الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط الفرعوني وتدمير عقول المصريين

مهدي بندق

2012 / 10 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


لا مراء في أن التغير و الصيرورة هما أساس الكون . وآية ذلك أن ما يبدو ثابتاً في الطبيعة ليس إلا نتاجاً لتحول سابق، وهو في الآن نفسه رهن تحول قادم . فالشمس التي نراها تشرق علينا اليوم، ليست هي إطلاقاً شمس الأمس . لقد فقدت شمس اليوم جزءاً من كتلتها جراء ما حدث فيها من اندماج نووي، تحولت به كمية من ذرات الأيدروجين إلي ذرات هليوم، وانطلق الفارق في الوزن بين النوعين ،على هيئة طاقة حرارية وإشعاعات، ومع استمرار عملية الاندماج النووي هذه فإن 4000 مليون سنه قادمة ستكون كفيلة بنقل الشمس من نجم مشع إلي جرم مظلم أو ثقب أسود يبتلع كواكبه السيارة،كما نبتلع نحن لحم الدجاج المشوي.
وحين قال الفيلسوف الإغريقي هرقليطس " أنت تنزل النهر ولا تنزله" فلقد كان يعبر عن حقيقة جوهر الوجود في تغيره الدائم. فالموضع الذي أحسبه ثابتاً في النهر، هو في الواقع ماء متدفق، وعليه فأنا في نهر جديد كل لحظة . وحتى " الأنا" الذي أراه وأري به الأشياء، ليس إلا نقطة مفترضة متقاطعة علي خطوط طولية و عرضية متحركة، بعضها يمثل غرائز الجسد ورغباته, وبعضها يكشف عن أوامر ونواهي المجتمع المحيط…
ولقد يوجد بالفعل شئ شبيه بالأنا (لكنه ليس أنا) دون أن يكون معروفاً لديّ، مثل الجنين الذي كنت، والكيان الجسدي الذي يبتعد عني حين أنام. ومع ذلك فكل إنسان يشعر بأنه هو هو، تؤكد له ذلك ذكرياته وبصمات أصابعه . بيد أنه يقف مبهوتاً أمام اللغز الأعظم : الموت. فالموت هو غياب دائم، لا عودة منه، وكل تصور للذات بعد أن تغيب إنما هو محض افتراض، وحتى ما يطمئن به المؤمن نفسه من اعتقاد بوجود عالم آخر، إن هو إلا إنتاج لفكر الحضور . وعلي العكس فإن الغياب لا فكر له ولا هوية ، وكل محاولة لسبر غوره لابد ينفيه باعتباره غياباً. وهكذا تعود الذات إلي المربع رقم صفر,حيث يخلي " اليقين" الملعب لبديله الاحتياطي : الشك، ذلك اللاعب القادر وحده علي إحراز الهدف تلو الهدف، لا في مرمي الخصم، بل في مرماه هو.
فما الذي يفعله الشك بالضبط؟ إنه يهدم ليبني،ثم يعود ليهدم ما بناه. إنه يشكك الطفل في طفولته، وما يلبث حتى يهدم هذه الطفولة، منتقلا بها إلي الصبا و الشباب، بعدها يمحو الشباب بالنضج والكهولة، فإذا اكتملا حذفهما منتقلا بالكائن إلي الشيخوخة، فالعجز، منهياً هذا العجز بالموت . وكما قيل : إذا تم شئ بدا نقصه توقع زوالاً إذا قيل تم
فكيف إذن يتحدث البعض عن جوهر ثابت للذات, علي حين أن هذه الذات لا يمكن تعريفها إلا بالسلب؟ فالطفل لا يعرف الأنا إلا حين يدرك أنه ليس أمه . الأنا إذن انفصال واستلاب. انفصال عن الطبيعة، وانفصال عن المصدر والمنبع( الأم) ثم هو انفصال عن العشيرة والقبيلة، وأخيراً هو استقلال نسبي عن الدولة حين تباشر الدولة مهامها التنظيمية للمجتمع.
والحاصل أنه كلما كثرت وتعددت مهام الدولة التنظيمية، كلما ضاقت المساحة التي يتنفس فيها الفرد حريته، ويؤكد فيها ذاته، ويمارس بها نشاطه العقلي ّ . ويظهر هذا بوضوح في بلدان ما يسمي بالنمط الآسيوي للإنتاج Asiatic mode of production وأساسه وجود دولة مركزية قوية . بدونها لا تنجح عمليات ضبط النهر وسكان ضفتيه، ولا تبني منشآت الري الزراعي، ولا تتوقف المنازعات بين الزراع حول مياه الري و الصرف.
والحقيقة أن تاريخ البشرية برغم أنه يشكل وحدة لا تخطئها العين الفاحصة إلا أن أنماطه تنوعت وتعددت. والمعروف أن النمط Mode يتحدد بعدة عناصر.. الموقف من الملكية (عامة– خاصة– مختلطة- تعاونية) وثانياً بوضع السوق، وثالثاً بنوعية تقسيم العمل، ورابعاً بعوائد الإنتاج (نقدي – عيني- حصة من المحصول) وأخيراً بتحديد صاحب الهيمنة. فإذا طبقنا هذه العناصر علي النظام الإنتاجي الذي كان سائداً في مصر الفرعونية لرأينا كيف وضعت الدولة (= الفرعون) يدها علي وسيلة الإنتاج الرئيسية (الأرض الزراعية) دون أن تجعل الفلاحين أقنانا Helots ، بل تركتهم أحراراً بالمعني القانوني، بينما كانوا فعلياً تحت هيمنة حكام المقاطعات. نعم يحصلون علي جزء من المحصول ليعيشوا عليه, إضافة إلي صناعاتهم المنزلية الخاصة، ولكن ما كانوا يحصلون عليه كان يكفي بالكاد للعيش وتجديد النسل، أما فائض إنتاجهم فللخزينة العامة . وصحيح أنه كان من حقهم مغادرة الأرض دون مانع من القانون، ولكن إلي أين يذهبون من الناحية الواقعية؟ للعمل في مناجم الدولة، مقابل أجور زهيدة (غالباً لا تدفع) وليشاركوا أسري الحروب معيشتهم البائسة في المناجم ومراكز التعدين, وليموتوا في النهاية من المرض وسوء التغذية؟! ربما كان البقاء في الأرض واحتمال عسف الجباة، وعصي موظفي مخازن الملك أرحم!
و... ما أشبه اليوم بالبارحة ، حيث تشن أقلام السلطة ( كهنة العصر الحديث ) الهجوم تلو الهجوم على أصحاب ما تسمى " المطالب الفئوية " بقصد تقزيمهم وإعادتهم إلى وضعية أشباه الأقنان في العصر الفرعوني بعيدا ً عن ثقافة التغيير التي تفتح فضاءات التفكير في قضايا الوجود مثل غاية الحياة ولغز الموت ...الخ وطالما بقي الشعب منكبا ً على تلبية الحد الأدنى من المعيشة ( المطالب الفئوية ) ُترك المجال العقلي ّ فارغا ً ، ويا ليت أسيادنا ورثة الفراعين كانوا ممن ينشغل بمثل هذا التفكير ، مثلما كان سادة الإغريق يفعلون ، بل إن أسيادنا محض تجار همهم الأكبر الربح ومضاعفة الثروات المادية . وهكذا يظل النمط الفرعوني قائما على تدمير عقول الأسياد والأتباع معا ً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تحاول فرض إصلاح انتخابي على أرخبيل تابع لها وتتهم الصي


.. الظلام يزيد من صعوبة عمليات البحث عن الرئيس الإيراني بجانب س




.. الجيش السوداني يعلن عن عمليات نوعية ضد قوات الدعم السريع في


.. من سيتولى سلطات الرئيس الإيراني في حال شغور المنصب؟




.. فرق الإنقاذ تواصل البحث عن مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئ