الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحوير الفعل: حول الانتخابات المحلية

فراس جابر

2012 / 10 / 18
القضية الفلسطينية


المأزق الذي يواجه المشروع الوطني يتزايد في الآونة الأخيرة في ظل فشل رسمي وفصائلي عالي في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، ووضع إستراتيجيات مناسبة تدفع نحو التحرر، وإعادة بناء منظمة التحرير كمرجعية وطنية شاملة على أسس ديمقراطية. بات بروز توجهات ومقاربات تدفع نحو التركيز على القضايا الجانبية أو حتى "إلهاء" الناس عن القضايا الأساسية عبر إشغالهم بحياتهم اليومية، ورأينا كم دفعت الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار قطاعات اجتماعية ونقابية إلى التظاهر بالشارع، رغم أن توجيه الشعار نحو اتفاقية باريس ومن ورائها أوسلو أظهر بشكل جلي حجم العمق وراء ظاهرة الاحتجاجات وإدراك مكامن الخطر الحقيقية التي تواجه المجتمع الفلسطيني.
جاءت الانتخابات المحلية بعد تأجيل قارب العامين، وبعد الفوز بقضية ضد الحكومة من قبل الأحزاب وكتل انتخابية على اعتبار أن الانتخابات المحلية مكسب وحق واستحقاق محلي، ولكنها جاءت تماماً بعد فشل التوجه الثاني للأمم المتحدة، والاحتجاجات الشعبية التي سادت معظم مدن الضفة الغربية، وكذلك مقاطعة حركة حماس التي تستحوذ الآن على القطاع دون إزعاج، كما أن حجم الاهتمام الشعبي بها أقل بكثير من أي انتخابات سابقة، وربما جزئياً ينبع من إدراك حجم الورطة التي وقعنا فيها، والتي لن تساهم انتخابات محلية في حل ولو جزء منها، رغم أهمية إجراء تجديد في الهيئات التي تقدم خدمات مباشرة للمواطنين في مناطق سكناهم حتى لو كان هروباً للأمام على حد تعبير أحد الأصدقاء.
النقاش مع عدد كبير من الأصدقاء والمهتمين، والتأكيد على ضرورة مناقشة الهموم الأساسية لقضيتنا، إلا أن هناك ظواهر محلية تستحق الملاحقة والتحليل نظراً لما تعطيه من مؤشرات خطيرة حول جملة تحولات سلبية نواجهها حالياً ومستقبلاً.
أولها تراجع قدرة الأحزاب السياسية على تشكيل القوائم، إلى درجة وجود ما يزيد على 200 هيئة محلية لن تجري فيها الانتخابات بسبب فوز قائمة واحدة بالتزكية نتاج عدم وجود تنافس سياسي، أو وبشكل أدق قدرة العائلات والعشائر على وضع الأحزاب تحت الضغط للقبول بمطالبهم بعدم إجراء الانتخابات والتوافق حول المرشحين، إلى درجة أن عدد من العائلات رفعت كتباً للرئاسة لتأجيل انتخابات بلدية الخليل لأن النظام الانتخابي غير مناسب للتركيبة العائلية هناك!!
إذاً التحول يبدو وبشكل بارز على قدرة العائلات على محاورة الأحزاب وإخضاعهم في عدد من المواقع، وليس تبعية معظم العائلات للأحزاب كما جرى بالسابق، وهذا ينذر بمزيد من التحول في بنية الطبقة السياسية بالمستقبل ضمن هذا التوجه لتستوعب مزيداً من البعد العشائري.
ثانيها خطورة بعض أقطاب رأس المال المحلي على الانتخابات المحلية، حيث نجد وممكن لأول مرة مقارنة بالانتخابات المحلية السابقة قوائم بأكملها تحسب على فئة "رجال الأعمال"، وأن كان لا بد من تعريف لهم فيجب توضيح ماذا يعني تحقيق المكاسب الشخصية والذاتية في ظل اقتصاد تابع للاحتلال، وفي معظم الأحوال نتيجة الاستيراد وبيع خدمات غير مفيدة للفلسطينيين!!.
هذا التحوير من الفعل السياسي المباشر والاجتماعي إلى ما هو غير ذلك، من خلال قدرة العمل السياسي والاجتماعي على إنتاج رموز شخصية ومجتمعية قادرة على قيادة المجتمع المحلي وصولاً إلى مرحلة قدرة رأس المال على تجنيد قوائم بأكملها أو حتى النزول بشكل مباشر بصفة واحدة "رأسمال" بما يشبه إزاحة مقصودة لمساحة النضال الوطني إلى زوايا أضيق، وحصرها في نخب تقود السلطة والأحزاب بعيداً عن هموم الشارع، وتولي رأس المال ومناصريه السيطرة على المساحات المجتمعية والبنى المحلية.
يصبح حينها قيادة بلدية مدينة كبيرة لمن يملك، ومن يملك سيدير نواصي الأمور في إنتاج مشابه لنظام الحكم السائد في مصر، حيث دور رجال الأعمال هناك عمل هدماً وتدميراً في البلد ومقدراتها إلى غاية اللحظة.
ثالثها بعض الكتل عزفت عن التعريف "المالي" لدورها ولجأت لتعريف تقني، أي القدرة والمهارة على إدارة جزئية معينة، وهذا أعتقد أنه نابع من ثقافة الخبراء والتكنوقراط التي سادت لدينا، بمعنى أن كفاءة القائمة ومرشحيها قائمة على قدرتهم مثلاً على التخطيط المديني، أو الإدارة المالية أو التخطيط الإستراتيجي، دون وجود عمق ورؤية مجتمعية وسياسية لدور البلديات كبنى مجتمعية تساهم في صمود المجتمع وتطويره. وهذا لا يعزل أن وراء هذا التعريف يقف التمويل ورأس المال معاً، حيث أنه يشبه القول أنه قد قمنا بالاحتكاك مع عدد كبير من الخبراء الأجانب وعملنا في شركات كبيرة، ولدينا القدرة الآن على إدارة بلدية وفق نفس المصطلحات التقنية أي تحويل الناس من مواطنين إلى "منتفعين".
تحوير الفعل السياسي ينشأ ليس فقط من الهروب للأمام – برغم أهمية العملية-، بل أيضاً من نشوء سلسلة رموز وقوى جديدة تحاول احتلال حيز العمل المجتمعي عبر إنشاء منظمات غير حكومية تابعة لها مباشرة، والآن السيطرة على بعض البلديات بما يمكنها من إنتاج فضاء المدينة الفلسطينية وتحويله إلى فضاء مهيمن عليه على أسس غربية أو تحاول التشبه به، وضرب القيم المحلية الأصلية ووضعها على الرف، وذلك طبعاً بقدرات "التكنوقراط" وجهابذة المال، وورائهم شركات كبيرة لا تكل لتحقيق الربح الآن، والذي قد يتأتي من الاستثمار الضخم الذي يودع في الدعاية والإنفاق على الانتخابات المحلية.
حتى أن الشكل الاحتفالي والمهرجاني الذي طغى على الدعاية الانتخابية يعيد الفعل السياسي المحلي إلى دائرة "البهرجة" والزينة بدل نقاش مشاكل المجتمع المحلي، رغم أن بعض القوائم بالغت في شعاراتها الوطنية إلى درجة المشاركة في تحرير الأسرى، وهذا يعيدنا لنقطة أساسية وهي هل الفعل السياسي الفلسطيني في هذه اللحظة مشتبك مع الواقع وصولاً إلى رفعه لدرجة التثوير والبناء المقاوم، أم أن ما يجري هو إعادة توزيع للمواقع السياسية، وإعادة احتلال وهيمنة من قبل قوى قمعت سابقاً خلال غليان الحركة الوطنية لتعود وتسيطر على المشهد.
كما أن وجود عدد من المرشحين الذي عملوا لفترات طويلة في التطبيع بمختلف أشكاله، وكذلك أسسوا لشركات تسعى لتوطيد قوة الوكالة الأمريكية للتنمية وفرض شروطها المهينة يفتح أمام سؤال أخر مقلق، هل أصبحت مشاريع توطين الهزيمة وإنتاج اليأس، والنزوع للرضا الذاتي على حساب العام والوطني هي المحرك والمسير؟
مدينة رام الله تشهد ظاهرة ملفتة للنظر، حيث تقوم قائمة بالتعامل مع الانتخابات كأنها رئاسية، وتحديداً حجم الإنفاق المالي الهائل، يمكنكم رؤية (بوسترات، يافطات ضخمة، أعلام سيارات، أعلام عادية)، كذلك سيارات مخصصة تتجول في الأحياء تحمل دعاية للقائمة، مواعيد بث مدفوعة في الإذاعات، وربما التلفزيونات المحلية، إعلانات في الجرائد والمواقع الالكترونية، شركات دعاية وتصميم تعمل على تصميم وتعميم الدعاية، إضافة إلى مكتب للقائمة، وعدد كبير من أرقام الهواتف وفواتير الاتصالات، وطاقم عامل في الحملة..... والسؤال هنا ينبض بالقلق كيف ستعود هذه الأموال إلى جيوب منفقيها، لأن فكرة رأس المال ببساطة تحقيق الربح، فكيف يمكن تحقيق ربح من خلال تحقيق عدد من المقاعد في مجلس محلي. وهل يمكن الطلب من لجنة الانتخابات التحقق من مصادر تمويل الحملات، وحجم المبالغ المنفقة، والتي لا أعتقد أننا يمكن أنت نتحمل إنفاق 5% مما هو جاري حالياً.
بالختام، تبدو بوادر عملية مقلقة لإزاحة أولويات المجتمع، وتحوير لخطابه وفعله الوطني إلى مربعات أضيق تسيطر عليها الذاتية والسعي نحو تحقيق المكاسب عبر عقد التحالفات والصفقات، كمبادئ أساسية ترتفع قيمتها السوقية الآن، وحتى يتحقق هذا يجب تحوير مصادر الشرعية من سياسي نضالي وحتى مجتمعي إلى "خبراتي" وتقني وامتلاك لرأسمال يساهم في حشد وتوظيف عمليات تغليف سياسية لأشخاص وقوائم، بما يمكنها لاحقاً من إعادة تعريف المدينة كحيز يقع تحت الاحتلال ويحمل قيم وطنية أصيلة، إلى ما يشبه شوارع معارض المجوهرات والنثريات، حيث يستطيع المواطن بعد تحويله إلى "منتفع" أو "زبون" من التجوال داخل هذا الفضاء الحداثي اللطيف، ولكنه بالتأكيد لن يستطيع الشراء، ولهذا تتكثف عمليات "الجذب" عبر شكل مهرجاني واحتفالي، وليس كممارسة سياسية محلية قد يدفع المشارك فيها ثمنها وطنياً من قبل الاحتلال. الاستناد على سنوات من خطاب الحكومة "المبقرط" والتقني وأهمية القطاع الخاص واستثماراته إلى درجة قيامه بالاتكاء على هذا الخطاب وتشكيل خطاب موازي محلي يستند على قوة رأس المال وإحداث "زبائنية" متطورة تشتغل على وعي المواطنين هدماً.

* باحث مؤسس في مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المخطط الجهنمي
فرج الله عبد الحق ( 2012 / 10 / 18 - 12:57 )
ما كتبته يا استاذ صحيح جداً وأضيف عليه بأن العزوف من قبل بعض القوى السياسية الحية سببه المعرفة بأن السلطة تجري الانتخابات لتكتسب صبغة شرعية لوحودها، وما جرى في شوارع الضفة في الايام الاخيرة ما هو إلا بروفا لما سيحصل لاحقاً و التأخير سببه عدم وجود قيادة حقيقية لهذا الحراك. الشارع تحرك بدافع ذاتيوعندما تتشكل هذه القيادة فلا عشائر ولا رأس مال يستطيع الوقوف في وجه السيل، المهم أن لا تتكرر تجربة تونس و مصر يعني أن لا يمتتطي الحراك أزلام إسرائيل بأي لباس كان. شكراً

اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي