الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واشنطن وحقوق الإنسان: لا عزاء للدالاي لاما و-الثورة الصفراء-

صبحي حديدي

2005 / 3 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


هل أطلق أسامة بن لادن ثورة ديمقراطية في الشرق الأوسط؟
ليس في هذا السؤال دعابة من أيّ نوع، وليس صاحب السؤال من النوع الذي يميل إلى خفّة الدمّ حين يتناول قيمة كونية مثل «الديمقراطية»، وشخصية ــ كونية بدورها، للإنصاف ــ مثل بن لادن. ففي مقال بعنوان «ديمقراطية الشرق الأوسط: شكراً بن لادن»، نشره في صحيفتَي «لوس أنجليس تايمز" الأمريكية والـ «غارديان» البريطانية، يساجل تيموثي غارتون آش على هذا النحو: لنفترض أنّ «القاعدة» لم تدمّر البرجَين التوأمين في نيويورك، فهل كان الشرق الأوسط سيبدو في حال الاهتياج التي هو عليها اليوم؟
ويتابع أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أوكسفورد: هل كنّا سنشهد اللبنانيين يتظاهرون من أجل الإستقلال في الساحة التي أطلقوا عليها اسم «ساحة التحرير»؟ هل كنّا سنشهد بداية جدّية لدولة فلسطينية؟ وانتخابات في العراق (أيّاً كان مقدار الخلل فيها، كما يقول غارتون آش)؟ وتباشير ضئيلة عن إصلاح ديمقراطي في مصر والسعودية؟ وهل كانت دمقرطة شرق أوسط أوسع نطاقاً ستصبح شاغل السياسة الأمريكية والأوروبية؟
غارتون آش يحاذر، بالطبع، في الاتكاء كثيراً على روحية هذه الـ «لو» الإفتراضية الفضفاضة، لكنه يذكّرنا بأنّ بين قوانين التاريخ القليلة التي ما تزال سارية المفعول هو ذاك القانون الذي يقرّ بدور العواقب غير المقصودة، حين تسفر أفعال البشر عن اثار مناقضة تماماً لمقاصدهم الأصلية. ويضيف: «نعرف جيداً كيف كانت تبدو سياسة جورج بوش الخارجية قبل 11/9: المزيد من بناء القوّة العسكرية الأمريكية، ولكن مع تحاشي الإرباكات الكلنتونية الخارجية؛ والتركيز علي علاقات القوى العظمى، خصوصاً التنافس مع الصين. كان ثمة القليل فقط من الحديث عن الديمقراطية. وكانت إشاعة الديمقراطية جعجعة كلنتونية، ما خلا أوساط بعض المحافظين الجدد الذين لم يكن الرئيس يعيرهم أذنيه آنذاك»...
طبعاً لسنا بحاجة للتذكير، نحن وليس غارتون آش، بالوضع المقابل على الصفّ الموازي، حيث كانت الدكتاتوريات وأنظمة الإستبداد العربية (وهكذا، إجمالاً، تظلّ حالها اليوم أيضاً) زبونة معلنة عند واشنطن، أو عميلة مستترة في الباحة الخلفية من تابعيات البيت الأبيض، أو في خانة «الدولة المارقة» المسيّجة جيداً داخل قفص الحصار أو العقوبات الإقتصادية. وأمّا الشعوب العربية فإنّ مواقف البيت الأبيض من حقوقها السياسية والإنسانية والدستورية لم تكن تخرج عن النفاق وليس «الجعجعة الكنتونية» وحدها، والتستّر على الطاغية أو التوطؤ معه، فضلاً بالطبع عن شدّ أزره والوقوف خلفه بقوّة في المثال الإسرائيلي حصراً.
وللإنصاف، ولكي لا يبدو سجال الرجل ناقصاً أو كسيحاً، نضيف على الفور أنّ غارتون آش يوضح دون أيّ لبس أنّ افتراضاته هذه لا تعني البتة أنّ الحرب علي العراق كانت صائبة، بل هو يدعو إلى مقاومة «السردية الإحتفالية» التي تشيع اليوم في واشنطن لأنها «خاطئة» وتؤدّي إلى «نتائج معكوسة». وكيف للمرء أن لا يستعيد، هنا بالذات، تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خطبة باولا دوبريانسكي، مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية، التي تحدّثت عن «ثورة زهرية» في جورجيا، و«ثورة برتقالية» في أوكرانيا، و«ثورة أرجوانية» في العراق، وقريباً «ثورة الأرزة» في لبنان!
ونعترف، مثل غارتون آش في الواقع، أننا لا ندرك تماماً المقصود باللون الأرجواني في نموذج العراق، إلا إذا كان نقيض النظير العنيف (نسبة إلى لون الدم ربما!) للثورات السلمية الزهرية والبرتقالية والأرزية. ومع ذلك فإنّ خروج «السياسة الديمقراطية» لهذه الإدارة من قلب مفاعيل 11/9 وأنقاض البرجين التوأمين في نيويورك، أمر لا يبدو شديد التعارض مع واقع الحال. ولعلّنا هنا ننأى موقتاً عن مجريات الأمور اليوم في بيروت ودمشق والرياض والقاهرة، فنتوقف عند ركن آخر في خطاب دوبريانسكي، ينهض على الوعيد هذه المرّة، ويخصّ انتهاك أو عدم احترام حقوق الإنسان هنا وهناك في العالم.
وفي مناسبة نشر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، أو في 691 دولة على وجه التحديد، كان مدهشاً أن تخلط دوبريانسكي الحابل بالنابل فتنتقد مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية. كان مدهشاً أكثر أن يلوّح مايكل كوزاك، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات إقتصادية على بعض الدول، بينها السعودية و... الصين!
بالطبع ليس هنا مقام تذكير الولايات المتحدة بأنها، وهي الدولة ذات النظام الديمقراطي العريق، لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس حول احترام حقوق الإنسان. لقد ردّ كوزاك على أسئلة تناولت سجن غوانتانامو وسجن «أبو غريب»، وصمّ أذنيه تماماً عن أسئلة أخرى تدور حول «تصدير» الإدارة عدداً من المعتقلين إلى دكتاتوريات شرق ـ أوسطية تتولّى التحقيق معهم بوسائل قذرة لا يبيحها الدستور الأمريكي. غير أنّ موضوع الصين تحديداً يظلّ الكاشف الأعظم لمعظم ما يكتنف الخطاب الأمريكي من نفاق حول مسائل حقوق الإنسان.
ففي مطلع العام 2000 باتت الصين «الأمّة الأكثر تفضيلاً» في ميادين التجارة والتبادل»، بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول. وكان «الفوز بالثلاثة»، أو هكذا تقتضي الترجمة الأكثر تواضعاً لتعبير Win-Win-Win، هو الحصيلة التي اختارها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون لوصف جملة البروتوكولات التجارية التي جرى توقيعها مع الصين الشعبية أثناء زيارة الرئيس الصيني جيانغ زيمن للولايات المتحدة. بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة. ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولايات المتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها على حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال، ومثل تنّين آسيوي أسطوري يسأل: هل من مزيد؟
ومع ذلك، أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، اعتبر كلينتون ــ ليس دون حشرجة طفيفة، بالطبع ــ أنّ الصين هي «الأمّة التي تقف في الجانب الخاطىء من التاريخ»، وكان يقف على يسار نظيره الصيني في مؤتمرهما الصحفي المشترك! ولكن... مَنْ الذي يؤرقه التناقض، حتى إذا كان صريحاً صارخاً، بين الوقوف خارج التاريخ في ميادين حقوق الإنسان والحرّيات والليبرالية، والصعود على كتف التاريخ في مسائل العقود والتجارة والاستثمار؟ لا أحد كما يبدو، باستثناء حفنة مئات من المنشقين وأبناء التيبت والدالاي لاما، وباستثناء الرهط المحدود المعتاد من جوقة التطبيل والتزمير في «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«لوس أنجلس تايمز»، حيث تتواصل معزوفات الحرب الباردة والعداء المقدّس للشيوعية، كأننا بالفعل في الحقبة الخاطئة من التاريخ وليس الجانب الخاطىء منه فحسب.
وهكذا اكتفى الرئيس الأمريكي باستخدام العبارة ـ المسمار التي تضع الصين في الجانب الخاطىء من التاريخ بالمعنى السياسي والحقوقي الأمريكي، وانتقل فوراً وبحماس رسولي إلى العبارات الأهمّ التي تضع الصين في الجوانب الأدسم من التجارة والأعمال والأشغال. ولم يكن ينفرد في ذلك، والحقّ يُقال. بعض فرسان «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» صرخوا في وجه فيليب موراي كونديت، المدير التنفيذي لشركة «بوينغ» آنذاك: وماذا عن حقوق الإنسان؟ فردّ الرجل، دونما حاجة إلى تبطين عبارته بنبرة ساخرة: يا لمحاسن الصدف! لقد كنت في بكين حين عرضت أقنية التلفزة الأمريكية المشاهد الوحشية لاعتداء الشرطة الأمريكية على المواطن الأمريكي (الأسود) رودني كنغ!
للفرسان أنفسهم قال الرئيس الصيني: «ولكن لماذا لا تعودون إلى تاريخ بلدكم أيها السادة؟ ما فعلناه في إقليم التيبت لم يكن سوى عملية تحرير للعبيد من نظام قنانة ينتمي إلى القرون الوسطى. أليس هذا بالضبط ما فعله رئيسكم أبراهام لنكولن»؟ ليس تماماً بالطبع، ولكن المقارنة لا تخلو من منطق براغماتي بارع يتوسّل المماثلة والمطابقة. وهو أيضاً المنطق الذي استخدمه جيانغ زيمن في اختزال مجازر ساحة «تيان آن نمين» إلى «حادث شغب» توجّب قمعه بقوة القانون، لا لشيء إلا لكي تتواصل الإصلاحات السياسية في أجواء الاستقرار الضرورية، ولكي تسير خيارات اقتصاد السوق مثل سكين حادّة النصل في قالب زبدة. وبمعنى ما، لم يكن غامضاً وإن كان حاذق الصياغة، قال الرئيس الصيني: هل تريدون قطف ثمار هذه الإصلاحات؟ عليكم إذاً أن تتناسوا الدماء التي روت شجرة الإصلاحات لكي تعطي الثمار.
براغماتية أمريكية تقابلها براغماتية صينية. الحال ذاتها بدت ناظم العلاقات الأمريكية ـ الصينية حين وقعت حادثة احتجاز طائرة التجسس الأمريكية في الصين، مطلع عهد بوش. لقد بدا واضحاً أنّ الأعمال والتجارة والمال، وليس العقائد والتظريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، هي التي تحكم وتتحكّم، وإليها احتكم الطرفان في نهاية المطاف. وبدا أكثر وضوحاً أنّ قواعد العلاقات مع القوى العظمى ليست كثيرة معقدة شائكة، بل هي في حال الصين لا تتجاوز ثلاثة مبادىء.
هنالك أولاً توطيد الأمن الكوني حيث بلوغ عالم آمن مزدهر سيكون أسهل بكثير حين تكون الصين جزءاً من السيرورة، لا تلعب وفق قواعد السلوك الدولي فحسب، بل تساعد في كتابة تلك القواعد وتطبيقها أيضاً. وهنالك، ثانياً وتوسيعاً للمبدأ الأول، الضمانة الصينية لاستقرار أوضاع آسيا حيثما لا تشعر النفس الأمريكية الكونية بالطمأنينة الكافية. والولايات المتحدة تفكّر في دول مثل كوريا الشمالية، وفي أخرى مثل إيران والباكستان، وفي فئة ثالثة مثل سورية. والأمن الكوني هنا يترجم محتواه إلى حظر تصدير التكنولوجيا النووية، سلمية كانت أم عسكرية، وضمان «عدم وقوعها في الأيدي الخاطئة». ثم وقف صفقات بيع الأسلحة الصاروخية، وأيضاً التخفيف ما أمكن من الدعم الأدبي والدبلوماسي الذي تمحضه الصين بين حين وآخر إلى هذه الدول. والولايات المتحدة تفكر في طرائق «عقلنة» صوت الفيتو الذي تملكه الصين الشعبية في مجلس الأمن الدولي، بحيث يكون هذا الصوت جزءاً من جوقة الإنشاد الأمريكي ـ الغربي بدل الروسي ـ الآسيوي.
بيت القصيد هو المبدأ الثالث: توطيد العلاقات التجارية، وتصفية العوائق الجمركية، وفتح بوّابات الصين الشعبية أمام السلعة الأمريكية... دون قيد أو شرط. وضمن حيثيات هذا المبدأ وقّعت الصين عقداً لشراء 50 طائرة بوينغ، وستوقّع عقوداً أخرى لشراء مفاعلات نووية، وبروتوكولات مختلفة ترفع المزيد من قيود التجارة بين البلدين وتهبط برقم العجز في الميزانية التجارية (44 مليار دولار) إلى معدلات دراماتيكية غير مسبوقة.
هل ينتظر المرء من دوبريانسكي أن تتحدّث، ذات يوم منظور، عن «ثورة صفراء» في إقليم التيبت مثلاً، عند الدالاي لاما؟ أم أنّ «الثورة الديمقراطية» التي دشّنها أسامة بن لادن دون أن يشاء، لكي نتابع فرضية تيموثي غارتون آش، جاءت برداً وسلاماً على إدارة أمريكية بلا فلسفة ولا عقيدة ولا سياسة خارجية، لا لشيء إلا لأنّ رئيسها لم يميّز بين الملاّ عمر والجنرال مشرّف، لأنه ببساطة لم يكن يعرف الفارق بين الطالبان والباكستان؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن