الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكاليات المجتمع المدني

ماجدة تامر

2005 / 3 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


نشهد في الوقت الحالي الإرهاصات الأولى لردة فعل ثقافية تجاه العولمة، يتوقع أن تكون آثارها على الدرجة نفسها من الأهمية والانتشار الواسع المدى، اللذين اتسمت بهما الحركات الثورية من أجل الديمقراطية السياسية ورأسمالية السوق في نهاية القرن الثامن عشر. لقد بدأت الثقافات المحلية تستيقظ من جديد في جميع أنحاء العالم . ففي الهند قام المستهلكون الهنود في الآونة الأخيرة بالامتناع عن التردد على مطاعم" ماكدونالدز" بسبب مخالفتها للقوانين الهندية المتعلقة بالأغذية .
وفي ألمانيا ينخرط الرأي العام هناك في مناقشات محتدمة عن طبيعة الثقافة الألمانية في عصر العولمة : فتيار يسار الوسط هناك يخشى أن تؤدي أية مباحثات من أجل احياء الثقافة الألمانية الرائدة إلى إعادة بعث المشاعر النازية، في حين يتساءل تيار يمين الوسط عن السبب الذي يدعو ألمانيا للتنكر لتراثها الثقافي أكثر من ذلك.
وفي فرنسا قام المزارعون الغاضبون باقتلاع محاصيل شركة "مونسانتو" المعدلة وراثيا بدعوى أنها تمثل تهديدا للسيادة الثقافية الفرنسية في مجال إنتاج الغذاء• وفي سكوتلاندا، يتم حاليا إنشاء مبنى جديد للبرلمان في الوقت الذي يحتفل فيه الشعب الاسكتلندي بالحكم شبه الذاتي الذي حصل عليه أخيرا من بريطانيا، والذي يأمل من خلاله أن تتم إعادة الثقافة الاسكتلندية إلى سابق عهدها.
وفي كندا تحارب المجتمعات المحلية من أجل إبعاد سلسلة متاجر التجزئة "وول مارت" عن مدنها خوفا من أن تؤدي إلى القضاء على المشروعات التجارية الأخرى المجاورة، وأن تؤدي أيضا إلى استبدال ثقافة المدن الصغيرة التقليدية بثقافة المراكز التجارية العملاقة المقامة في الضواحي .

تقوم العولمة بتغيير المشهد الثقافي بطرق جذرية أخرى : ففي أوروبا تخلت اللغات الوطنية عن سيادتها مفسحة الطريق أمام اللغة الإنكليزية، باعتبارها لغة العولمة .
ويتوقع المراقبون أن تتحول أوروبا بدءا من فرنسا إلى روسيا إلى قارة متحدثة بالإنكليزية مع نهاية القرن الحالي • أما في لوس أنجلوس فتبدو القصة مختلفة تماما، إذ تبلغ نسبة التلاميذ من أبناء المهاجرين من دول أميركا اللاتينية المتحدثين بالأسبانية حوالى 75 في المئة من إجمالي عدد التلاميذ في الولاية، كما تشير أرقام مكاتب إحصاء السكان إلى أن غالبية الأميركيين سوف يكونون من الملونين خلال أقل من أربعين عاما من الآن.

لقد أدت عولمة التجارة والتبادلات، والهوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء في العالم إلى موجة واسعة من الهجرات البشرية من الشرق إلى الغرب ، ومن الجنوب إلى الشمال .
والهجرات بدورها تؤدي إلى حدوث تصادم بين الثقافات في العديد من البلدان حيث تكافح الشعوب جاهدة من أجل الحفاظ على هويتها الوطنية في عالم تجاري تتلاشى فيه الحدود • وهناك حاليا جيل من الناشطين الثقافيين يقوم بحمل قضاياه إلى المسرح العالمي • وهؤلاء الناشطون يأتون من منظمات المجتمع المدني ذات الجذور الممتدة في أعماق المجال الثقافي •
وعلى الرغم من أن تلك الجماعات تتبنى مسائل سياسية واقتصادية عالمية، إلا أن ارتباطاتها، وانتماءاتها ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمعات المحلية • أما الأجندات الرسمية في المنتديات الحكومية والتجارية فقلما تذكر شيئا عن تلك الحركات الثقافية الصاعدة ، وهنا تحديدا يكمن لب المشكلة .

تميزعهد ما بعد الحرب العالمية الثانية بسيادة التجارة والحكومات على المشهد العالمي .
أما في الوقت الحالي فهناك لاعب ثالث ظهر وبدأ في المطالبة بدور مساو في الساحة الدولية • فالمنظمات التي تمثل مصالح ثقافية متنوعة، وتهتم بشؤون البيئة، والحياة القروية، وطرق الطهي والطعام وكذلك تلك الامور المتعلقة بالدين ، والحقوق البشرية ، والعائلة، وقضايا المرأة، والتراث العرقي، والفنون وغيرها من الموضوعات الحياتية أصبحت تطرق الآن على أبواب المنتديات السياسية والاقتصادية مطالبة بالسماح لها بالدخول إلى أروقة السلطة، مطالبة أيضا بمنحها مقعدا على المائدة . وهذه المنظمات تمثل ميلادا لما يعرف بـسياسات المجتمع المدني كما تعتبر ترياقا يقاوم تأثير القوى التي تدفع باتجاه العولمة .

إن العديد من الناشطين المثقفين الجدد يعارضون ما يرونه استعمارا للثقافة من قبل الشركات العالمية ، وإذا ما كانت الدول الصناعية الرئيسية متحدة في دعمها للتجارة العالمية والمبادلات، فإن منظمات المجتمع المدني، هي الأخرى ملتزمة بالقدر نفسه بفكرة المحافظة على الهوية المحلية، وإثراء التنوع البيولوجي والثقافي •
وقد أدت تلك الرؤى المتصارعة للمستقبل إلى تلك المواجهات العنيفة في شوارع سياتل، وواشنطن، وبراغ، ونيس، ودافوس، وكوبيك، وجنوا وغيرها أثناء المنتديات السياسية والاقتصادية التي عقدت في تلك المدن خلال السنوات القليلة الماضية•

وفي السنوات المقبلة، قد تؤدي الرؤى الأيديولوجية المتعارضة، التي تعتبر السبب الجوهري إلى طريق مسدود في العلاقة بين التجارة والحكومة من جهة، وبين حركة المجتمع المدني التي اكتسبت مزيدا من الجرأة في الفترة الأخيرة ، من جهة أخرى .

إن المنظرين الرأسماليين ، والاشتراكيين ، يشتركون تقليديا في الاعتقاد بأن الظروف المادية هي التي تأتي في المقام الأول وبعدها تأتي البنى الثقافية والاجتماعية، والقيم السائدة •
ومن المؤكد ، أن المدافعين عن العولمة سيعترضون على ذلك قائلين إن التجارة الحرة، وتوسيع العلاقات التجارية، والمبادلات، والأنشطة المختلفة هي التي تمثل مفتاح المستقبل الأفضل للجميع . والعيب في تلك الفرضية يكمن في الافتراض المغلوط بأن التجارة هي التي تقوم بتشكيل الثقافة ، في حين أن العكس تماما هو الصحيح في معظم الأحيان .

ونشطاء المجتمع المدني أيضا سيعارضون تلك الفرضية قائلين إنه لا يوجد دليل واحد في التاريخ على قيام البشر بتأسيس العلاقات التجارية أولا، ثم القيام بعد ذلك بتأسيس الثقافة .
فالتجارة والحكومات في نظرهؤلاء النشطاء هما اللذان يأتيان في مرتبة تالية لأنهما نتاج للثقافة وليس العكس • لأن الناس يقومون أولا بإيجاد لغة مشتركة، ويتفقون على قوانين للسلوك، وعلى شعور مشترك بوحدة الهدف، وعلى نمط معين للتفكير، وبالتالي وضع المعايير، وهي ما تشكل في مجموعها ما يعرف برأس المال الاجتماعي .
كما أن الثقة الكافية المطلوبة لدعم المؤسسات الحكومية والثقافية لا تتحقق إلا عندما تصل المجتمعات إلى درجة عالية من النضج • والسبب في ذلك هو أن الثقافة تمثل المنبع الذي يستمد منه المجتمع أعرافه السلوكية المتفق عليها. وهذه الأعراف السلوكية، بدورها، هي التي تخلق جو الثقة الذي يمكن أن تتم فيه التجارة وانواع التبادلات الأخرى. أما عندما يبدأ المجال التجاري في التهام المجال الثقافي فإن ذلك يهدد بتدمير المؤسسات الثقافية نفسها التي أدت إلى ظهور العلاقات التجارية.
ولسوء الحظ يمر القطاع الثقافي اليوم بحالة وسطى من الاستعمار الجديد تقع ما بين قطاع السوق والقطاع الحكومي . حيث انتزعت من ذلك القطاع شخصيته المستقلة، وتم تحويله إلى عالة على القطاعين الآخرين من أجل أن يظل باقيا على قيد الحياة .
ولكن عندما يتم تحويل الثقافة المحلية إلى قوة سياسية متماسكة عارفة بقدرها، سيكون من الممكن إعادة تأسيس الدورالمهم للقطاع الثقافي في مشروع المجتمع الإنساني مرة ثانية.

في الحقيقة، إن الوقت الراهن ربما يكون هو الوقت الذي يجب أن يتم فيه تبني فكرة تأسيس مجموعة من المنظمات الثقافية التي تعمل على تحقيق مصالح الثقافات المتنوعة حول العالم، وإعطائها مكانة متساوية مع المكانة التي تتمتع بها منظمة التجارة العالمية في الشؤون الدولية.

بيد أن هناك نقطة يجب التحذير منها في هذا السياق وهي أن استعادة الثقافة قد تؤدي بالدرجة نفسها من السهولة إلى نوع جديد وشديد الضرر من الأصولية فيما يتعلق بعملية أحياء التنوع الثقافي.
حيث تتنامى اليوم في كل مكان في العالم اليوم، الحركات الأصولية السياسية والدينية بشكل مطرد : فالأحزاب السياسية الوطنية المتطرفة، والمجموعات الانفصالية، وحركات التطهيرالعرقي والمتطرفون الدينيون وجميع الحركات الأصولية تمثل ردود افعال تجاه المخاوف ونواحي عدم اليقين التي تسببها العولمة . فالحركات المتطرفة تعتقد إذن انها تقوم بدافع المحاولة لإيقاف الاتصالات مع العالم الذي تنظر إليه تلك الثقافات باعتباره عالما مريضا وآثماً.
ومعتقدات الجماعات المتطرفة وطرق تفكيرها يضعانها في مواجهة مع معظم جماعات المجتمع المدني، التي تحبذ استعادة الثقافات المحلية المميزة مع مراعاة واحترام حق الثقافات الأخرى في الوجود في عالم متنوع ثقافيا .

إن العديد من المراقبين ينتابهم القلق من أن يؤدي الاهتمام المنبعث مجددا بالثقافات المحلية، إلى كراهية الأجانب، والعواطف المغالية في درجة وطنيتها • بيد أن الأمر ليس بالضرورة كذلك ، لأن الشعوب في كل مكان لو نظرت إلى منابعها الثقافية كعطايا يمكن تبادلها مع الآخرين لا كممتلكات لابد من الدفاع عنها ، عندها قد تؤدي الهجرات البشرية الكبرى في القرن الحادي والعشرين إلى نوع من البعث الثقافي، وإلى تهيئة الظروف الملائمة لعولمة التجارة والتبادلات بطريقة تتميز بمسحة إنسانية حقيقية .
والسؤال هنا هو: متى سيقوم رؤساء الدول بتخصيص وقت كاف للاستماع بعناية إلى الرسالة القادمة من ممثلي المجتمع المدني المتجمعين بشكل تلقائي وعفوي ينتظرون دورهم في الحياة العامة؟ واذا كان الجواب بالنفي ، فإن الإحباط المتنامي سيصبح ذريعة في أيدي المتطرفين الميالين للعنف والذين تتزايد أعدادهم باستمرار، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة في المستقبل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تبدع في تجهيز أكلة مقلقل اللحم السعودي


.. حفل زفاف لمؤثرة عراقية في القصر العباسي يثير الجدل بين العرا




.. نتنياهو و-الفخ الأميركي- في صفقة الهدنة..


.. نووي إيران إلى الواجهة.. فهل اقتربت من امتلاك القنبلة النووي




.. أسامة حمدان: الكرة الآن في ملعب نتنياهو أركان حكومته المتطرف