الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصمات عثمانية على الجدران السورية

بدر الدين شنن

2012 / 10 / 17
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


القذيفة التي انفجرت في القرية السورية " آكجا قلعة " التي جرى تتريكها ، بعد استلابها مع بلدات ومدن سورية أخرى وضمها إلى الجمهورية التركية عام 1923 ، رسمت حولها دوائر متعددة ، مثل حجر ألقي في مياه ساكنة ، وكشفت ما كان يموه عليه إعلامياً وسياسياً على الحدود السورية التركية ، وبخاصة مخاطر تداعيات استخدام الحدود بين البلدين من قبل المسلحين ، الذين ينفذون أجندات ، لاعلاقة لها بالاحتجاجات الداخلية السورية المشروعة إلاّ لتوسلها ذريعة للمواجهات ، ولاعلاقة لها بمفاهيم وقيم الحرية والديمقراطية إلاّ للتمويه على التدمير والدماء البريئة المسفوكة ، ولاتعبر عن أية تجليات روحية تعيش في ضمائر الناس وتصقل وتهذب أخلاقهم وعلاقاتهم وإنسانيتهم .

أولى هذه الدوائر : هي توظيف حكومة أردوغان دماء ضحايا هذه القذيفة ، لتحريض الشعب التركي ، وتعبئته ، لتنفيذ سيناريو التغيير الليبي في سوريا ، تمهيداً لتحقيق أجندة تزعم استنهاض امبرطورية عثمانية منهارة منذ قرن ..
ثاني هذه الدوائر : هي توجيه شحنة من الدعم المعنوي للمسلحين المقاتلين في الداخل السوري ، مفادها ، أن جبهة جديدة قد فتحت ضد سوريا ، سوف تخفف عنهم الكثير من ضغط القوات المسلحة السورية ..
ثالث هذه الدوائر : هي استخدام المسلحين في الداخل السوري مثل هذه الانفجارات ، لمنح تركيا مبررات ممارسة دور عسكري مباشر ، لدعم المشروع الذي يقومون بتنفيذه ..

على أهمية هذه الدوائر الثلاث ، هناك الدائرة الأكبر والأهم : وهي فتح ملف التاريخ الاستعماري العثماني البشع في سوريا " بلاد الشام " و إثارة مسألة الأراضي السورية ، التي استولت عليها تركيا ، في نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية زمن الامبراطورية العثمانية ، التي تضم فيما تضم من مدن وقرى ، تضم كلز وعينتاب وأورفة وماردين ، ومن ثم الأراضي التي منحتها فرنسا لتركيا عام 1939 ، لتضمن حيادها في الحرب العالمية الثانية ، والتي تضم فيما تضم من مدن وبلدات وقرى تضم مدن أضنة واسكندرون وأزمير وانطاكيا ، وبذلك تبلغ مساحة الأراضي السورية المسلوبة على امتداد ألف كيلو متر من أضنة وانطاكيا غرباً إلى ماردين شرقاً أكبر من مساحة سوريا الحالية . ما يعني أن إثارة مسألة الأراضي السورية المسلوبة من محرق " آكجا قلعة " تفتح ملفاً مفتوحاً على احتمالات صراعات وحروب لاتنتهي .. ولايمكن السيطرة عليها ، ومعرفة نتائجها على الإقليم كله وعلى السلم العالمي .

ولذلك ، فإن الأسلوب العنفي المتوتر ، الذي تعامل به رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ، مع حدث " آكجا قلعة " يتسم بغباء مركب . فهو عدا عن أنه يثير ويستفز السوريين في سوريا ويستفز حلفاءهم على المستويين الإقليمي والدولي ، فإنه يستفز السوريين الذين جرى تتريكهم رغماً عنهم ، واحتجزوا بالقوة مع مدنهم وأراضيهم داخل الحدود التركية . وليس من المستبعد ، إذا استمر التصعيد التركي السياسي والعسكري ، أن يتأتى عن ذلك حراكاً شعبياً ، سوف يذهب إلى ما هو أبعد من الاحتجاجات في الأراضي السورية المسلوبة ، وبشكل لن يستطيع أردوغان ومعه حلف الناتو من السيطرة عليه . بل ويحاول أردوغان ، أن يخطو من " آكجا قلعة " خطوة كبيرة ، نحو مدينة حلب المنكوبة بالمسلحين المتطرفين والمأجورين القادمين من لدنه عبر الحدود المشتركة ، باتجاه مشروع بعث الامبراطورية العثمانية المقبورة . وذلك عبر إثارة العصبيات المذهبية المفوتة في البلدان العربية ، التي كانت تشكل جزءاً أساسياً من الكيان العثماني ، لتوفير امتداد حيوي ديني سياسي ، يمكنه من وضع مشروعه الامبراطوري المزعوم قيد التطبيق .

ولأن مشروع بعث الامبراطورية العثمانية يأتي في وقت ينهار فيه نظام الامبراطوريات ، لحساب إعادة التوازن الدولي والشرعية الدولية وفق معايير لاتخضع للدول العظمى وقرصنتها الامبريالية ، فإنه يلفت إلى أن أردوغان يعيش خارج التاريخ ، أو أنه يلعب دوراً مريباً يتسم بالتخبط والارتباك وضبابية الأفق في الشرق الأوسط . وهذا ما يثير الكثير من الأسئلة ، حول حقيقة عزمه على بعث الامبراطورية العثمانية ، الذي يتنا قض مع طروحاته السياسية في بدايات تسلمه السلطة ، ومع واقعه التركي والإقليمي المعاصر والمعاش . ولعل أهم هذه الأسئلة هي :

هل حقاً ، أن مشروع أردوغان هو إعادة الحياة إلى الامبراطورية العثمانية وإعادة استعباد الشعوب ، التي مزقت بنضالاتها من أجل الحرية والاستقلال هذه الامبراطورية ، في شرق أوربا ، وشمال أفريقيا ، وبلاد الشام ، والتي أجهز عليها الشعب التركي التواق إلى الانعتاق من الاستبداد والفساد والتخلف ، من أجل اللحاق بركب الحضارة الإنسانية والتقدم إلى مصاف الشعوب المتطورة ؟ .

هل نسي أردوغان التخلف الذي كان يكتنف الامبراطورية العثمانية ، والاستبداد والفساد الذي كان يمارسه السلطان العثماني بأدواته القمعية ، وانكشاريته ، وباشاواته ، وبكواته ، وأفندييه ، وجواسيسه ، وولاته ، وكيف كان استقرار الامبراطورية يقتضي تعميم الإعدامات على المشانق والخوازيق في ساحات المدن العامة ، ويقتضي استخدام الإبادات الجماعية بحق الشعوب المتطلعة إلى الحرية والكرامة التي طالت الملايين من العرب والكرد والأرمن ، ويقتضي أيضاً تجنيد ملايين الرجال في الامبراطورية للموت في حروب السلاطين وفتوحاتهم ، حيث كانت كلمة " سفر برلك " مرعبة أكثر من الطاعون ، لأنها تعني الموت لحساب خزائن السلطان ، وحيث كانت الأمراض الوبائية مثل الكوليرا " الوباء الأصفر " والسل والملاريا ، التي كان حضورها القاتل يتزامن ويتوازى مع الحروب والقحط واستفحال القمع . وبماذا تفسر حرب أردوغان الحالية ، ضد الشعب الكردي في شرقي تركيا .. ألاتعني استمرار مفاعيل العثمنة في القرون الماضية في الوقت الحاضر ؟ .

وهل نسي أهم وأصدق ما كتب عن امبراطوريته العتيدة ، التي يبشر بعودتها ، هو كتاب " طبائع الاستبداد " الذي ألفه المناضل الحلبي العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبي ، الذي شرح وفضح فيه استبداد ورذائل وظلم هذه الامبراطورية ، وأصبح هذا الكتاب صنو الكتب المقدسة عند الشعوب العربية عامة وعند سكان بلاد الشام بخاصة ؟ .

وهل نسي ، أن العرب الذين يبشرهم بعودة هيمنة الامبراطورية العثمانية عليهم ، كانوا هم من أشعلوا ثورة كبرى ضدها ، امتدت من الحجاز إلى بلاد الشام . وكانت هذه الثورة رغم نواقصها وعيوبها ، هي التي حطمت أقوى الأذرع العسكرية الضاربة خارج حدود الامبراطرية ؟ .

وهل نسي أن من يتحالف معهم الآن من الدول الغربية لنشر امبراطوريته على الساحة العربية بالقوة التدميرية المتوحشة ، هم ألد أعداء الامبراطورية العثمانية الراحلة و" القادمة " الذين قاتلوها حتى دمروها وتقاسموا ولاياتها ، وهم ألد أعداء الشعوب العربية ، لاسيما في بلاد الشام ، وهم الذين أقاموا دولة " إسرائيل على ولاية القدس " فلسطين " لاستدامة التدخل الاستعماري في شؤون هذه الشعوب وسرقة ثرواتها والتحكم بمصائرها ، وهذا التحالف عدا عن أنه غير مشرف ، فهو ينزع عن المشارك فيه صفة المنقذ والصديق للبلدان العربية ؟ .

وهل نسي أن الوضع الدولي الغربي الراهن ، الذي يرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي ، ويحتكر معظم ثروات ومصادر قوة العالم ، لم ولن يسمح لدولة مثل تركيا ، أن تشكل مركز ثقل دولي امبراطوري منافس . ولعله يكره أن يتذكر ، كيف جرى تفكيك الامبراطورية العثمانية في أواخر عهدها ، وكيف جرى اقتسامها مثل عجل مذبوح ؟ .

بالتأكيد لم ينس أردوغان كل تلك العهود الظالمة والممارسات العثمانية الظلامية ، إزاء الشعوب الي قهرها جبرت الامبراطورية العسكري الدموي ، ولم ينس كل تلك المجريات والوقائع التي مرت في تاريخ الامبراطورية ، لكنه مثل كل حامل للعقل الامبراطوري المتسلط ، يعتبر إرهاب الشعوب ، جموعاً وفرادا ، بسطوة القهر والإبادة الجماعية والقمع ، أمر لاغنى عنه لإخضاعها والتمكن من استلاب حريتها وكرامتها وهويتها وثقافتها ومواردها الأساسية . إنه يمارس سياسة الاستغباء للشعوب التي يتوجه إليها بعودة الامبراطورية العثمانية بطبعة العثمانيين الجدد " حزب العدالة والتنمية " التي لاتقل شراسة وبطشاً ودموية عن بطش ودموية العثمانيين الأول " السلاطين " بدءاً من معركة " مرج دابق " بالقرب من مدينة حلب عام 1916 ، حتى هروب قائد آخر خط دفاع عسكري للامبراطرية العثمانية في بلاد الشام " كمال باشا " الذي أصبح فيما بعد " كمال أتاتورك " من شباك مطبخ خلفي لفندق بارون بحلب عام 1918 ، يؤكد ذلك ما يقوم به المسلحون ، الذين يجندهم ، أو يحتضنهم ، ويؤويهم ، ويدربهم ، ويسلحهم ، ويدفع بهم اردوغان ، للحرب في سوريا بالطريقة التدميرية " العثمانية " التي شهدتها مختلف المدن السورية وخاصة مدينة حلب . وإذا نسي أردوغان ماضي الامبراطورية العثمانية ومظالمها ، فإن شعوب البلدان العربية والسوريين خاصة لم ولن ينسوا معاناتهم ومذلاتهم ومجاعاتهم في الزمن العثماني المنقرض ، ولن يقبلوا بعودة أزمان السلاطين والباشوات الجدد ، والمشانق ، والخوازيق ، والسفر برلك ، إلى بلادهم وحياتهم مرة أخرى .

بيد أن مجمل ما ذكرناه من أسئلة ، وغيرها من الأسئلة الأخرى ، التي يستدعيها السياق العام ، عند مقاربة " حلم " أردوغان الامبراطوري ، تكشف ، من جهة " التناقضات الصارخة في ممارسات أردوغان ، وتنفي من جهة ثانية ، المصداقية والعقلانية في مشروعه الامبراطوري المزعوم . فهو يعرف ضمناً ، أن ما هو متاح له فعلاً ، ليس أكثر من دور وكيل تنفيذي في مخططات أورو - أميركية إقليمية ، بعدما فقدت إسرائيل قدرتها " الأسطورية " في خدمة الغرب الاستعماري ، في مرحلة هي الأصعب في الصراعات الدولية حول تقاسم النفوذ والمصالح في الشرق الوسط . وكل ما بيده ، هو أن يحاول تضخيم هذا الدور ، ليقنع ذاته وحزبه بصحة سياساته وطموحاته ومغامراته ، ولينال من " الحركة الإسلامية الدولية " مبايعتها له أميراً للمؤمنين ، وليحصل على ثمن هذا الدور، موقعاً مميزاً في الإقليم .

وإذا كانت كل الدلائل تؤكد على استحالة عودة زمن الامبراطورية ، وأن توجه العالم هو نحو موازين دولية جديدة سوف تخلق عالماً غير الذي يحلم به أردوغان ، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو ، من هو رجب طيب أردوغان ، وما هو الدو الحقيقي الذي يلعبه في المشهد التركي ، وفي المشهد الإقليمي ، في ظروف مصيرية كارثية تطاول بلدان عربية عدة ، وخاصة سوريا ، عبر أجندات باتت مكشوفة إمبريالية - إسرائيلية .. خاصة وأن له ما له من علاقات وتحالفات مع حلف الناتو ومع إ سرائيل ، ومع بلدان الخليج الموبوءة بالعائلات الحاكمة والقواعد العسكرية الأجنبية ، والتخلف السياسي ؟
إن أية إجابة على هذا السؤال ، لابد أن تبدأ بقراءة البصمات العثمانية على جدران المدن المدمرة ، في المشهد السوري عامة ، وعلى جدران الجامع الأموي بحلب خاصة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نجل الزعيم جمال عبد الناصر: بشكر الشعب المصري الحريص على الا


.. مقابلة مع وليد جنبلاط الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي




.. فى ذكرى وفاته.. منزل عبد الناصر بأسيوط شاهد على زيارة الضباط


.. فى ذكرى رحيله.. هنا أصول الزعيم جمال عبد الناصر قرية بنى مر




.. شرطة نيويورك تعتدي على متظاهرين داعمين لفلسطين وتعتقل عددا م