الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام مشروعة (2) - رواية -

محمد إبراهيم محروس

2012 / 10 / 31
الادب والفن


2
لا أعرف متى وقفت السيارة ولكني فوجئت بالسائق يتمتم العنوان يا أستاذ ..
تطلعت حولي لدقيقة قبل أن أهز رأسي ، أهبط وأنا أعطي للسائق حسابه ، وهو ينظر لي نظرة
" ايه البلاوي اللي الواحد بيشوفها دي كل يوم " ..
باب العمارة أمامي ، كنت أريد أن أصعد لأستريح قليلا ، رغم أنني لم أبذل أي مجهود يذكر ، ولكنني أرجأت الأمر ، لا مجال للصعود الآن لابد أن نورهان قلقة على غيابي .. وجدت قدمي تسوقني إلى جراح العمارة، تطلعت حولي، الجراح هادئ، وخميس السائس غير متواجد، أين ذهب هذا الرجل ؟
أين سيارتي ؟ !!!
تطلعت للسيارات الواقفة في ذهول ، مكان سيارتي شاغر ، بحثت في جيوبي عن مفتاح السيارة فلم أجده ...
هل أخذها كمال عندما أخذني لشقتي القديمة ، وهل وصلت به الجرأة أن يذهب بها ليقضى مشاويره ولا يبلغني ؟!!
أطلقت زفرة حارة ، هذا ما ينقصني الآن ...
أخرجت المحمول واتصلت بنورهان
جاءني صوتها هادئا :
- انت فين ؟
- انا تحت العيادة ...
- طيب .. جاي يعني ؟
- أها جاي ... هروح فين ؟
- طيب متتأخرش عشان ماما وعم توفيق قربوا يوصلوا ؟
- ماما وعم توفيق .. خير ؟
- ايه يا أخي سنوية بابا انت لحقت نسيت ؟ متنساش الطلبات اللي قولت عليها ؟
- طلبات ايه ؟
- يووووووه .. انا عارفة دايما بتعمل ناسي .. عموما هتلاقي ورقة الطلبات في جيب الجاكت مطرح ما حطتها انت بايدك الصبح ياللا باي بقى ..
أغلقت الهاتف ورحتُ أفتش جيوب الجاكت ، اصطدمت يدي بورقة مطوية ، فتحتها لأجد قائمة بالطلبات التي من المفترض أن نورهان كتبتها لي ، كيف نسيت ؟!!
أشعر أنني اليوم مختلف، هناك شيء خطأ يحدث !.. ليكن
اللعنة !! السيارة !
طلبت كمال على المحمول، تليفونه مغلق، عجيب هذا الصديق، طلبته عدة مرات ولا فائدة !!
اتصلت بنورهان ، التي أتى صوته معاتبا :
- فيه إيه تاني ؟
- العربية مش لقيها ؟
- عربية ايه ؟!! ما العربية انت سايبها لي النهاردة .. انت غريب! ياللا بطل دلع بقى متتأخرش .
رحت أحك فروة رأسي بيدي بعنف ، ما الذي يحدث ، كيف تركت لها السيارة اليوم ؟ هناك أشياء تحدث لي غير مفهومة بالمرة ...
وجدت خميس يدخل وهو يحمل ورقة جرنان مطوية، ألقى السلام عليّ مبتسما ، خفت أن أساله عن السيارة حتى لا أظهر أمامه بمظهر الشخص الذي فقد عقله ...تطلع في عيني وهو ينتظر مني أن أساله عن شيء، ولكنني صمتت، وأنا ألقى عليه التحية واتجه لباب الجراح، وهو يهزّ رأسه في لا مبالاة ... ونظرة " سكان أخر زمن " تطل من عينيه ..
خرجت للشارع ، كانت هناك نسمة لطيفة بدأت في الجو ، نظرت للشارع نظرة خاوية من التفكير ، أحتاج إلى فنجان قهوة الآن ، طلبات نورهان ؟ لا تهم !
جلست على مقهى في أول الشارع ، طلبت فنجان القهوة الذي لم يتأخر علي ووجدته أمامي بعد هنيهة ، نظرت لفنجان القهوة بشك غير مبرر ، رفعته إلى شفتي وارتشفت عدة رشفات ولم أكمله ، ناديت النادل وحاسبته ، أوقفت تاكسي ورميت نفسه بداخله ، وأنا أتمتم له بالعنوان .. أشياء كثيرة راحت تضطرب عقلي ومناظر متعددة من الشرق والغرب ، أبدو كطفل تائه يبحث عن يد أمه ، رحت أعد المفاتيح التي في جيوبي ، حاولت فهم كل ما حدث اليوم لي ، ولكنني صدمت بأنني لا أفهم أي شيء ، هناك جنون حادث بالفعل ، ولكنني لا أستطيع أن أضع يدي عليه ، هل تتعمد نورهان أن تصيبني بالشك في نفسي ، ولماذا ؟
ربما أخذ كمال السيارة اليوم إلى بيتي وظن أنني لن أترك الشقة قبل مدة ، ولكني فاجأته باتصالي بنورهان ، فادعت هي أنني تركت السيارة لها صباحًا ، من المستحيل أن يكون ما حدث غير هذا !! ومن المستحيل أن يكون هذا ما حدث !!!...
أنا أكبر من تلك الهلاوس ، ربما هو إرهاق العمل ، وبالتأكيد هي الحالات الكثيرة التي أشرف عليها في الفترة الأخيرة ؛جعلتني مرهقًا لأقصى درجة ، فأخفى عقلي الباطن بعض الأحداث عن عقلي الظاهر حتى لا أنهك ، هذا مبرر أشد قناعة لي ..
فتحت شباك السيارة، وأخرجت سيجارة ورحت أنفثها، لماذا ألمح نظرة فضول دائمًا في نظرات سائقي التاكسي ؟
كلا ، لا داعي لأرهق نفسي بالتفكير ، رميت رأسي للخلف مسترخيًا ، لكن الذكريات راحت تضطرب رأسي بعنف أكثر ...
خبطات على باب غرفتي في عيادتي القديمة، ثوان ورايت كمال يدخل، ينظر لي باسما كعادته وبهدوئه المقيت يقول لي :
- ابسط يا عم لو تعرف مين جاي معايا برة هتقوم تفز من على كرسيك تبوسني .. قوم فز ..
- فيه ايه .. احنا في العيادة بطل هزار ؟
- يعني أخدها وأمشي .. طيب انا الغلطان اللي قولت لها انك الوحيد اللي ممكن يساعدها .. بأي يا حتة ؟
- بطل هزارك السخيف ده وقولي مين برة ؟
- نورهان .
وجدت نفسي بالفعل أقفز من فوق كرسي ، وهو يفتح الباب لها؛ لتدخل نورهان ، وتصطدم عيناي بعينيها الساحرتين ، لم أشعر بالعيادة ولا الأرض من تحت قدمي ، ولا أعرف متى أنسحب كمال وأنا أدعوها للجلوس .. دقائق وعيناي لا تريان إلا عينيها ، بلعت ريقي عدة مرات ، غصت بكلي داخل عينيها ، كان الإرهاق واضحا عليها ، وكانت هناك نظرة حزينة مكسورة تطل من خلف العينين ، هربت الكلمات من بين شفتي ، لكن في النهاية وجدت الحديث بيننا يجري كمياه شلال هادر ، يدي تقترب من يديها وتحتضنهما ، تبدو الدموع الحبيسة تأخذ طريقها في وجنيها ، أمد لها منديلا فتتلقاه في هدوء ، تجفف العبرات المنسابة من عينيها اللوزتين ، أي جحيما فتحته هاتان العينان في وجداني ، لا أعرف كم مضى من الوقت وهي تحكي ، وتحكي وأنا أستمع ولا أستمع ، أغوص حولها تبتلعني بحور شفتيها ، وأعود إلى شط وجهها ، أتأمل كل تقاسيم الوجه ، أكاد ألتهم الكلمات التي تفر من شفتيها ... أحاول أن أبدو متفهما ومستمعا جيدا، انتهت من كلامها، فبدت القصة أمامي غريبة.
أبوها.. ذلك العملاق الاقتصادي المعروف الذي يرهبه الجميع يعيش في حالة اكتئاب مزمن ، اكتئاب حاد ومدمر منذ وفاة أخيها الوحيد ، حياته كلها توقفت منذ هذا اليوم ، أنها لا تدري كيف تستطيع أن تساعده .. ولا تعرف كيف قد يكون الطب النفسي مساعدا له في هذه الحالة، هي أيضا حياتها منذ وفاة أخيها ليست على ما يرام، البيت كله أصابته الشيخوخة فجأة..
الموت الذي ضرب أرجاء فيلا أبيها مختار السويفى فقوضها وجعلهم شتات .. كل منهم اعتزل عن الآخر تقريبا ، وكأنما كان الأخ هو بؤرة الالتقاء بين أفراد الأسرة ..
حكت الكثير يومها ، وبرغم الحزن الذي ينبض في كل كلمة خرجت من بين شفتي نورهان ، لكنني كنت سعيدًا للغاية ، ربما تفكيرها في ّ ، وربما إحساسها بأنها تحتاجني في هذه الفترة من حياتها ، لا أعرف تحديدًا كيف شعرت بالسعادة البالغة مع كل هذا التشاؤم في كلماتها .. وقتها طلبت منها أن تحدد لي مقابلة مع والدها ، قالت إنه قد يرفض ، من المستحيل إقناع شخص بحجم مختار السويفي بالطب النفسي أو حاجته إلى هذا العلاج ، جاءت ضربتي وقتها مزلزلة لكيانها كله ، ودموعها راحت تنسال كشلال هادر ، لا أعرف كيف وجدت نفسي فوق رأسها وأنا أطلب منها أن تحدد الميعاد على أنني شاب يطلبها للزواج ، لا أعرف كيف أفسر نظرتها حينئذ ، ربما كانت نظرة متفهمة ، متعجبة ، لا تعرف ما أطلبه هل هو حقيقي أم مجرد حجة لأدخل بها البيت ... لم تكن تدرى وقتها أين الخيال وأين الحقيقة في كلامي ؟
ولكن عندما تأكدت أني طلبي حقيقي مائة بالمائة ، كانت عيناها تنطقان بآلاف الكلمات ، ويداي تحتضنان يديها في شوق لا نهائي ....
-" أتفضل يا أستاذ وصلنا "
قالها السائق بحدة غير مبررة .. نظر للخارج فاصطدمت عيناي بالعمارة ...
نزلت، وأخذت طريقي إلى الداخل ومع كل درج سلم،كانت الذكريات تتكاثر على حواف شط عقلي وأغرق فيها ، وذكرى نظرة غريبة تضرب عقلي في عنف ..
نظرة تقتحم كياني وتشلني ، نظرة مختار السويفي لي !!
مددت يدي بالمفتاح ألجه في ثقب الباب ، فتحت الباب ودخلت .
هناك طقس من الحزن يسيطر على البيت .. اتجهت للصالة لتصطدم عيناي تقريبا بنفس نظرة السويفي القديمة ، ولكنها هذه المرة من توفيق عم زوجتي ... فجأة شعرت بأن الدنيا تختفي من أمامي .. وأنا أستند على جدران الشقة التي أشعر أنها تتماوج تحت يدي ، قبل أن اسمع صوت نورهان صارخًا ، وأنا أسقط في غيبوبتي ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل