الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا رحيق لزهور تنبت في أرض غير أرضها

فاضل سوداني

2005 / 3 / 8
ملف - بمناسبة 8 مارس/ اذار 2005 يوم المرأة العالمي


(أن نعبر ذلك الليل البارد
الذي سيحيلنا الى بهاليل ومجانين ) شكسبير
هل عبرنا ذلك الليل ياناهدة الرماح ؟
ليس من السهولة ان يسترجع الانسان ذاكرة الماضي ليوقظ أحاسيس لم تكن عفوية ذات يوم ، ويستنهض حيوية زهرة المسرح العراقي ناهدة الرماح كأنسانة وفنانة سرق زمنها الابداعي كما الكثيرين من الفنانين . اذن ليس من السهولة بعد كل هذا الخراب ان يمنحها الانسان بعض من فرح الابداع ، او على الاقل واحة لتستريح من منفاها ومن خسارتها للمسرح العراقي بعد سقوطه أبان حكم الجهلة . لذا سأستنهض حيويتي وأنا انتظر شيخوختي المبكرة في منفاي بسنواته السابعة والعشرين ، سأستنهض كل هذا للكتابة عن تلك الزهور التي لا تنبت إلا في أرضها .
مازالت ناهدة الرماح تعيش في حلمها الفني حتى وهي في منفاها الضبابي في لندن ، فينعكس على سلوكها اليومي مما يدفعها لتتعامل مع الآخر ببساطة وعفوية وبراءة المشاعر ، بلا تعالي او قسوة عراقية ، لان مافي قلبها دائما تجده على راحة يدها ، انه الصدق الذي يميز فنانة تمتلك مشروعا إنسانيا مع الاخر. انه قرينها الضروري ، تشكل معه وعيها ومسرحها المبارك الذي يرتجف الممثل في ظلمة كواليسه عادة رجفة الابداع على خشبة المسرح ، انه عالمها الفني ، بل هو بيتها تألفه في كل عمل مسرحي . فالمسرح هو المكان الوحيد الذي ترى الفنانة فيه وجودها و ديمومتها الحياتية .
وبين كواليس مسرحية القربان ( لغائب طعمه فرمان ) كنت في كل ليلة اسمع همسها الشفيف ، وأستشعر فرحها الطفولي الذي يتلألأ في عينيها ، لانها في مواجهة ذاتها الحقيقية التي تعبر عنها على خشبة فرقة المسرح الفني الحديث . في ذلك المكان كانت ناهدة الرماح تجد كينونتها وزمنها الفني ، لانها تعي أهمية ماتقوم به في كل مساء عندما يضئ نور المسرح روحها والاخرين .
وفي إحدى ألا ماسي في تلك الهوة المظلمة المدهشة بين الكواليس ، وفي لحظة خروجها الى الجمهور (في دور مظلومة) شعرت بيد ناهدة تتشبث بي وهي تتعثر وترتجف ، وتهمس بصوت متهدج مشوبا بالرعب : آني بعد ماشوف … عمـيت .
لم اصدق ، بل اعتبرت هذا بعض من المناكدات التي كان أعضاء الفرقة يمارسونها فيما بينهم . وعندما توقف العرض بسبب فقدان ناهدة الرماح البصر لم يترك الجمهور صالة المسرح لقلقه عليها . وبعد ذلك واحتراما للجمهور قررت الفرقة استمرار العرض فكان على الفنانة المبدعة اقبال محمد علي ان تحفظ دور ناهدة الرماح في ليلة واحدة ، واستمر العرض في اليوم التالي ولكن بممثلة جديدة . وقد لعبت الفنانة القديرة المرحومة زينب دورا كبيرا للتخفيف عن محنة زميلتها وسعيها لتوفير فرصة للعلاجها في لندن بمساعدة الوزير انذاك المرحوم عامر عبدالله .
من السهولة ان تدخل عالم ناهدة الرماح ، و من السهولة ان تشعر بالطمانينة معها . وكل الذين يعرفونها وخاصة أعضاء الفرقة وبالذات الشباب منهم أنذاك يتذكرون بيتها في اطراف بغداد ، حيث كانت حديقته (وكذلك بيت الفنانة زينب في الكرادة ) ركننا الذي نستريح فيه بعد تمرين متواصل في المسرح يستمر حتى منتصف الليل .
من السهولة ان تتخذ من ناهدة الرماح صديقة وكاتمة للاسرار ، من السهولة ان تطلب منها ماتحتاجه انت ، من السهولة ان تتشاور معها عن عذاباتك الشخصية . من السهولة ان تاخذ منها الكثير ، ولكن من المستحيل ان تساومها على مسرحها وإبداعها . وحميميتها مع الاخر شرط مهم للابداع ، ففي الفن لايمكن فصل السلوك الانساني اليومي عن الممارسة الفنية . لذلك فان صدق وعفوية الفنانة انعكس على فنها المسرحي من خلال الشخصيات التي مثلتها منذ ادوارها الاولى في السينما و التلفزيون ومرورا بمسرحيات مثل النخلة والجيران ، المفتاح ، القربان ، بيت برنارد ألبا وغيرها . ومن خلال دراسة هذه الشخصيات تكتشف صدق وعفوية الشخصية الشعبية التي حاولت الفنانة ناهدة ( والفنانة القديرة زينب كذلك ) إحيائها على خشبة المسرح. وبالتأكيد فان هذه القدرة والغنى الروحي والفني هي نتيجة لوعيها بمهمة أساسية وهي : ان الفن لابد ان يخلق الجمال ، جمال الاشياء وجمال الروح ، ولابد ان يكون دوره فعالا في التطور الاجتماعي . وبالرغم من عصاميتها إلا ان مسببات اخرى أدت الى تشكيل وعيها الفني متمثلة بـ :
• لقائها ببعض الشخصيات الادبية والفنية والسياسية في بداية مسيرتها التي أثرت على تكوين شخصيتها ومستقبلها الفني .
• لعبت الافكار التقدمية ـ التي التزمت الفنانة بها ـ وخاصة الافكار الماركسية وكونها عضوا في الحزب الشيوعي ، الدور الفعال في تكوين وعيها الفكري والسياسي.
• لقد ساعدها انحدارها الاجتماعي ونشرئها في وساط فقير على ان تكتشف بوضوح جوهر مهمتها الاجتماعية والفنية ، إضافة الى دور زوجها ورفيق حياتها الاستاذ شوكت الرماح الذي وقف معها منذ بداية حياتها الفنية في وقت كان يعد المسرح فيه ممارسة لاأخلاقية ، إضافة إلى معايشته لجميع المحن والصعوبات التي عانت منها .
ان وعي ناهدة الرماح هذا أدى بها الى أن تنتمي الى فرقة المسرح الحديث والتي تعد إحدى أهم الفرق المسرحية العربية التي استطاعت ان تخلق وعيا متميزا ليس لأعضائها فقط وانما لجمهورها الواسع . ولذلك فان الفرقة كانت بالنسبة الى ناهدة الرماح هي المعهد الفني والمدرسة التي تعلمت فيها أصول وقوانين العمل الفني ،إضافة الى عملها مع ممثلين ومخرجين عراقيين كبار مثل الفنان جاسم العبودي ( مات وحيدا في دار العجزة في امريكا ) وجعفر السعدي وجعفر على (ظلت جثته مرمية في الشارع ساعات طويلة ) وابراهيم جلال وسامي عبد الحميد واسعد عبد الرزاق وقاسم محمد و بهنام ميخائيل (الذي صفعه تلميذه النجيب مسؤول الاتحاد البعثي وقت الدراسة في معهد الفنون ) وعبد الجبار عباس ( مات مشلولا لايملك كفنه ) ويوسف العاني وخليل شوقي وجميع شباب الفرقة أنذاك الذين أثرت بهم واثرو بها مثل فاضل خليل ومقداد عبد الرضا وصلاح القصب وروميو يوسف وكاتب الذكرى ( فاضل سوداني )وغيرهم.

وقد حاولت الفنانة ان تمنح الشخصية التي تؤديها شئ من حيويتها وعفويتها وعراقيتها حتى يتفاعل الجمهور معها .وهذا ما قامت به في جميع أدوارها . وما إبداعها في أداء دور ( حيره ) في مسرحية المفتاح إلا تأكيد على امتلاكها للحيوية والقدرة على خلق الشخصية الشعبية . وأستطيع القول بان ناهدة الرماح كانت تبحث عن ذاتها في دور ( حيره ) ، تلك المرأة العراقية الطيبة ، الحيرانة والمأخوذة حد الذهول للبحث بعناد عن مصيرها ومستقبلها بالرغم من استلابها التاريخي في مجتمع مازال لا يحترم دور المرأة . و قد شغفت الفنانة أيضا بدور الفتاة العراقية المضطهدة في فيلم ( من المسؤول ) الذي يعتبر من الأفلام الاجتماعية المؤثرة في تاريخ السينما العراقية .لذا فان الخزين الشعبي لدى الفنانة ناهده يمنحها القدرة على التأثير في مصائر الشخصيات التي تؤديها ، كما ان اكتشافها للغنى الانساني لهذه الشخصيات يؤثر في ذات الفنانة أيضا .
ان ذاكرة الجمهور العراقي مازالت طرية ، و لابد ان يتذكر لحظات الفرح التي منحتها ناهده الرماح عندما كانت تقف على مسرح بغداد ، وبذات الذاكرة الحية سيتذكر أيضا فنانة الشعب زينب ، الغائبة والحاضرة أبدا من خلال تلك الشخصيات النسائية الشعبية التي أدتها بجدارة عالية كسليمة الخبازة في النخلة والجيران وسيتذكر الجمهور أيضا ممثلات مبدعات حرم النظام العراقي المقبور الكثير منهن لممارسة المسرح مثل زكيه خليفه وفوزية عارف وغزوه الخالدي وعواطف السلمان ومي شوقي وآزدوهي ووداد سالم وروناك شوقي ونضال عبد الكريم واقبال محمد علي وشذى سالم ، وسهى سالم و سميرة الورد وميديا رؤوف وغيرهن .
لقد فقد الفنان العراقي في منفاه الكثير من حيوية مشروعه الفني بعد ان سرق زمنه الفني ، كما تهمش المسرح في العراق وفقد رموزه الفنية و الابداعية ، بفضل الكثير من الفنانين الذين خدموا سياسة النظام التدميرية . والان على الفنان العراقي أن يعمل بسباق مع الزمن من أجل إزالة المعوقات التي كانت تهدف لتدمير الثقافة والتراث العراقي ، بهذا فقط نستطيع ان نسترد جوهرة الزمن الابداعي التي لا تعوض عندما نعمل من جديد من اجل بناء ثقافة ومسرح في عراق ديمقراطي حيث ، ولكن يبقى السؤال الاساسي هو هل عبرنا ذلك الليل ياناهدة الرماح ؟ يمكن ان نعبر الى الضفة الاخرى الان وخاصة هنالك طموح لتحقيق بناء العراق الديمقراطي وهذا يتطلب ان نبني وعينا من جديد وان يخلق الفن الوعي الجمالي لدى الانسان العراقي ، وان يتحول المسرح الى جزء من الانشغالات المفرحة لدى العراقي في عطلة نهاية الاسبوع . لكنني مادمت في المنفى فانني :
لا أنتظر تفتح الزهور لأشم رحيقها /
لا رحيق لزهور تنبت في ارض
غير أرضها /

كوبنهاكن
شمال الكوكب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيع دراجة استخدمها الرئيس الفرنسي السابق لزيارة عشيقته


.. المتحدث باسم الصليب الأحمر للجزيرة: نظام الرعاية الصحية بغزة




.. قصف إسرائيلي يشعل النيران بمخيم في رفح ويصيب الأهالي بحروق


.. بالخريطة التفاعلية.. توضيح لمنطقة مجزرة رفح التي ادعى جيش ال




.. هيئة البث الإسرائيلية: المنظومة الأمنية قد تتعامل مع طلب حما