الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربيع العربي يلد صنما

محمد عبعوب

2012 / 10 / 22
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


باغتتنا مثل غالبية العالم انتفاضات الربيع العربي التي اشتعلت شرارتها الاولي في سيدي بوزيد بتونس وانطلقت تجتاح عروش الجمهوريات الملكية، اليمن ثم مصر ثم ليبيا فسوريا، ولازال الحبل على الجرار.. تفألنا بهذه الانتفاضات وصفقنا لها بحرارة وشاركنا فيها بقدر ما أتيح لنا كل في مجاله.. وكان تفكيرنا منصب على آفاق نجاح هذه الانتفاضات في اجتثاث تلك الديناصورات المهترئة التي أعمت ابصارنا وحجبت عنا الرؤيا وأعاقتنا عن التفكير بعقل سليم يستشرف المستقبل ويضع الرؤية الواقعية والممكنة التي ستنتجها هذه الانتفاضات التي خرجت من ركام متهالك لا يصلح لنمو اي كائن ولو طحلبي، فكان مولودها البكر صنم اسمه القبيلة التي تأبى الاندثار من وعينا رغم وجودنا في عالم تجاوز هذه الحالة منذ اكثر من خمسة قرون .

ازهر هذا الربيع في اربعة بلدان، ولكن بورود مشوهة، هي نتاج طبيعي لتربة ملوثة بكل أمراض العصر وتلك الموغلة في القدم.. فكك التونسيون وبإمكاناتهم الذاتية المتواضعة النظام العسكري الذي حكمهم لأكثر من عقدين، واستفادوا من بقايا مؤسسات دولة ومجتمع مدني -كان الراحل بورقيبة قد اسسها- في إعادة تفعيل مؤسسات الدولة وفرض سلطة القانون ولو بشكل جزئي في مدن الساحل التي كان لها نصيب الاسد في التنمية خلال حكم بورقيبة وبن على. وفي مناطق الجنوب والوسط الغربي الذي يتواجد دائما على أطراف مشاريع التنمية والذي انطلقت منه شرارة الثورة، لم يزهر هذا الربيع بل انتج اوضاعا مأساوية زادت من تدهور الاوضوع فيه، وبدات تظهر من جديد في تونس ظاهرة الإنكفاء الى الماضي والاحتماء بالقبيلة والجهة التي كادت تنتهي في هذا البلد الذي شهد فترة انفتاح وتنوير تتجاوز هذه الانتماءات.

في اليمن الذي بدأت الانتفاضة فيه في وقت مبكر، كان الربيع كاذبا منذ البدية، فبيئة اليمن بيئة قبيلة بامتياز، المرجعية في كل اركانه قبلية، نظام على عبدالله صالح عمل طيلة فترة حكمه على تجذير هذه المشاعر واستغلها لضمان بقائه في السلطة، ولم يفلح الشيوعيون الذين حكموا شطره الجنوبي لعقدين في زعزعة قبضة القبيلة، فرجعت هذه الأخيرة وبقوة لتحكم وتدير حياة اليمنيين بقوة . وكان ربيع اليمن ربيعا لحروب قبلية لا زال اليمنيون يدفعون حتى الساعة ثمنها من دمائهم وارواحهم ومواردهم الشحيحة.

في مصر كان الربيع بمستوى تربة دلتا النيل التي انهكها الاستنزاف والإدارة السيئة، فما نراه عبر الميديا والمؤسسات الثقافية في هذا البلد حسب تقديري لا يزيد عن كونه قشور لماعة تخفي داخلها واقعا سيئا يعيشه المجتمع المصري، ذلك الواقع المؤلم انتجه الافقار والاستنزاف الممنهج لهذا الشعب والبلد الذي مارسه تحالف الاستبداد وقوى الراسمالية العالمية على مصر منذ سقوط دولة محمد علي وحتى اليوم.. فكان ربيع مصر ربيعا بزهور ذابلة، فتربتها لا زالت تحتفظ بسموم القبيلة المتدثرة بعباءة سياسية ودينية، ولا زالت مصر في وعي الغالبية العظمى من عامة الناس غنيمة لكل حسب قوته وجهده، و لا يفكر هؤلاء في كيفية تنمية هذه "الغنيمة" وتطويرها لتكون مصدر رزق دائم لهم يكفيهم شرور العوز والغربة. وهكذا كانت زهور ربيع مصر مشوهة بأهواء وأطماع قوى متناحرة تأتي مصر في الرتيب الرابع او الخامس من تفكيرهم المرتهن لمصالح وشعارات لاتراعي مصالح مصر وشعبها.

في ليبيا رغم فائض الموارد الذي يكفي لسد احتياجات شعبها صغير العدد، ورغم بيئتها التي مقارنة بغيرها من دول الربيع العربي لا تحتوي على بواعث للفتنة، نجدها بعد أن استأصلت استبداد القذافي وبمساعدة دولية لها حساباتها، نجدها تنحدر وبسرعة صاروخية نحو الماضي، وتبعث في كل أرجائها روح القبلية النتنة، وينكفيء شعبها الى ظلام القبيلة، وبدل أن يندمج ويتحد لإعادة بناء الدولة التي حرمت منها ليبيا على مدى اربعة عقود من حكم القذافي، نجده ينقسم الى قبائل متقوقعة على نفسها تعمل ضد نواميس الحياة معتقدة انها يمكن ان تقيم دولة على مقاسها كقبيلة موتورة بأوهام القوة وغير مدركة لمنافع وإيجابيات التعدد الثقافي والقبلي..
تحول حلفاء الامس الى أعداء، وبسرعة مذهلة نسي هذا الشعب بلد اسمه ليبيا، واصبحت القبيلة هي المرجع الأول والوحيد لكل ليبي، وتخندق الليبيون ضد بعضهم وراء قبائلهم يستعيدون مآسي التاريخ وينفخون في نيران خلافات عفى عنها الزمن ويتغنون ببطولات وهمية تجاوزها الزمن واضعين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في مهب الريح .. وهكذا كان ربيع الانتفاضة في ليبيا هو الآخر كاذبا ، لازهور ولا خضرة فيه، بل ربيع للدماء والقتل والنهب الممنهج لموارد البلاد، رغم محاولات التجميل والتلميع التي نحاول إضفاءها على هذا الواقع المؤلم..

وهكذا وبعد هذا الحمل الموجع والقاسي لانتفاضات الربيع العربي المفاجئة للجميع يولد صنما اسمه القبيلة او الجهة وإن يكن في بعض البدان قد غلف باسماء مدنية ، ويبدو ان هذا الخلل سيطول ويتطلب إصلاحه معالجة نفسية طويلة الأمد يخضع خلالها المواطن الى عملية تشريح نفسي تستأصل كل الامراض النفسية التي ألحقتها به حقب الاستبداد والقهر التي عاشها وتلك التي ورثها عن أجداده ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مختصر ومفيد ولا يحتاج الى نحليل
فهد لعنزي ـ السعودية ( 2012 / 10 / 23 - 06:19 )
هل امة لا زالت تحكم بمن في القبور ولا زالت تتقاتل لمن اصبحوا اثرا بعد عين جديرة بالحرية؟؟. اذا لا زال المسلمون وفي طليعتهم العرب يتقاتلون على من هو اولى بالخلافة علي ام ابو بكر او يتغنون بافعال ارهابية قام صحابة فاسقون كـ خال ابن الوليد ام اعمال مخلة بالشرف كـ المغيرة ابن شعبة وغيرهم الكثير جديرة بحكم نفسها؟؟. كلا ياخي. الناس هم الناس انما الفرق بان زين العبابدين بن علي والقذافي وحسني مبارك ينطقون باسم الشيطان الكافر والغنوشي ومرسي ومن شاكلهم ينطقون باسم الشيطان المسلم والا يا اخي القوم ابناء القوم ولا تغرنكهذه البهارج. هل اطلعت على رسالة مرسي لشمعون بيريس وما حوته من خنوع ولو كان كاتبها حسني مبارك لقامت القيامة من الاخوان المسلمون لان شيطانه الكافر من املى عليه ولكن كاتبها مرسي فان شيطانه المسلم هو من املاها عليه وهذا من فقه الواقع حسب الشريعة الاسلامية وهو يعني االرضوخ للحكم الواقع وهي عين السياسة التي انتهجها الحكام المخلوعون ولكن ليس باسم الله.
سلام على العقول المغيبة.


2 - شكر
محمد عبعوب ( 2012 / 10 / 23 - 12:24 )
شكرا سيد فهد على المرور والتعليق الثري.. اضيف بان ما نحتاجه نحن اليوم هو ثورة تهز وعينا الذي يغرق في سبات أزلي منذ قرون مضت ، نحن في حاجة لتصحح مفاهيمنا للوطن والحرية والديمقراطية وللانسانية وللحضارة.. وهذه رسالة كل مفكر ومثقف وكاتب يؤمن بأن التغيير نحو الافضل حق مستحق لهذه الشعوب ، وان ميدانه الأول هو العقل لا ساحات القتال وسفك الدماء، ووسيلته الجدل والحوار البناء، لا السلاح البارود..
حفظكم الله سيدي من محرقة العنف، وأمدكم بالصبر على مكاره واقعكم والهمكم طريق الصواب لتصحيح هذا الواقع بأقل التكاليف وايسرها..

اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح


.. بالركل والسحل.. الشرطة تلاحق متظاهرين مع فلسطين في ألمانيا




.. بنعبد الله يدعو لمواجهة الازدواجية والانفصام في المجتمع المغ