أردّده كثيراً أيضاً في حياتي على الأرض.
ـ أما شيخ المحدثين والمجددين، الشاعر المستغرب المستعرب فانتهى به المطاف والبحث في مديح شيخ المتخلفين من وهابية العصر ومن يذكّره بذلك ينعته بالتخلف، مستخدماً العقل وكأنّ العقل دابةٌ له وحدَهُ يسوقها كما يشاء.
ولعلّ أطرف اثنين في أدبنا هما ناقد يخوض سجالا رهيباً في الأدب و يقرّ ألا علاقة له بالأدب وأنه استعان بزوجته خريجة الأدب، كما جاء ذلك في مقدمة كتابه الضخم الذي هو كتابه الثاني عن رواية مترجمة بعنوان "آيات شيطانية" أثارت ضجة كبيرة، ناعتاً كل مخالفيه بعدم قراءتهم الكتاب، أما الآخر فهو ينطبق عليه بحق لفظ الأفنديّ وقد خلع عباءة البداوة ليرطن ببضع مصطلحات حديثة، ناعتاً نقده بالثقافي ومن آرائه الباهرة أن العصر الذهبيّ الوحيد هو عصر الراشدين مع أنّ ثلاثة من خلفائه الاربعة قُتلوا. وثمة رواياتٌ أخرى تقول أن الخليفة الرابع مات مسموماً أيضاً، وليت هذا الناقد البدويّ المحشو بالمصطلحات قرأ بيتك الذي تقول فيه :
همُ قتلوا حيدراً ساجداً
وحسبك من عمرٍ إذ طعنْ

سأكتفي عند هذا الحدّ، وأجلب لنا مزيداً من الشراب.
ـ أشعر وكأنّ هذه الليلة هي الليلة الأخيرة.
ـ لماذا؟
ـ لا أعرف. مجرّد هجس.
ـ أمامنا برنامجٌ حافلٌ بالزيارات للمتاحف والآثار.
ـ آمل ذلك ولاسيما أن الجوّ يبدو لطيفاً مقارنة بما رويتَ عن جوّهم في الشتاء
ـ وهل تسميها رحلة ولم تبدأ بعد؟
ـ لا.. لا.. ما قلتُه مجرد هجس أتمنى أن يكون خاطئاً.
ـ لو صحّ حدسك لافتقدتك كثيراً يا أبتِ، لكن قلْ لي لمَ هذا الحدس؟
ـ لا ادري مجرّد حدس. لعلني بحت بما أضمرتُ وما لم أضمر، لأن وجودي على الأرض جسداً لا روحاً مما لا يمكن أن يحدث في الشرائع، طبيعية أو إلهية ، لبشرٍ أو آلهة ربما. ثمة أسباب كثيرة للتوجس لا سيما أنني بدأت أعتاد الأرض، بل وحياتي الماضية التي أجوبها الآن بذاكرتي حروفاً وبشراً وعلائم . ماذا يجري لي ، أين أنا الآن؟ ما زال ثمة ضجيج يرنّ ويخفت فجأة ثمّ يعود ثانية أشدّ، وإذا استمر فقد أفقد عينيّ اللتين أرى فيهما الآن. يا لجسدي كم شهد من تحولات! ويا لروحي كم شهدت من أجساد! فأيّ روحٍ أنا؟ وأيّ جسدٍ أنا؟ وما بين روحي وجسدي مسافاتٌ أقطعها ولن تنتهي.. ومن يدري ما سيحلّ بي غداً؟ لعلني سأعود ذلك الأعمى ثانية لو بقيت على الأرض. لعلني سأكون ذلك المبصر لو حملتني الملائكة إلى السماء. ولو رأيتُ ما سأقطعه بين روحي وجسدي، ماذا سأفعل؟ أين كنتُ؟ .. أأنا قادم من الجنة الآن أم المعرّة؟ وحين سأكون في الجنة هل ستمّحي ذاكرتي حقّاً؟ مع أنه لا سراط هناك ولا حشر.
ـ يا أبتِ لتطمئن فنحن جالسان الآن، ومن غير الممكن أن تهبط الملائكة عليك وأنت معي.
ـ لا أتحدث عن هذه اللحظة ولكن أن تشعر أنك عابرٌ هو كشعورك وأنت خالدٌ تماماً. كلاهما قد يُولدان حسرة وندماً.
ـ ولكن ألا تشعر بالسعادة بعودة الذاكرة إليك؟
ـ أجل ولكنّها سعادة مشوبة بألم قاتل.. سعادة عابرة.
ـ وما يدريك لعلها تدوم.
ـ غير ممكن ليس ثمة استثناء في الجنة. قد أستعيد جُمَلاً.. أبياتاً.. وجوهاً لكن هيهات أن أستعيد ما احتفظتُ به في الارض من شعرٍ وباعثٍ على الشعر.
ـ إن ذلك في غاية الغرابة.
ـ هذه هي الحقيقة.
ـ أخشى أن أكون أجهدتك وقد تكون محتاجاً إلى شئ من الراحة بعد أن أثقلك شرابنا الخفيف هذا.
ـ بالفعل أشعر بشئ من التعب ولكن لا بأس من البقاء قليلاً قبل الذهاب إلى النوم.
ـ كان بودي ان تحدّثني عن الله والرسل وسير البعض من غير الشعراء في الجنة غير أن الوقت متأخر الآن.
ـ آمل أن يكون ذلك في الغد.
ـ آمل ذلك
ـ تصبح على خير
ـ تصبح على خير

* * *


5- صباح اليوم التالي


الغرفة التي ينام فيها أبو العلاء مازالت مغلقة.
يُطرق الباب ولا ردّ
يُطرق الباب ثانية
يُفتح الباب
لا أحد
فراغ..
وغرفة تتسع..
تتسع..
حتى تستحيل فراغاً لا نهاية له
فراغاً
لا أثر فيه
لأحد
فراغاً كأنّه الدهر الذي قال عنه المعريّ:

ولو طار جبريل بقية عمره
عن الدهر ما استطاع الخروجَ من الدهر


* * *



6- هامش بقصائد الشاعر التي قالها عن أبي العلاء



* يا ابا العلاء (من مجموعة"دقات لا يبلغها الضوء" ):


يا أبا العلاء
أيّها المبصرُ
يا أبي
لقد سرتُ في الهواء
ولم أبلغ الأرض
ولعلّني لن أبلغها أبداً
وقد يدفعني الهواءُ بعيداً
فلا أرى أرضاً
ولا سماءً
ولا ما يشيرُ إليّ
أو ما يشيرُ إليه
يا أبا العلاء
أيها المبصر
يا أبي


* شواهد المعرّي ( من مجموعة "قفا نبك"):


1- ثعالة:

لا أميرَ ولا سوقةٌ
يا ثعالة!
فاحذرْ
إنّ لي أخوةً بين تلك الثعالبْ


لا سميعَ ولا سامعٌ
يا ثعالةُ!
فانظزْ
أقبل الصائدون من كلّ جانبْ


2- ذئب:

أوه.. يا أبا العلاء
كم تشير إلى ذلك الذئب
وتقول:
"دعوه
ستهلكهُ صحبة الأغنام"


3- الديك:


صعدتْ نجمةٌ كالنعامةِ
عيناكَ برقٌ
وهذي الثيابُ الجميلةُ
سودٌ وحمرٌ
كأنّكَ هُرْمُزُ
أيّ المواقدِ شُبّتْ
وايّ المُدى قُرّبتْ
أيّها الديكُ
يا ملكَ المحصنات
ويا أوسُ
يا ابن رُباحٍ
ويا صيحتي
حين ينبعثُ الميْتُ في صيحتي


4- هديّة إلى الحطيئة:


استحلفك بالله يا أبا العلاء
أنْ تقول لرضوان أن يفتح الباب
ليحمل عنّي هذي العصا
ـ وإنْ شاء ـ هذا الكلب
إلى صاحبي الحطيئة
فقد وردتني أخبار
عن وحشته في الجنّة



5- ما رواه المعرّي عن ابن القارح:


من باب المسجد
أبصرتُ الزقّ يمرّ
قال ابن القارح
فوجأْتهُ..
لكنْ لم ينسكب الخمر
قال الزقّ:
"من باب المسجد
أبصرتُ ابن القارح
فأشرتُ له أن يتبعني"
قال ابن القارح:
"ما أجهلني
لو صحّ الأمر!"


6- صليبيّون:

"بعد أربعين عاماً من رحيل أبي العلاء
دخل الصليبيّون المعرّة واستباحوها"

"لم تنل راحةً بجوارٍ
فهل نلتها ميّتاً يا أبي؟"

حين مرّوا
وضاقتْ بأعلامهم
جنباتُ الفضاء
ترى اهتزّ قبرُكَ
وارتجفتْ في التراب عظامُكَ؟
أم أنتَ أصغيتَ
قلتَ: "القيامةُ حانتْ"
وقد شقّت الصرخاتُ السماء
وشبّتْ نُذُرِ النار في الطرقات
وسيق إليها الحجارةُ والناس
يا أبتِ!
هل رأيتَ القيامة آتية
في الحياة
فآليت إلاّ تجورَ على أحدٍ؟

7- مجمع الطير


جاءت الخلائق:
الحمامةُ بلا طوق
الجملُ بلا سنام
الأسدُ بجناحين
الغرابُ بشعرٍ أشيب
الذئبُ بفروة حملٍ
الضبعُ برأس امرأةٍ
الفهدُ بوجهٍ أنسيّ
الشجرة بصحبة أفعىً
الجبلُ بسنامين
جاءت الخلائق
واشتاقت الأرض للسماء




*على هامش لزوميات المعريّ( من مجموعة "ولائم الحداد")

غرابٌ
فهل قالت الطيرُ :
" طرْ
ياغرابْ "

*
ما رأيتُ حرصاً
إلاّ وكان سوءَ طبعْ

*
أ شامك شؤمٌ
وعِرقٌ عراقي ؟

*

كم تبخس ما تولي
وتعظّم ما يوليه الناس

*
قال أبو العلاء:
ألبسني جاري تاجاً من ذهبٍ
ـ في حُلُمٍ ـ
فضحكتْ
لكن طالعني وجهي ينظر شزرا
ويردّدغضبا :
ذهبٌ ذَهَبا
ذهبٌ ذَهَبا

*

عكّازٌ أعمى
أهدى من بصيرهم

*

مازال المنبر يبكي

*

تعالوا لنغسل هذي الأرض

*
جمرنا ابتردا
جمرنا ابتردا

*

خاتمة :

فسُدَ الأمر يا أبا العلاء
لا الصمتُ مجدٍ
ولا الكلام بمجدِ


فهرست

1ـ الليلة الأولى 5
2ـ النهار الأول 29
3ـ في المقهى 41
4ـ العودة إلى البيت 59
5ـ صباح اليوم التالي 85
6ـ هامش بقصائد الشاعر التي قالها عن أبي العلاء 87





للشاعر


مجموعات شعرية


1- الحقائب الطبعة الأولى 1975 دار العودة- بيروت
الطبعة الثانية 1976 دار الأديب- بغداد
الطبعة الثالثة 2011 دار تموز- دمشق
2- النقر على أبواب الطفولة الطبعة الأولى 1978 مطبعة شفيق- بغداد
3- الشاهدة الطبعة الأولى 1981 دار الفارابي- بيروت
4- وردة البيكاجي الطبعة الأولى 1983 دار العلم – دمشق
5- نزهة الآلام الطبعة الأولى 1991 دار صحارى- دمشق
6- سراباد الطبعة الأولى 1997 دار الكنوز الأدبية – بيروت
7- دقّات لا يبلغها الضوء الطبعة الأولى 1998 دار الكنوز الأدبية- بيروت
8- قفا نبكِ الطبعة الأولى 2002 دار الأهالي- دمشق
الطبعة الثانية 2003 دار الأهالي- دمشق
9- زهيريّات الطبعة الأولى 2005 دار الكندي-الأردن
10- ولائم الحداد الطبعة الأولى 2008 دار النهضة العربية- بيروت
11- الديوان المغربيّ الطبعة الأولى 2009 دار الحرف- المغرب
12- الفصول ليست أربعة الطبعة الأولى 2009 اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين- البصرة
13- هجاء الحجر الطبعة الأولى 2011 مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة
14- حذام الطبعة الأولى2011 دار تموز- دمشق

مختارات شعرية

15- نوافذ (مختارات شعرية) الطبعة الأولى 2009 دار المأمون الثقافية- بغداد

مجموعات قصصية ومسرحية:

16- المجانين لا يتعبون الطبعة الأولى 2004 دار الكندي- الأردن
17- حكاية جندي مسرحية عُرضت في مسرح (أولد فك) بلندن في مطلع سنة 2006

نصوص

18- جنة أبي العلاء (نص سرديّ) 2011 دار التكوين – دمشق
19- أحوال ومقامات 2011 دار فضاءات - الأردن

أدب رحلات

20- باتجاه الجنوب شمالاً 2011 دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة


دراسات

21- غبار الترجمة 2011 دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة


ترجمات شعرية عن الفرنسية


22- كلمات لجاك بريفير 1981 دار ابن رشد- بيروت
23- أناباز لسان جون بيرس 1987 دار الأهالي- دمشق
24- قصاصات ليانيس ريتسوس 1987 دار بابل- دمشق
25- عن الملائكة لر فائيل ألبرتي 2011 دار التكوين- دمشق


ترجمات عن الإنجليزية


26- نكهة الجبل 2005 دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة
27- ربة الشعر هي الكومبيوتر 2011 دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة
28- أفكار موجزة عن الخرائط 2011 دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة
29- البحث عن صورة هيجل 2011 دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة

حوار

30- الشاعر خارج النص: كتاب صدر سنة 2007 عن المطبعة السريعة في المغرب. وهو حوار طويل أجراه معه الشاعر والمترجم المغربي عبدالقادر الجموسي
31- عبدالكريم كاصد من الحقائب إلى رقعة شطرنج ، حوارات أعدّها الشاعر عبدالباقي فرج ، 2011 دار تموزللطباعة والنشر والتوزيع- دمشق

تحقيق

32- الأجنبيّ الجميل للشاعر مصطفى عبدالله 2004 دار الشؤون الثقافية العامة-بغداد

كتب في بعض مواقع الإنترنيت:

33- ديوان الأخطاء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مهجتى ضِدٌّ يحاربنى ***أنا منى كيف أحترسُ (1)
عبدالرؤوف النويهى المحامى بالنقض ( 2012 / 10 / 17 - 17:46 )
ربما ..هذه أول مرة أقرأ فيها اسم مؤلف كتاب -جنة أبى العلاء-.
وأبو العلاء هذا الشاعر الإنسانى العظيم ،ولا أكون مبالغاً إذا قلت ،أنه أعظم شاعر عربى على مر العصور ..
فأبو العلاء المعرى كان دولة الشعر يمشى على قدمين قديماً وحديثاً ،ولا أمل قرا
ءة اللزوميات ،هذا العمل الفارق فى الشعر العربى والذى لم يحدث أن طاولته قامة شعرية أخرى .
فأبو العلاء المعرى كان أديباً وفيلسوفاً وشاعراً عظيماً . لو تحدثت عن أبى العلاء المعرى لطال حديثى وتشتت بى السبل .
عندما قرأتُ كتاب-جنة أبى العلاء - وصاحبت مؤلفه فيما سعى إليه من طرح الأسئلة وماتعانيه أمة العرب من مخازٍ وسقوط وتراجع وجهل فى الألفية الثالثة وأحطت علماً بما يحتويه دون التعمق المطلوب وماذكره المؤلف الكريم من شخصيات معاصرة كتبت الشعر وعن نقاد الأدب ،وعن مترجمى الشعر الأجنبى إلى لغتنا العربية ..رأيتنى أتفق مع المؤلف فى الكثير مما يتعبه ويضنيه ويقلقه ..فالكثير من كتابات شعرائنا ،قد صارت ألغازاًومبهمات ،حتى وجدتنى محتاجاً إلى قواميس ودراسات متعمقة عن هذا الشعر ..


2 - مهجتى ضِدٌّ يحاربنى ***أنا منى كيف أحترسُ (2)
عبدالرؤوف النويهى المحامى بالنقض ( 2012 / 10 / 17 - 18:13 )
ويبدو أننى لا أمتلك ملكة الفهم لهذه الأشعار ،وكأنى أقرأ شعراً بلغات غريبة علىّ،رغم أننى من أسرة عريقة تعرف ماهية الشعر والشعراء ..
فقد كان الدكتور الراحل محمدالنويهى صاحب الدراسات المهمة والفارقة فى الحقل النقدى -ثقافة الناقد الأدبى --نفسية أبى نواس--شخصية بشار --قضية الشعر الجديد-- الشعر الجاهلى منهج فى دراسته وتقويمه --الاتجاهات الشعرية فى السودان--وظيفة الأدب بين الالتزام الفنى ولانفصام الجمالى - -نحو ثورة فى الفكر الدينى - وماوجدته بمكتبه ،بعد رحيله،من دراسات قيمة معظمها منشور فى الجرائد السودانية والجرائد المصرية ومجلة الثقافة المصرية والآداب البيروتية ..أتمنى يوماً أن أجمعها وأنشرها ..
المهم أننى وقد أخذنى الغرام بالقراءة قد ذهبت إلى جنة أبى العلاء ..وطال مكوثى معه بعض الشيىء ..وكم سعدت بالحس النقدى الفارق للمؤلف الذى حرك الساكن عندى ..فربما أعاود قراءة جنة أبى العلاء مرة ثانية ..فهذا الشاعر العبقرى ..قد أخذنى إلى عوالمه الشاسعة وبحوره التى لاضفاف لها ..


3 - مهجتى ضِدٌّ يحاربنى ***أنا منى كيف أحترسُ (3)
عبدالرؤوف النويهى المحامى بالنقض ( 2012 / 10 / 17 - 18:17 )
..وما كتبه عنه الرائد العظيم طه حسين وما حققته عائشة عدالرحمن لبعض كتبه ،وهذا السفر العظيم -تعريف القدماء بإبى العلاء-.

لكن خطر بذهنى اللحظة ماكتبه العقاد عن -رجعة أبى العلاء- وهذا الكتاب كما أذكر قد كُتب فى ثلاثينيات القرن الماضى.

وماذكره العقاد من أشعار المعرى

-عجبت لكسرى وأشياعه **وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يض***ام ويُظلم حياً ولاينتصر
وقول اليهود إله يحب*** رشاش الدماء وريح القتر
وقوم أتوا من أقاصى البلا**د لرمى الجمار ولثم الحجر
فواعجباً من مقالاتهم ***أيعمى عن الحق كل البشر ؟؟!!

كانت رجعة أبى العلاء مع العقاد الذى تخيل رهن المحبسين يجوس بيننا خلال الديار ،ويتمرس بأحوال الأمم فى عالمنا المعاصر ،فماذا هو قائل ؟وماذا هو فاعل ؟

مع العلم أن الطبعة الأولى
سنة 1939م

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي