الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
المنتدى الاجتماعي العالمي، ماذا الآن؟
جيكو ووتكر – البرازيل
2012 / 10 / 26ملف حول المنتدى الاجتماعي العالمي، ودور الحركات الاجتماعية والتقدمية في العالم العربي.
مر أحد عشر عاما تقريبا على انعقاد أول منتدى اجتماعي عالمي بمدينة بورتو أليغري بالبرازيل، خلال شهر يناير 2001. وقد اعتُبرت هذه المبادرة السياسية كبارقة أمل جديدة وقوية في أفق مسدود، الأمر الذي دفع مدير صحيفة لوموند ديبلوماتيك ، إينياس رامونيه، ليقول في افتتاحية جريدته لشهر يناير: "القرن الجديد يبدأ في بورتو أليغري".
ومنذ ذلك الحين، اندرج المنتدى الاجتماعي العالمي، كل سنة وفي وقت لاحق كل سنتين، في أجندة العديد من المنظمات التي تناضل في العالم من أجل مجتمع تسود فيه المساواة والعدل والسلام. ونتج عن ذلك ظهور العديد من المنتديات الاجتماعية الإقليمية أو القارية أو الوطنية أو المحلية، وحولته الروابط التي خلقها إلى مسار متواصل. ومع ذلك، فإن بعض المنظمات لم تعد تشارك في جميع المنتديات الاجتماعية المنظمة على المستوى العالمي، بل إن البعض الآخر توقف عن المشاركة نهائيا. ولهذا السبب كان يتم دائما خلال السنوات الخمس الماضية تنظيم ندوة أو ندوتين حول مستقبل هذا المنتدى.
ولذلك، فالسؤال المقترح كعنوان لهذه المقالة يتناسب مع محتواها : المنتدى الاجتماعي العالمي، ماذا الآن؟ فأنا أرى أن استمراره أمر أساسي، مع تكييفه مع الأوضاع الجديدة، من خلال مسار نصنعه بأنفسها، دون تشويهه أو إضفاء طابع البيروقراطية عليه. وإذا تحقق ذلك، سيكون هذا "المسار" بالكاد قد بدأ...
ظهور المنتدى الاجتماعي العالمي
ومن أجل تبرير هذا الموقف، لا بد من التذكير باللحظة التاريخية التي ظهر فيها المنتدى الاجتماعي العالمي. فقد عاش العالم عام 1989 حدثا شكل منعطفا تاريخيا كبيرا ، تمثل في سقوط "جدار برلين"، وهو ما شكل رمزا لانتصار النظام الرأسمالي على النظام "الاشتراكي الحقيقي" الذي اعتمده الاتحاد السوفياتي. لقد بدأ النظام الرأسمالي الذي تغلب على الحواجز التي تحول دون توسعه والتي خلقتها حتى ذلك الحين القوة العسكرية والسياسية المعادية التي انهزمت، في فرض منطقه على العالم بأسره، وهو منطق "السوق" باعتباره الآلية الوحيدة لتسيير الاقتصاد. وهذا ما كانت تردده رئيسة الوزراء البريطانية خلال عقد الثمانينات، مارغاريت تاتشر، من خلال عبارة "ليس هناك بديل". وتحت اسم الليبرالية الجديدة، تمكنت الرأسمالية من التحكم في مرحلة جديدة من الاندماج بين شعوب الأرض، وذلك من خلال قوة تضاهي قوة موجات التسونامي، ألا وهي "العولمة".
إلا أن منطق السوق بدأ في خلق مشاكل جديدة، حيث إنه منطق يحركه هاجس البحث اللامتناهي عن المال والربح والنزعة الاستهلاكية اللامحدودة والمرتبطة بوجود "الفائض" دائما، فضلا عن المنافسة. وتتمثل هذه المشاكل الجديدة مثلا في التركز المتزايد للثروة في البلدان الفقيرة كذلك في البلدان الغنية. بعد ذلك بقليل، برزت احتجاجات أولئك الذين كانوا قد تغلبوا على حالة الاضطراب الناجم عن سقوط "الجدار"، أولئك الذين ما زال يراودهم حلم المساواة والعدالة. ثم بدأوا في مقاومة عمل الآليات الرئيسية التي يعتمد عليها النظام الرأسمالي، أي منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما بدأوا في مناهضة قمم الدول القوية التي أرادت أن تحكم العالم، من خلال مجموعة السبعة التي أصبحت مجموعة الثمانية بعد انضمام العدو السابق، روسيا. ومع ذلك، ففي وقت تضاعفت وتنامت فيه مختلف أشكال التعبئة، زاد القمع لإسكات أولئك الذين لم يرضوا عن هذا الوضع.
وبعد ذلك، برز الاقتراح المتعلق بالمنتدى الاجتماعي العالمي، باعتباره حدثا هاما في العالم يهدف إلى إظهار وجود بدائل لمنطق السوق الرأسمالي. فخلال هذا الحدث، أصبحت الحركات الاجتماعية تقدم هذه البدائل وتناقشها، في إطار "عولمة التضامن"، كبديل للعولمة الرأسمالية. وانتقلت هذه الحركات من مرحلة الاحتجاج لتدخل مرحلة تقديم المقترحات، قائلة بأن "عالما آخر ممكن"، وهي العبارة التي استخدمت لإطلاق التعبئة نحو تنظيم منتدى بورتو أليغري.
ومن طبيعة الحال، فقد تضمن هذا الاقتراح عملية للتواصل، في مواجهة وسائل الإعلام التي تسيطر عليها بشكل كامل الرأسمالية المتنامية، حيث سينعقد المنتدى "الاجتماعي" العالمي تماما في نفس الفترة التي ينعقد فيها المنتدى "الاقتصادي" العالمي بدافوس، سويسرا، وهو الاجتماع الدوري لملاك العالم الجدد. وقد كان ذلك محاولة للحيلولة دون تصدر منتدى دافوس للعناوين في الأخبار العالمية، ولفت الانتباه إلى بديل للنموذج الاقتصادي المهيمن.
ثم وجهت بعد ذلك الدعوة إلى منظمات من جميع أنحاء العالم كانت وراء صياغة هذه البدائل من أجل حضور هذا المنتدى الجديد. وقد أثبت المقترح نجاحه من الناحية الزمنية، حيث لم يتوقع أحد حضور أكثر من 20000 مشارك من مختلف البلدان خلال المنتدى الاجتماعي الأول بدلا من 2500 مشارك، أي العدد الذي كان مبرمجا قبل انعقاد هذا المنتدى، الشيء الذي مثل ريحا جديدة أنعشت المناخ السياسي. وبات من الواضح أن مزيدا من اللقاءات من مثل هذا النوع أصبح أمرا ضروريا. وقد أثبتت المنتديات اللاحقة أهميتها، إذ تزايد عدد المشاركين فيها ليصل إلى 150 ألف عام 2005. بالإضافة إلى ذلك، تمت تسمية الحركة المتصاعدة "المناهضة للعولمة" بحركة "العولمة البديلة"، متأثرة في ذلك بالعبارة المتعلقة بالتعبئة للمنتدى الاجتماعي العالمي.
غير أن هناك بعض التحديات التي لازمت المنتدى الاجتماعي العالمي منذ بدايته. وأود أن أشير هنا إلى ثلاثة تحديات ترتبط بثلاثة أدوار تجعله، في رأيي، أداة لا غنى عنها في النضال من أجل التغلب على المشاكل الناجمة عن هيمنة المال. ويتعلق الأمر بنشر رسالة الأمل التي يحملها في جميع أنحاء العالم، وتأكيد المجتمع المدني كفاعل سياسي مستقل، والبناء الفعال لثقافة سياسية جديدة.
التوسع والتواصل
إن تنامي النضال ضد الرأسمالية لم ينقص بعد من الزخم الذي يخلقه هذا النظام، حيث أظهرت القوة التي استولى بها منطقه على الصين، العملاق الديمغرافي الذي انغمس في رأسمالية الدولة الحازمة، عمق الطعنة التي وجهت إلى البديل الاشتراكي. كما أن مختلف بلدان العالم يسجل بها ضعف على مستوى المقاومة الاجتماعية للاختراق الذي تتسبب فيه النزعة الاستهلاكية المتفاقمة، باعتبارها شرطا لجني الأرباح عن طريق الآلة الصناعية الإنتاجية، التي يشكل نموها الكبير تهديدا متزايدا للبيئية ولاستمرارية الحياة على الأرض. وصحيح أن المنظمات والحكومات التي تدافع عن الرأسمالية تدرج في مناقشاتها وقراراتها بعض المواضيع التي تستأثر باهتمام المنتدى الاجتماعي، إلا أنها تقوم بذلك من أجل التغلب على نقاط ضعفها ومواجهة خصومها بشكل أفضل.
ومع ذلك، فقد وصلت رسالة الأمل التي تفيد بأن "عالما آخر ممكن" إلى أماكن قليلة جدا في العالم. فهذه الرسالة غير معروفة بمعناها الحقيقي في بعض المناطق، كما هو الحال في البلدان التي عاشت تجربة "الاشتراكية الحقيقية"، رغم الأهمية خاصة التي يمكن أن تكتسيها في هذه المناطق. ففي كل قارة، تكون لدى الغالبية العظمى من الناس نسخة مشوهة أو غير مناسبة لطبيعة المنتدى الاجتماعي العالمي وأهدافه.
وقد حاولت العديد من الوسائل البديلة، بما في ذلك استخدام الشبكات الاجتماعية الجديدة، اختراق جدران وسائل الاتصال الرئيسية. ومع ذلك، لم نتمكن من التعريف بما يكفي بالمنتديات التي يتم تنظيمها. فعلى سبيل المثال، يعرف عدد قليل جدا من ملايين المشاهدين السلبيين الذين يتابعون مباريات كرة القدم على القنوات التلفزية، التي تتحكم فيها المنافسة الرأسمالية، أن 70 ألف شخص من جميع أنحاء العالم التقوا في السنغال في بداية هذا العام، من أجل تبادل التجارب وخطط العمل من أجل عالم جديد. وفي هذه الحالة، ربما كان الأمر أكثر سوءا، لأن المنتدى الاجتماعي العالمي انعقد لأول مرة خلال فترة لا تتزامن مع تلك التي انعقد فيها منتدى دافوس. لذلك، بدأنا بشكل متواضع جدا في استخدام الإنترنت خلال المنتديات لربط المشاركين فيه مع أولئك الذين لم يتمكنوا من الحضور. لكننا ما زلنا صوتا خافتا جدا يكاد يكون غير مسموع وسط الكم الهائل من المعلومات التي تغزو العالم. ففي ظل الدعاية الإعلامية ووسائل الإعلام العملاقة، بما في ذلك شبكة الانترنت، التي تقصف العقول والقلوب دون انقطاع بأحداث العالم القديم وقيمه، لا يمكن للأغلبية العظمى حتى أن تتصور أن عالما جديدا أمر ممكن. كما أن هناك القليل، كما هو الشأن بالنسبة لنا، ممن يعتقد أنه مسألة ضرورية ومستعجلة.
فضلا عن ذلك، ينبغي أن "يتوسع" مسار المنتدى الاجتماعي العالمي بشكل دائم من أجل احتضان القضايا الجديدة التي تطفو على السطح. و لحسن الحظ، فإن هذا التوسع يحدث بشكل يكاد يكون طبيعيا، وذلك بفضل شكل المنتدى الاجتماعي العالمي، ذلك أن الأنشطة المنظمة في إطاره تفتح الآفاق، حيث إنها تنظم بشكل حر من قبل المشاركين فيه، وهو الخيار الذي شكل واحدة من مميزاته. وهذا ما حدث مثلا من خلال النضال من أجل السلام عام 2003، الذي أدى إلى تعبئة كبيرة ضد الحرب في العراق؛ ومن خلال البحث عن مخرج للأزمة الاقتصادية والمشاكل البيئية؛ ومن خلال مقترح "العيش الكريم" للشعوب الأصلية في ظل الأزمة الحضارية في منتدى عام 2009 بمنطقة الأمازون؛ أو من خلال ما حدث في الآونة الأخيرة بخصوص قضية امتلاك الأراضي، في منتدى عام 2011 في السنغال، الذي سلط الضوء أيضا على "الثورات من أجل الديمقراطية" في البلدان العربية.
المجتمع المدني كفاعل سياسي
أما التحدي الثاني الذي ينبغي مواجهته فهو التغيير الجذري الضروري كي ينخرط المجتمع المدني بشكل فعلي في العمل السياسي. وقد أثرت الأحداث التي سبقت المنتدى الاجتماعي العالمي بشكل مباشر على القرارات المتعلقة بطبيعة هذا المنتدى وشكله : ، التي ظهرت عام 1994 في المكسيك، والتعبئة المناهضة لمنظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999. فحركة زاباتيستا انتقدت النماذج التقليدية للعمل السياسي، مما جعل المنتدى الاجتماعي العالمي يركز على استقلاليته إزاء الأحزاب والحكومات وإزاء الأساليب التقليدية للعمل السياسي. أما الحدث الثاني، فقد أظهر القوة السياسية التي يمكن أن يتوفر عليها المجتمع المدني. وأدت هذه الرؤية إلى وصف المنتدى الاجتماعي العالمي على أنه منتدى للمجتمع المدني، الذي لم تُتح له الفرصة، حتى ذلك الحين، للقاء على مستوى عالمي. ونتج عن كلا الحدثين أيضا تثمين التنظيم الشبكي الأفقي في المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي لا يعتمد على فرض الانضباط وإنما على قناعة الأفراد.
وقد كانت هذه التوجهات من بين الابتكارات التي أثارت اهتماما أكبر في بداية مسار المنتدى الاجتماعي العالمي. ومع ذلك، فإنها هي اليوم ما يجعل العديد من المنظمات تزيغ عن الطريق المرسوم لها، أي المنظمات التي تفضل تحويل المنتدى الاجتماعي العالمي إلى حركة اجتماعية قوية لها برنامج عمل خاص متوجه نحو الأحزاب والحكومات أو مرتبط بها.
وما زال الكثيرون يتوهمون بأنه من خلال تولي السلطة السياسية يمكن بناء مجتمع جديد. فالإحباط الذي سببته الحكومات المنتخبة لم يقنع هؤلاء بأن تولي السلطة السياسية ليس كافيا. فهذه الحكومات فشلت في تحقيق الهدف الذي رسمته من أجل بناء عالم جديد، ومن أجل البقاء، خضعت تبعا لذلك لمنطق التطور الرأسمالي، أو تم إفراغ هذا الهدف من مضمونه من قبل الأوليغارشيات (الأقلية الحاكمة) الفاسدة.
وبالنسبة للبعض الآخر، فإن المجتمع المدني الذي يتميز بالتنوع وعدم الانسجام في تركيبته والتشتت في أنشطته، لا يمكن أن يكون قوة سياسية إلا إذا كان منظما في شكل هرمي وتراتبي، مثل الحكومات والأحزاب والجيوش والحركات والكنائس. وهكذا، فإن المنتدى الاجتماعي العالمي يمثل بالنسبة لهم مضيعة للوقت والطاقة والموارد، لأنه فشل في القيام بالمهمة، التي تعد مستحيلة في واقع الأمر، والمتمثلة في قيادة المجتمع المدني للعمل كجسم واحد نحو تحقيق بعض الأهداف.
إن هذه النظرة إلى المجتمع المدني تجعل منه مجرد كتلة من الأفراد تدعم الحكومات، كما هو الحال في الأنظمة الفاشية، أو تستخدم لمهاجمتها، وبالتالي يتم تجاهل جسامة التحدي المتمثل في إمكانية بناء "عالم آخر". ومن أجل تحقيق ذلك على نحو فعال، فمن الضروري إجراء مجموعة كبيرة ومتنوعة من التغييرات على جميع المستويات: في هياكل الحكومة، والقوانين، والعقول، والسلوكيات. إنها مهمة ضخمة لا يمكن القيام بها بمجرد قرار يصدر بين عشية وضحاها من أعلى إلى أسفل، وكأن السلطة السياسية يمكن أن تدجن السلطة الاقتصادية وتبرز بالتالي ثقافة جديدة. وعلى العكس من ذلك، فإن الأمر يتطلب مسلسلا طويلا، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال المقاومة ومستوياتها والمبادرة الخلاقة والعمل الإيجابي المتغير.
وانطلاقا من هذا المنظور، يبدو أن المجتمع المدني، نظرا لتنوعه وتباينه وحتى انقسامه، هو الفاعل السياسي الوحيد الذي يمكنه حقا إحداث تغيير فعلي على الواقع. فوحده العمل المنظم للمواطنين، الذين يشتغلون على مختلف المستويات، يمكن من معالجة جميع التعقيدات. في الواقع، ما يبدو أنه نقاط ضعفه هو ما يشكل نقاط قوته. وتجدر الإشارة هنا إلى واحد من المقترحات التي برزت في مسار المنتدى الاجتماعي العالمي، في منشور عنوانه اضطرابات (Turbulence) : لا أحد يستخدم مقلاعا من أجل زعزعة توازن العملاق برمية واحدة. إن ما نحتاجه هو مضاعفة أسراب النحل بشكل كبير وتسخيرها لمهاجمة الوحش باستمرار ومن جميع الأطراف.
بناء ثقافة سياسية جديدة
وقد يكتسي التحدي الثالث الذي ينبغي مواجهته في ظل استمرارية مسار المنتدى الاجتماعي العالمي صعوبة أكبر، وهو بناء ثقافة سياسية جديدة، تسود فيها الديمقراطية الحقة والمساواة واحترام التنوع. وينبغي القيام بذلك داخل عالم عاش دائما تحت وطأة الهرمية وأنظمة الحكم الاستبدادية، في عالم يوصف تاريخه بتاريخ انتصارات قادته وهزائمهم.
إن التغيير المنشود في هذا الصدد عميق جدا، ويمس جميع الأساليب التقليدية للعمل السياسي. وما نراه في كل مكان، حتى في أوساط المنظمات المشاركة في المنتدى، حين تعمل داخل المجتمع، هو خلافات بين أولئك الذين من المفترض فيهم أن يتحالفوا، أو صراعات من أجل السلطة أو الهيمنة. وفي خضم هذه المنافسة يتم اعتماد المبدأ السلبي الذي يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. إننا بحاجة إلى مراجعة كاملة لأداء الأحزاب، باعتبارها أداة من الأدوات الرئيسية للعمل السياسي، كما أننا بحاجة إلى مساءلة التعاليم المنشورة طوال القرن الماضي في أوساط أولئك الذين ناضلوا ضد الرأسمالية.
ومع ذلك، قد تكون الحاجة إلى مثل هذا التغيير أكبر مبتغى في مسار المنتدى الاجتماعي العالمي. ومن دون شك فهو يطرح تحديا أكبر في المطالبة بأن ثقافة سياسية جديدة هي شرط لا غنى عنه لجعل عملنا يتغلب بشكل فعال على منطق الرأسمالية. وقد كان واحدا من أقوى طموحات هذا المبتغى هو شعار "القيادة من خلال الطاعة"، الذي رفعه أتباع حركة زاباتيستا. كما يجد جذوره أيضا في مساهمة كثير من المفكرين والحركات الاجتماعية المعادية للاستبداد في العقود الماضية.
كما يحيل ذلك من جهة على قبول الدور الذي ينبغي منحه للمجتمع المدني، والذي أشرت إليه أعلاه، ومن جهة أخرى يؤدي إلى اعتماد خيارات تنظيمية جديدة كليا في عالم السياسة. وفي هذا الصدد، تعد المنتديات مختبرا لتجريب هذه الخيارات والتعلم منها، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين ينظمونها.
وتبعا لهذه الخيارات، ليس للمنتدى الاجتماعي العالمي قادة أو متحدثون باسمه أو حتى منسقون، كما أن أحداثه لا تنتظم على أساس قطاعات النشاط الاجتماعي أو استخدام الأهرامات التمثيلية التقليدية، انطلاقا من المستوى المحلي ووصولا إلى المستوى العالمي. إنه يشكل فقط فضاء مفتوحا، أي "ساحة عامة"، كما أقول، للقاءات أفقية لجميع أولئك الذين يحضرونه، كل واحد منهم له نفس الأهمية، سعيا للتعلم المتبادل، وتحديد نقاط التوافق و بناء العمل المشترك على أساس الثقة المتبادلة. فضلا عن ذلك، لا تختتم أشغاله بإصدار "بيان ختامي" للتعبير عن التزام موحد وواحد من جميع المشاركين، وهو الأمر الذي شكل حقا مستجدا مقارنة مع ما يحدث في المنتديات والتجمعات والمؤتمرات واللقاءات بصفة عامة. كما أنه لم يفتح إمكانية "الاقتراحات"، مثل تلك التي تعتمد في جو من الغفلة والتعب خلال اللحظات الأخيرة للتجمعات...
في البداية ، لم نكن نعي تماما كل تلك الإمكانات المتغيرة لتلك الخيارات، ولا المقاومات التي يمكن أن تثيرها من قبل أولئك الذين يعتبرون المنتدى الاجتماعي العالمي كحركة جديدة ، أو "حركة الحركات" ، أو يدمجونه ببساطة في حركة العولمة البديلة. في الواقع، فهم يفضلون رؤية المنتدى كموضوع، بدلا من انتظار المنظمات المشاركة أن تحدد التزاماتها الخاصة وتحققها، في ظل تعدد نضالاتهم.
ومع ذلك، وانطلاقا من اعتماد ميثاق للمبادئ، تمت صياغته بعد المنتدى الأول وانطلاقا من الدروس المستفادة منه لضمان نفس النجاح للمنتديات المقبلة، تعززت هذه الخيارات وانكشفت، في اتجاه المبدأ الأساسي المتمثل في احترام التنوع . وتتمثل أحد هذه التطورات، التي سبق أن أشرت إليها، في القرار الذي يفيد ببرمجة أنشطة ينظمها المشاركون أنفسهم خلال المنتدى، طبقا لنفس مبادئ الميثاق. أما التطور الآخر فيتمثل في كون منظمي المنتديات بدأوا يصفون أنفسهم بـ"الميسرين"، تجنبا لأي دوري "توجيهي".
وسمحت حركية توالي المنتديات بتزايد ظهور شبكات جديدة، تضم منظمات ذات أهداف مشتركة وبشكل مستقل تمكنت من فرض احترام تنوعها على الجميع، وهذا نوع من الاتحاد الذي لا يتجانس ولا يضعف القدرة على المبادرة. ورغم تحررها من الالتزام بـ"الالتقاء" حول برنامج واحد للعمل في نهاية كل منتدى، فإن هذه الشبكات تكتشف نقط "التقاء" متعددة ومصالح مشتركة، وبالتالي تكتسب حياتها الخاصة وتتقوى في ما يسمى بـ"مسار" المنتدى الاجتماعي العالمي، كوسيلة لبناء مجتمع مدني يعبر عن نفسه على مستوى عالمي.
وقد برز الوجود الحقيقي لهذه "الشبكات" الجديدة من خلال ما حدث في المنتدى الاجتماعي 2011، المنظم في العاصمة السنغالية، داكار، حيث ساهمت المشاكل التي واجهها المنظمون في تحوله إلى فوضى حقيقية في اليوم الأول من الأنشطة المنظمة ذاتيا. ومع ذلك، أخذت الشبكات القائمة زمام المبادرة وساهمت في إنجاح هذا المنتدى، الذي ضم أكثر من ثلاثين تجمعا برمجت خلاله خطط عمل مشتركة، ومن حضر المنتدى ولم يندمج في شبكات خرج غير راض. ومع ذلك، فقد كان الشعور العام عند نهاية المنتدى، على الرغم مما اكتساه، هو ضرورة مواصلة هذا المسار من خلال منتدى اجتماعي عالمي جديد في عام 2013.
إن المشاكل التي واجهها منظمو منتدى داكار نجمت عن عدم احترام القواعد الأساسية لصيغة المنتدى الاجتماعي العالمي. فالهيئة الجماعية كان يجب أن تكون لديها تركيبة منفتحة ومتنوعة، وألا "يُتحكم" فيها من قبل عدد قليل من الناس، وقراراتها كان ينبغي أن تتخذ وفقا لقاعدة توافق الآراء، وهي إحدى أغنى التجارب في جميع مراحل المسار، التي علمتنا حسن الاستماع، وكان لهذه الهيئة أن تشتغل كميسر وليس كهيئة توجيهية.
ونفس النوع من هذه الصعوبات وبذات الأسباب تعيشها بعض المنتديات الأخرى مثل المنتدى الأوروبي، الذي بدأ قويا عام 2002. وبعد ست دورات، يتجه هذا المنتدى اليوم إلى الانقراض تقريبا. ونفس الشيء ينطبق على بعض المنتديات الأخرى، خاصة المحلية منها أو الوطنية، والتي "اختطفتها" القوى السياسية التي تسعى لوضعها في خدمة أهدافها الخاصة، مما يعني أن مسار المنتدى الاجتماعي العالمي يتقهقر، على الرغم من أنه يشكل مصلحة مشتركة للإنسانية.
خلاصة
على الرغم من وطأة هذه التحديات، يشهد المنتدى الاجتماعي العالمي دينامية ايجابية في مناطق إستراتيجية مثل أمريكا الشمالية والدول العربية وتستمر سفينته في الإبحار. لكن المفارقة العجيبة تكمن الآن في بروز اتجاه جديد وخطير نتيجة لنجاح مسار المنتدى، وهو أن الشبكات التي ولدت في إطاره، وتمتلك الآن قوتها الخاصة، لم تعد "بحاجة" إلى المنتدى الاجتماعي العالمي لتعميق وتوسيع تحالفاتها ونضالها. ويبدو أنها تغادر السفينة في خضم العنف الذي ما زالت تتسبب فيه موجات تسونامي الرأسمالية.
ويمكن أن تثبط هذه الرؤى همم أولئك الذين يعون بأن المسار ما زال طويلا في مغامرة المنتدى الاجتماعي العالمي. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع تضليل أنفسنا. وكما قلت في نهاية الكتاب الذي ألفته عن المنتدى الاجتماعي العالمي في عام 2004 : إذا كانت المقاومة لخيارات المنتدى الاجتماعي العالمي وللثقافة السياسية الجديدة التي يجري بناؤها بمساهمة المنتدى يمكن أن تحول دون استمراره، فإنه ينبغي علينا أن نكيف أنفسنا مع هذه الحقيقة البسيطة : لكل شيء زمنه.
18 يوليو 2011
* احد مؤسسي المنتدى الاجتماعي العالمي - البرازيل
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لماذا أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن عفوًا عن نجله هانتر الآن
.. قوات من الحشد الشعبي العراقي تدخل سوريا للمشاركة في المعارك.
.. هيئة البث الإسرائيلية: النقطة المتعلقة بإنهاء الحرب لا تزال
.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تتناول فرص عقد صفقة لتبادل المحتجز
.. مسلحون يسقطون تمثال باسل الأسد في حلب