الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقهى بوحي

عبد الفتاح المطلبي

2012 / 10 / 23
الادب والفن


(مقهى (بُوحي
قصة قصيرة
يُهيمن مقهى (بوحي) على كتفِ السوقِ الأيسر بعد ثلاثةِ دكاكينَ للداخل إلى السوقِ من جهة الشمالِ ، مرتادو مقهى بوحي خليطٌ من عابري السبيلِ من وإلى القرى المنتشرةِ حول المدينةِ والكسبةِ الصغارِ ومن يرغبْ بشربِ قدحِ شايٍ حارّ من البقالينَ والعطارينَ المجاورينَ للمقهى،وكذلك الذين لازالوا يحتفضونَ بتفضيلهمْ لشربتِ الرمانِ على أي نوعٍ آخرَ من العصائر وحين افتتح داغرُ الموسى مقهاهُ في الناحية الثانيةِ من السوقِ اختار مكانـَها مواجهاً لمقر الشرطة والحكومة ،مطلةً على نهرِ (المشرح) الذي ظللت ضفافـَه أشجارُ السدرِ العملاقة التي استتربها المارّةُ ورواد المقهى عن عيونِ مركزِالشرطةِ ،ويُقالُ وليس ذلك أكيدا إن المقهى تعود للحكومة وما داغر الموسى إلا وكيلاً لها وعينا على الموظفين والمعلمين والغرباء الذين يرتادونها ،مقهى داغر الموسى تشعرك بالهيبةِ التي تستشعرها في دوائر الحكومة ذلك ربما لارتياد بعض الشرطة المكانَ في أحايينَ كثيرة ،كل شيء فيه قد أختير بعناية المقاعد المغلفة بنايلون سميك بلون الشاي والغرامفون ذو البوق الذي يشبه الوردة وجهاز الراديو( الفيلبس) و(شربت) النومي الذي يلمع من وراء زجاجة كبيرة بصنبور ذهبي اللون وأقداح مذهبة من الزجاج السميك ، أدى ذلك إلى الإطاحةِ تماما بمجدِ مقهى( بوحي) القديم وسمعة (شربت) الرمان الذي تميز بصنعه ، (بوحي) الآن لا يبيع إلا زجاجة واحده من الزجاجات الثلاث ذوات الصنابير التي اسودت من أثر عصير الرمان ، بوحي الآن يشعر بالهوان والخيبة لقلة حيلته ورغم إقدامه على شراء مسجلة صوت ببكرات شريط مغناطيسي من نوع (كروندك) ورغم أغاني (حضيري أبو عزيز و وحيدة خليل ومسعود العمارتلي) التي يسمعها آخر دكان في السوق إلا أن رزقه بدأ يقل كثيرا عن ذي قبل وبدأ القلق يساوره من تلك الأخبار التي ترده عن مقهى داغر الموسى ويتعجب (بوحي) من الخلل الحاصل في أذواق الناس وكيف أنهم حسب بعض الأقاويل بدأوا يفضلون سماع اسطوانات مقام النوى والرست والسيكاه والعجم ، وعندما أقفل أبواب المقهى شعر بوحي بمرارة كبيرة ، حدّثَ نفسه أيضا متسائلا عما أصاب الناس الذين لايفرقون بين شربت رمان (بوحي) وشربت نومي داغر ،لاحظت أم عباس إن زوجها (بوحي) لا ينام ، يتقلب كثيرا في فراشه ، سألته ذات ليل بهيم:-(أبو عباس) ..لم يلتفت لها وكأنه قد نسي كنيته صاحت بصوت أعلى :(بوحي) مابك ؟ رد عليها باقتضاب ( الشربت، شربت الرمان ما يمشي هذي الأيام) ، (كـَسَرَنا نومي داغر) ، الناس تحب الجديد ، ردت عليه : (بوحي) نام، الرزق على الله والصباح رباح ، النوم يجافي عيني (بوحي)، الأقكار في رأسه كاللبن في السقاء تختض بداخله ولا مخض ، في الصباح قال لها وهو يتناول بيضة مسلوقة: التلفزيون( دخل للعمارة) والناس لا يعرفون بعد التلفزيون، آه لو أستطيع جلب تلفزيون للناحية وعندما سرى الخبر بين الناس وإن (بوحي) مزمع جلب تلفزيون ، تحرك شيءٌ ما في داخل النفوس وبدا الأمر بالنسبة لهم كظلّ أمل ربما يحرك ركود العيش والسأم الذي يستشعرونه وفي الليل عندما قرر (بوحي) نهائياً أن يشتري التلفزيون زاره الحاج حسين وأبو زهره وجرى الحديث عن ذلك ، تسائل (بوحي) قائلا، مالذي يمنع داغر الموسى من جلب تلفزيون رد عليه الحاج حسين: أنا أعلم السبب فقد سمعته يقول لن أجلب التلفزيون للناحية إذا علـّمْنا الناس على التلفزيون وشاع استعماله في البيوت فماذا يبقى في المقهى سيصنعون (شربت) النومي والشاي ويشاهدون التلفزيون ولا أحد سيأتي للمقاهي لالا وألف لا لن أجلب تلفزيون يفتح عيون الناس ، هل يصح أن نحارب رزقنا بأيدينا ،قال (بوحي) أهذا رأي داغر الموسى ،تمتمَ الحاج حسين، هذا رأي مأمور المركز أيضاً كما أسرّ لي به داغر الموسى قال (بوحي) بصوت خفيض: والله سأبكر غدا إلى (العمارة) وسآتي به وسيرى داغر الموسى.......!!!
التلفزيون: كان يوما مشهودا ذلك اليوم الذي أُنزلَ فيه التلفزيون من فوق حدبة سيارة حيدرالشوفرليت الزرقاء الجديدة ذات الموديل 1957 ، تمكن (ثويني) الحمّال من احتضان الصندوق الكبير وضمه بقوة إلى صدره العريض حدث ذلك عصر الأربعاء، أسرع (بوحي) بإقفال أبواب المقهى وأعلن أن أبواب المقهى لن تفتح حتى الغد، لم تمض إلا نصف ساعة حتى تسلل( بوحي) إلى مقهاه مصطحبا (زاهر) الكهربائي لإعداد اللمسات الأخيرة على التلفزيون ليكون جاهزا للكرام رواد مقهى (بوحي) من سواد الشعب التائق لكسر رتابة يومه بحدث جسيم كهذا الحدث، وحين رفع (زاهر) الهوائي الطويل والذي يشبه سمكة كبيرة أُكِلَ لحمُها عن آخره ولم يبق منها غير عظامها مشرعةً للهواء، كانت الحشود تشهد الحدث وتتحلق حول المقهى حلقات ، حلقات فهناك عباس ابن (بوحي) وجمع من أقرانه في المدرسة ، تراه وقد شمخ بأنفه عاليا وهو يرى لمجدِ مقهى أبيه يكاد يخطف ألباب الناس وجمع من الشيوخ يناقشون (بوحي) حول الحدود التي يجب أن توضع للمرئيات على تلفزيونه حفاظا على أخلاق الناس، تفرق الناس كل إلى بيته بعد إعلان (بوحي) أن الإفتتاح غدا و إنه سيوزع شربت الرمان مجانا لوجه الله بهذه المناسبة وسألهم الدعاء لحفظ التلفزيون وصاحبه ، الكل يعرف أن موعد الإفتتاح عصرا لأجل جودة استلام البث الآتي من خارج الحدود ربما من الكويت أو الأهواز نهارا وحسب تصريحات الكهربائي زاهر لايصلنا بث العاصمة بغداد إلا حين يدلهم الليل ، طال الليل على الناس وسهروا يتكلمون عن الحدث الجسيم وقيلت في هذا الشأن روايات كثيرة ....
الإفتتاح:وضع (بوحي) مقاعدَ إضافية خارج المقهى وكان التلفزيون يتألق بغطائه الذي حرص (بوحي) أن يكون من قماش الساتان الأخضر وكأنه (مقامُ) ولي من الأولياء ، احتشد الناس مبكرين ليتسنى لهم حجز مكان ملائم تكون الرؤية فيه واضحة ، (بوحي) يذرع المقهى جيئة وذهابا ، القلق بادٍ عليه ، لم يأمر بعد بتوزيع أقداح شربت الرمان، بدأ الناس يضرسون بينما أكلهم انتظار (زاهر) الكهربائي المخول الوحيد بلمس التلفزيون وبعد مرسالين أو ثلاثة أقبل( زاهر) بقامته القصيرة يتمايل ذات اليمين وذات الشمال وكأن على رأسه ريشة وكلما مر باتجاه التلفزيون ينشق الحشد له كانشقاق البحر لموسى وقومه وحال وصوله للتلفزيون وإزالة غطائه الأخضربتبجيلٍ واضح ارتفع صوت المهللين بالصلاة على النبي وآله ، يشق عنان السماء ، في تلك الأثناء، أدرك داغر الموسى أن لا جدوى من البقاء في مقهاه إذ أن الناس جميعا يمموا شطر مقهى (بوحي) ، أقفل داغر أبواب مقهاه وتسلل بين الناس ليشاهد ما يجري ، صاح (بوحي) قبل أن يضغط زاهر على زر تشغيل التلفزيون نوع (تسلا ) صلوا على النبي فهدر الصوت ثانية في اللحظة التي ضغط زاهر فيها على الزر لم يظهر أي شيء على الشاشة فصفن الناسُ وكأن على رؤوسهم الطير، كشر زاهر للجماهير مبتسما قائلاً: لابد من إحماء الجهاز، تنفس الناس الصُعداء بعد زوال لحظة الخيبة، هذه الخيبة الصغيرة ترددت في صدور الجماهير المنتظرة بوجل، انكسرت لهجة بوحي وخاطب الجمع بلغة تخلو من شمم كان يكلله قبل قليل قائلا: لابد من أن يسخن الجهاز وقد جعل منهم شركاءً له في الحدث أنى كانت نتائجه فتسلل شيء من سرورٍ لصدور الحاضرين مستشعرينَ أهميتهم جراء هذه الشراكة ولو بخيبة إلا إن سرورا سريا مختلفاً أحس به داغر الموسى وفي أواخر لحظات سرور داغر الموسى القصيرة بدأت الشاشة تضيء شيئا فشيئا حتى اكتملت فهلل الجميع لهذه الروعة ولهذا السحر ، ، عيونهم ملتصقة على شاشة التلفزيون ينتظرون ظهور ما جاءوا لمشاهدته ، كانت النقط السود والبيض التي تتقافز كبق كثيف في يوم صيفي من أيام (الهور) على زجاج الشاشة أسكر الجماهير لأول وهلة ولما طال انتظارهم لسحنة المذيع التلفزيوني راحت الخيبة من جديد تتسلل إلى الجمهور المحتشد منذ أربع ساعات ، إنسل داغر الموسى إلى بيته وهو يضحك في سره متشفيا ، راح بعض الناس يوهم نفسه أن شيئا يلوح كخيال بعيد من بين صخب النقط السود والبيض ، صاح أحدهم ، هاهوهاهو لقد ظهر لكنه بعد لحظه صفق كفيه بقوه صائحا : لاااااااااا لقد اختفى التفت إلى صاحبه قائلا أرأيته ، نظر إليه لصيقه وهولا يدري بم يجيب ، في هذه الأثناء كان زاهر الكهربائي يتبختر كالأسد بين يدي (بوحي) بطل التغيير الذي انتظرته الجماهير طويلا، فطـَنَ الناسُ إلى أن التغيير الذي فجّرَهُ (بوحي) في حياتهم لم يسفر إلا عن نقط سود وبيض تتقافز على الشاشة مخلفة احمرارا وحرقة في عيون الناس ، بدأ الملل يتسرب للعقلاء وكبار السن فراحوا ينسحبون إلى الخلف تاركين أماكنهم التشريفية للصغار الذين بدأو يستمتعون بتخيل بطلة فلم حسن ونعيمه ويحلفون بأيمان غليظة أنهم رأو المذيع ورأو حسن ونعيمه وأشياء أخرى من بين صخب النقط السود والبيض التي تنتشر على الشاشة مثل بقٍّ كثيف ، ولم ينتبه بوحي إلا والمقهى على وشك أن يفرغ من زبائنه رغم إن توزيع شربت الرمان كان في يوم الإفتتاح مجانا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال


.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا




.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو