الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقطة ومن أول السطر

سها السباعي

2012 / 11 / 7
الادب والفن


عبارةٌ معروفةٌ لنا جميعًا، من تعرضوا لحصة "الإملاء" الرهيبة في المدرسة الابتدائية، تلك الحصة التي كانت تفضح ضعفنا اللغوي وجهلنا بكيفية رسم الكلمات وربما بمعانيها. ولصغر سني ، ولضحالة معرفتي باللغة بالفعل في الصف الرابع الابتدائيٍ، وربما لإهمال معلمة اللغة العربية للأمر وانعدام تقديرها لأهميته، لم أكن أعرف وقتها أن "نقطة ومن أول السطر" تعني بداية فقرة جديدة، ولم أكن أعرف ما هي الفقرة، ما هو معناها ولماذا نبدأ فقرةً جديدة. وكل ما كان يجب عليّ فعله عندما أسمع هذه العبارة هو أن ألمس السطر الحالي بسن القلم لمسةً واحدة، ثم أهبط إلى السطر الذي يليه. كانت النقطة بالنسبة لي وسيلةً متوحشةً برغم ضعفها وضآلة حجمها لكسر السطر الذي تم كتابته، وإهدار المساحة المتبقية الفارغة من سطر الكراسة الذي كنت أكتب عليه بلا طائل. لقد أرغمت النقطة السطر على الانتهاء، وتركته وراءها واستقبلت فقرةً جديدةً مبدوءةً بسطرٍ جديد، لتجذب إليها الاهتمام، لموضوعها المختلف ولو قليلاً عن الفقرة السابقة. أما ذلك السطر المهجور، المنقوص حجماً لا معنى، لم يعد أحد يلتفت إليه.

لذلك كنت أحب الفاصلة أكثر، إنها لا ترغم جملة على الانتهاء، بل تربطها بالجمل التي تليها بروابط لا تنفصل ، بتسلسل المعنى، وتتابع الأفكار، وانسجام الكينونة، ووحدة الفكرة.

الفاصلة تفصل ظاهريًّا، فتتيح للقارئ بعينيه أن يرمش جفنه، وتسمح للقارئ بلسانه على مسمع من نفسه أو آخرين أن يتوقف في سكتة لطيفة فيحلو الإلقاء، لكنها أبدًا لا تشتت شمل الجمل وتفرقها، لا تباعد بينها ولا تغربها. وفهمتُ فيما بعد، أن النقطة هي إذْنٌ لبداية الكتابة عن فكرة جديدة، لكنها مرتبطةٌ بما سبق، إضافةٌ مثريةٌ للموضوع في إطار وحدته وتكامله.

من المفترض عند وضع النقطة والانتقال إلى سطر جديد، أن يصاحبك هذا التجديد في كل كلمةٍ تخطها على هذا السطر الجديد؛ في المعنى، في نطقك لها، في رسم الخط. أما أن تنتقل كما أنت، بلا تغييرٍ ولا تطويرٍ لإدراكك لمعنى الكلمات، وبلا معالجةٍ لثأثأتك وتلعثمك في نطقها، أو حتى بلا تحسينٍ أو تجميلٍ لخطك الرديء، فأنت بهذا لم تحقق شيئًا يذكر؛ بل على العكس، فقد خسرت التكاليف والوقت الذي استغرقه انتقالك، وقاسيت من اغترابك عن نفسك التي عرفتها في مكانها المعتاد الذي تعايشت معه.

أنت الآن مضطر للتعايش مع جيران آخرين على هذا السطر الجديد، طبائع وأهواء متباينة، مشاهد متنوعة، أصوات ونداءات دخيلة. تعددت المصاعب التي يجب أن تواجهها في مستقرك الجديد، واستُحدِثَتْ مصاعب أخرى لم تحسب لها حسابًا، واكتشفت متأخرًا أن انتقالك لم يضف إلى رصيدك شيئًا، بل أنك ستضطر مجددًا إلى الاستدانة من مخزون عواطفك واحتمالك الذي قارب على النفاد وأصبحت مهددًا بالسحب على المكشوف ومن ثمَّ الإفلاس.

يصبح أمامك أحد حلَّيْن، إما أن تتماهى وتتكيف مع مكانك الجديد كما تكيفت من قبل مع القديم، وتتعايش بأيّ طريقةٍ كانت، وعلى أي شكلٍ سيفرضه عليك من سبقوك إليه وسحبوك معهم بكامل إرادتك الحرة، عندما أيقنت أن الانتقال أفضل. وإما أن تعود من حيث أتيت، فتستعيد سلامك الداخلي الذي بنيته حجرًا حجرًا على أساسٍ متين من الاعتياد.

تختار الحل الأخير لأنه يبدو لك أسهل، فتسرع إلى سطرك القديم، لتجد أن البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل، وتجد حكيمًا ما يخبرك أنك يجب أن تتحمل مسؤولية قراراتك.

ولأنك لا تجد في نفسك القدرة على التوجه مرة أخرى لسطرك الجديد، تبقى واقفًا على النقطة التي كانت السبب في هذا الانتقال الدرامي؛ فنفسك تعافُ ما مضى، وترفضُ ما حدث، فقد أدركتَ متأخرًا أنك لم تكن في الحالتين سوى قلمٍ منكسرٍ بيد من يكتبون السطور، وتشعر أن النقطة الصغيرة أكثر حنانًا وتفهمًا من السطرين الحادَّيْن كالسيف، الذي يريد كل منهما أن يرتوي بدماء إذعانك لشروطهما القاسية.

وهكذا، تظل حبيس النقطة، اخترت موقعك، وتمسكت به، ورفضت التحرك. والسطور أعلاه تنظر لك بسخرية، والسطور أدناه تتوالى وتتعدد وتمضي حتى نهاية الكراسة بلا اكتراث لوقفتك المتجمدة. وتقف أنت عاجزًا عن التصرف في حدود مساحتك المتناهية الصغر، مًمِنَّيًا نفسك بفرصة أفضل، في كراسةٍ أخرى.

فقط همسةً في أذنك: تذكر أن الكلمات والسطور، ليست إلا نقاطًا صغيرة تجمعت وتلاصقت معًا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذة سها السباعي المحترمة
ليندا كبرييل ( 2012 / 11 / 7 - 09:28 )
موضوع جميل جداً . على الإنسان أن يتعلم التعايش مع الآخر من النقطة والفاصلة
كل شيء في هذا الوجود بدأ بنقطة متناهية في الصغر
والنقاط تجمعت معاً وشكلت:
إما لغة جميلة
أو جماعة بشرية
أو عمل ما بدأ بخطوة صغيرة للإنسان فأصبح خطوة كبيرة للإنسانية كما قال أول رائد فضاء وضع قدمه على سطح القمر
النقاط التي تجمعت وتلاصقت لتشكل السطور يحكمها قانون من أبدعها، وقانونك جميل
شكراً مع احترامي


2 - لغتنا إحدى واجهات ذواتنا
سها السباعي ( 2012 / 11 / 7 - 11:15 )
عزيزتي الأستاذة ليندا كبريل
أشكر قراءتكِ ، سعيدة بوصلول مغزى كلماتي إليكِ، أنها النقطة التي قد نختار أن نتقوقع فوقها مدى الحياة كأسلوب يحاكي أساليب عقاب آلهة الأوليمب ، أو أن نتخذ منها نقطة انطلاق لقفزة تبهرنا نحن أولاً قبل أن تبهر العالم، على مستوى اللغة، أو الشخص أو الشعوب. ليتنا فقط نتوقف برهةً وجيزةً نعيد فيها حساباتنا ثم نتحرك قبل أن يدهمنا التجمد فوق النقطة.
دمتِ بود


3 - مريم نجمه
الكاتبة سها السباعي المحترمة ( 2012 / 11 / 7 - 11:48 )
فكرة جميلة والتنقل بين النقطة والفاصلة كان حوار وافكاراً موفقة , رسمت سير الإنسان ومواقفه من الحياة والأحداث الجوهرية بدراية وتمكن مبدع سيدة سها شكراً لموضوعك الجديد .. مع التحية .
محبة


4 - ما بين النقطة والفاصلة مساحة للتفكير
سها السباعي ( 2012 / 11 / 8 - 09:56 )
الأستاذة مريم نجمة المحترمة
لا غنى عن أحدهما، القضية في اختيار مكانهما الممناسب ووقتهما المناسب، الخوف كل الخوف من توقف الحراك وتجمد المواقف. شكراًا لقراءتك. دمتِ بود.


5 - الفاصلة و النقطة الفقرة
جمشيد ابراهيم ( 2012 / 11 / 8 - 21:13 )
و لكن ياعزيزتي سها تقتصد العربية كثيرا باستعمال النقطة لدرجة احس و كأنما لا استطيع التنفس فأبدأ بنسيان بدايتي لان النهاية لا تأتي و لكن الاسوء هو ان الكاتب لربما لم يسمع بمعجزة الفقرة فتجدين النص لا تسمح بالتنفس اطلاقا

لربما تعكس هذه الممارسات الخطية العقلية الرجالية الشرقية التي لا تستطيع الا ان تسكت فاصلة قصيرة واحدة فكيف استطيع الاصغاء و التفكيرلان الهمزة تحولت الى الوصلة
تحياتي و شكري لك و للعزيزة ليندا


6 - الفقرة إعجاز وتعجيز
سها السباعي ( 2012 / 11 / 9 - 11:07 )
الأستاذ جمشيد إبراهيم
تعدد الفقرات في النص إثراءٌ له، وهو لا يحدث إلا إذا كان الكاتب ثريًّا بدوره ، فينفق بكرم على نصه من مخزون أفكار مؤكدة وموسعة ومحيطة كبحر زاخر، يبحر القارئ فيه ويرسو عند كل فقرة كما يرسو على ميناء، يبيع ويشتري، وتتعدد أرباحه الفكرية. تتعدد النقاط بتعدد الفقرات ، فنتنفس، ونهضم الفقرة السابقة، ونستعد للتي تليها. وما ينطبق على النصوص والفقرات، يمكن أن ينطبق على حيوات الأفراد والشعوب ومراحلها المتعاقبة. نرجو تحقق الإعجاز الإنساني، بدلاً من تعجيز الإنسان لنفسه إراديَأ.
شكرًا لقراءتك. تحياتي.

اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف