الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة على أنغام شوستاكوفتش

هشام صالح

2012 / 10 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


(( إذا قطعوا يدي , سأؤلف الموسيقى بالقلم في فمي ))
دميتري شوستاكوفتش , من رسالة إلى اسحاق جليكمان

لا أدري إذا الكتبة الآخرون يستمعون إلى الموسيقى أثناء كتابتهم لمقالة أو كتاب ما , و لكنني أعتبر الإستماع إلى الموسيقى اثناء الكتابة أهم قانون من دستور الكتابة .
و يجب علي أن أعترف أن الموسيقى لم و لن تدخل إلى مجال أختصاصي , حيث لا يوجد كاتب يكتب عن كل شيء , ليس هناك – على حد علمي – هذا الإله المتخصص و العالم في الفن و السياسية و الفلسفة و الفيزياء و الكيمياء . هناك دائماً حدود للكتابة , أحب أن أسميها إحترام الكاتب لنفسه , يحترم تخصصه و معدل فهمه للأمور.

و لكن للأسف , للقمر جانب مظلم , و هناك العديد من الكتبة يحبون الكتابة عن كل شيء , و الحق يقال , أن هذا النوع من الكتابة رائجة في أيامنا هذه , حيث يفضل بعض كتبتنا الكتابة عن كل شيء , و حقاً هذا مرض المثقفين أو مدعيّ الثقافة و العلم , مرض يجعلهم يؤمنون أنهم يعرفون كل شيء , و بهذا يستطيعون الكتابة عن كل شيء .

و يدخل مفهوم العقل المأدلج هنا ( مرة أخرى ؟ , لا تستغربوا ! ) حيث هذا العقل يظن أنه يعرف في كل الامور . و المعرفة المطلقة دائماً تأتي من الفكرة المطلقة و العامة و السطحية و الغير منطقية , فالأديان على سبيل المثال , شاملة كاملة – خصوصاً الدين الإسلامي – على كل جوانب الحياة , فالمسلم " الملتزم " يعرف ماذا يقول بشأن الموسيقى و الشعر و الخمر , لأن الفكرة المطلقة تلزم عليه تلك المفاهيم . و يبدو أن عدوى الأديان أنتقلت إلى مثقفينا و كتبتنا , حيث لهم المعرفة الشاملة الكاملة , بغض النظر عن أي إيديولوجية نتحدث عنها .

و بهذا , شوستاكوفتش هو النموذج للمثقف الذي تعرض إلى النقد الشديد من قبل هؤلاء الذين يدعّون المعرفة الكاملة , الزمرة التي تدعيّ المعرفة في كل جوانب الحياة , و من خلال هذا الظن ( الوهمي ) تستطيع هذه الزمرة أن تنتقد أي شخص , و تسجن أي شخص , و تتهم أي شخص بالتحريفية و الردة , بسبب مرض المعرفة الشاملة .
شوستاكوفتش – قبل قدوم ستالين – كان يتلقى الدعم و المراعاة من قبل تروتسكي , و تروتسكي كان معروفاً بإهتمامه بالفن و الأدب , ولم يهتم في شوستاكوفتش فقط بل ايضاً على سبيل المثال ماياكوفسكي . و هنا تروتسكي رمز للمثقف و الكاتب الذي يحترم حدوده و تخصصه , و لهذا أبدى أهتماماً كبيراً لهؤلاء الفنانين و الأدباء مؤمناً أنهم يعرفون عملهم و يجيدونه أيضاً و ليس من حقه أن يمنعهم, و لكن حين أستولت الزمرة الجامدة فكرياً على السلطة , مارست أسلوب المعرفة الشاملة الكاملة , برفض الأدب الشكلاني برفض الموسيقى الغير بروليتارية , ناهيك عن الأتهامات التي تنزل مثل المطر و تقصف مثل الرعد .

هذه العقلية التي تعرف كل شيء , لا تسمح لمجال الإبداع للظهور , تغلق و تقفل عليه الباب بإحكام , لنتصور إذ لم يتلق هؤلاء الفنانون و الأدباء هذا الإضطهاد و هذا الضغط كيف كان سيكون الاتحاد السوفييتي , من الناحية الفنية , روسيا منبع الأدباء و الموسقيين, ماذا لو أستفاد الحزب الشيوعي السوفييتي من قدرات كتلك , ألن تكون أول دولة شيوعية مصدر إلهام لجميع الأمم و الدول الأخرى ؟ , ألن تكون أنموذجاً للدولة الاشتراكية التي تسمح بشتى أنواع الأدب و الفن ؟

و لكن هنا نواجه صراعاً , ما بين حب السلطة و حب الإنسانية , الاشتراكية بشكلها الطوباوي أو العلمي كانت دائماً تحمل جوهر الإنسانية , و الإنسانية لا تكمن فقط في الأرض و الخبز و السلام , بل أيضاً بالأدب و الفن و الجمال , البشرية بدأت بالفن , و لا يمكن أن تعيش من دون فن , و كما يقول نيتشة : (( الحياة من دون الموسيقى ستصبح غلطة )) .

أن العقول المغلقة و المقفلة لا مكان لها في زماننا هذا, حان الوقت لتلك العقول الخروج , إلى أين ؟ لا أدري , و لكن وجودها في هذه الأزمة الفكرية السوداء ( التي صعقت فكرنا ) غير نافع اطلاقاً , ما لم تتفتح هذه العقول كزهور الربيع و تقبل الرأي و الرأي الآخر لن يكون مخرجاً من هذه الأزمة , سنبقى في هذه الحفرة السوداء نلعن و نشتم بعضنا البعض و نتعارك فوق الجثث الهامدة نقنع بعضنا بأنهم لا زالوا أحياء .

مرض المعرفة الشاملة, كانت تنفع سابقاً حين كان العالم في صفنا – بالرغم أنني لا اؤيدها - حين كنا واثقين – بشكل غريب جداً – بالإنتصار الحتمي , و لكن , اليوم ؟ الآن ؟ من ينتبه إلى الصراع بين الواقعية الاشتراكية و الشكلانية ؟ ستالين و تروتسكي ؟ الماوية و الستالينية ؟ من يهتم ؟ . أهم نقطة يجب أن نركز عليها هي تنظيم الأولويات , ماركس أنجلز لينين نحتفظ بكتبهم و نحترم تاريخهم و فكرهم الذي يلهمنا , و لكن هذا لا يعني أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة , و لا يعني أن كلامهم لا يزال فعالاً في عصرنا هذا . هذا الزمن يجب أن نعيد ترتيب أنفسنا مثل الذي تأخرت طائرته , أيبكي على مقعد الدرجة الأولى الذي لم يحظى به ؟ و يذكر الجميع أن – كان يا مكان – حجز مقعد الدرجة الأولى ؟ أم يحاول أن يحصل على المال و يشتري تذكرة في الدرجة السياحية و يصل إلى وجهته ؟

أن الزمن لا يسعفنا على الذكريات و البكائيات , تلك الأيام الجميلة ولت , لن تعود إذ كنا جالسين نضرب رؤوسنا و صدورنا " يا ماركس , يا أنجلز , يا لينين " , هؤلاء مهدوا الطريق و نحن نمهد الطريق للأجيال القادمة .

في نهاية المطاف , شوستاكوفتش علم هذه الحقيقة و واصل في المشي على درب الإبداع و العبقرية فوق جبل الشتائم واللعنات , عالماً ما يجري في وطن العمال وطن الشعب من جرائم بشعة قائلاً : (( أنا أشعر بألم أبدي على ضحايا هتلر , و لكن هذا الشعور لا يقل عندما نتحدث عن جرائم ستالين . أشعر بالعذاب لمن تعذبوا , و أعدموا , و جاعوا حتى الموت )) .

الكتابة على أنغام شوستاكوفتش تعتبر أجمل كتابة ( بالنسبة لي ) , خصوصاً مؤلفاته أثناء الحرب العالمية الثانية و سقوط برلين الحماسية , بالرغم أنني لا أفهم في الموسيقى – أيّ النوتات و ما شابه ذلك – و لكن أشعر أن موسيقاه تبعدنا عن أمراض التعصب و الخوف من الأفكار الأخرى , حيث حينما أسمع موسيقاه دائماً أتذكره و ذكراه تذكرني بإضطهاد العبقري الفنان من قبل زمرة تدعي الإنسانية و التفتح و هذا ما يبعدني دائماً – بعد الكتابة على أنغام شوستاكوفتش – من التعصب و الجمود...

ملحوظة : ألا يريد أتباع هذه الزمرة الإستماع إلى شوستاكوفتش ؟ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. الشرطة تعترض مسيرة احتجاجية نظمها 6 مترشحين للري


.. الشرطة الأمريكية تعتدي على متظاهرين وصحفيين بمخيم داعم لغزة




.. كلمة عضو المكتب السياسي للحركة مشعان البراق في الحلقة النقاش


.. كلمة عضو المكتب السياسي للحركة مشعان البراق في الحلقة النقاش




.. كلمة نائب رئيس جمعية المحامين عدنان أبل في الحلقة النقاشية -