الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الخلفية التاريخية لمفهوم الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي ومخاطر عدم التقنين
هادي محمود
2005 / 3 / 8ملف - بمناسبة 8 مارس/ اذار 2005 يوم المرأة العالمي
استهلال تاريخي
تناولت الشريعة الإسلامية مواضيع الأحوال الشخصية (الزواج وانحلاله ـ الطلاق والتفريق والخلع ـ ونتائجهما، الولاية والوصاية، الإرث) في أحكام عامة مبثوثة أساساً في القرآن ، بالدرجة الأولى ، الذي يعتبر المصدر الأول والأساسي من مصادر الفقه ، وتليه بالدرجة الثانية السنة النبوية أي ما ورد عن النبي من قول و فعل و تقرير. وقد جرى تدوين الحديث بعد أن أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز(62 ـ101هـ) بالشروع في تدوينه.[i]
ولكن جرى جمع الحديث في عصر أتباع أتباع التابعين من عاصروا البخاري المتوفي 256 هـ. أي أن كتب الحديث الستة( البخاري ومسلم المتوفي261 هـ والترمذي 275هـ وأبي داود 275هـ وابن ماجة والنسائي 307هـ.) قد جرى جمعها بعد وفاة النبي بثلاثة قرون. [ii]
والجدير بالذكر أن الآيات القرآنية المتعلقة بالأحوال الشخصية والتي تأتي ضمن نطاق آيات الأحكام تصل الى نحو 70 آية، من أصل ستة آلاف آية في القرآن عموماً. [iii]
في عهد النبي كانت سلطة التشريع والقضاء والفتيا في كل ما كان يواجه المسلمين من قضايا يومية وحياتية تتعلق بالمنازعات المتعلقة بالحقوق فيما بينهم، بما في ذلك قضايا الأحوال الشخصية، بيد النبي نفسه لكونه المرجع في ذلك.
لم يترك النبي لأصحابه فقهاً مدوناً، وإنما ترك جملةً من الأصول والقواعد الكلية، ومن الأحكام الجزئية والأقضية، في القرآن الذي جرى جمعه وتدوينه في مصحف واحد في عهد أبي بكر بعد معركة اليمامة التي قتل فيها عدد كبير من الصحابة من حفظة القرآن.
وبعد أن امتد سلطان المسلمين الى خارج الجزيرة العربية، وجد المسلمون في تلك المجتمعات الجديدة التي استوطنوا فيها ثقافة جديدة، ووقائع وعادات جديدة في مختلف مجالات المعاملات، وبشكل لم تستوعبها آيات الأحكام الجزئية الواردة في القرآن. ولكون النصوص متناهية وحاجات الناس أمور غير متناهية، كان لابد لفقهاء المسلمين من أن يلجأوا الى الأحكام العامة وما أطلقوا عليه مقاصد الشريعة الإسلامية لإيجاد أجوبة شافية لتلك المستجدات. وبالتالي فإن المصادر الأخرى للشريعة الإسلامية والتي تناولتها أصول الفقه الإسلامي كالاجتهاد والإجماع والقياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع لا تشكل سوى مجهود بشري ضمن سياق المنظومة الفكرية السائدة في تلك المجتمعات.
وعلى هذا الأساس وعلى أثر الحاجات الضرورية التي كانت تظهر تباعاً بصورة تدريجية دون أن يكون لها حكم شرعي في القرآن أو في السنة، تطور الفقه الإسلامي بما في ذلك نطاق الأحوال الشخصية (الأنكحة والمواريث). ولم يكن هذا التطور في مجال الحالات التي لم يجد الفقهاء حكماً لها في المصدرين الرئيسيين فقط، ففي ذروة تطور الفقه الإسلامي وعلى ضوء المستجدات الحياتية الجديدة وجد التنوع الفقهي في فهم النصوص المقدسة في القرآن وفي السنة، وذلك انطلاقاً من التعامل مع النص المقدس كمعطى لغوي، إضافة الى ظهور الدراسات في مجال الحديث وتقسيمه الى المصنفات والآثار.
لقد أوجدت هذه المستجدات تنوعاً في الفتاوى المتعلقة بالحالة أو القضية الواحدة. وتتابع الأمر الى التنوع في أحكام القضاء، وخاصةً بعد ظهور المدارس الفقهية (مدرسة آهل الرأي في العراق والتي تزعمها أبو حنيفة النعمان 80 ـ 150 هـ ، ومدرسة أهل الحديث في الحجاز، وتزعمها الإمام مالك 93 ـ 179 هـ)، أعقبها تبلور المذاهب الفقهية ( الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية، الشيعة الزيدية، الجعفرية الإثني عشرية، الإباضية).
فضلاً عن مذاهب أخرى مندرسة.حيث إن من المذاهب ما اندرس بموت أصحابها أو بعد موتهم بقليل أو كثير. ومن هذه المذاهب مذهب الإمام الأوزاعي 88 ـ 157 هـ، وسفيان الثوري 97 ـ 161 هـ ، والليث بن سعد المتوفي في مصر عام 175هـ وداود الظاهري صاحب المذهب الظاهري 200 ـ 270 هـ.[iv]
وفي ظل هذا التنوع الفقهي من جهة وتبلور الإمبراطورية الإسلامية وحاجاتها كدولة، وجدت الحاجة لتقنين الأحكام الشرعية لكي يتقيد القضاء الإسلامي بأحكام مقننة معينة لكي يعلم الناس سلفاً ما تخضع له معاملاتهم وعقودهم من الأحكام، فيكونوا على بصيرة من صحتها وفسادها.
من أوائل الذين أدركوا هذه الحاجة ابن المقفع الذي أشار على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، أن يوحد ما يقضى به بين الناس في قانون يدونه ويختاره من آراء القضاة المجتهدين والفقهاء في ذلك العصر بعد تمحيصها والترجيح بينها.
بيَّن ابن المقفع في رسالته المسماة "رسالة الصحابة" ـ ( الرسالة منشورة في كتاب "جمهرة رسائل العرب" للأستاذ أحمد زكي صفوة، ج3 رقم الرسالة 26) ـ حال اختلاف القضاة المجتهدين، وكيف إن الأمر الواحد يقضي فيه أحد القضاة المجتهدين برأي، ويقضي غيره في نظيره بخلافه، في الأموال والأنكحة وغيرها. وقال في رسالته:
" فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة، فترفع إليه في كتاب، ويرفع ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً"
وقد أراد أبو جعفر المنصور ومن بعده الرشيد أن يختار مذهب الأمام مالك وكتابه " الموطأ" ـ جمع فيه أحاديث مرسلة ومتصلة وفتاوي الصحابة وأقضيتهم وأقوال التابعين وآراءه الفقهية قياساً على الآثارـ قانوناَ قضائياً للدولة العباسية فنهاهما مالك من ذلك وقال:
" إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب"[v]
وقد كان الإمام مالك محقاً في هذا الرأي. ولكن رأي إبن المقفع وما أشار به على الخليفة العباسي لم يكن منطلقاً من حمل الناس على مذهب معين لأي مجتهد كان. لقد كان رأي ابن المقفع تأسيساً لفكرة دولة القانون ، الممصطلح الذي يجرى الحديث عنه في الأدبيات السياسية والقانونية المعاصرة، واستند في رسالته على فكرة الاستفادة من ثمرات اختلاف الاجتهادات.
وبدلاً من تدوين قانون للقضاء على أساس البحث عن السهل اليسير المعتمد على ثمرات اختلاف اجتهادات الفقهاء، انصرف الكثيرون الى تدوين فقه المذاهب لتسهيل تناولها بين الناس، وشاعت كتب الفتاوى وانصرف الناس الى التقليد، وتراجع تطور الفقه الإسلامي وحيويته في التعامل مع المستجدات. وساعدت دولة الخلافة في الوصول الى هذه الحالة. فقد آثر الخلفاء إختيار القضاة من المقلدين ليقيدوهم بمذهب معين يفضله الخليفة بناءً على اعتبارات سياسية تفرضها أولويات حماية كرسي الحكم والمشروعية السياسية "الشرعية" التي منحها فقهاء مذهب معين للحاكم. وبدأ القضاة يحكمون على مذهب معين.
لقد عمل الحكام على تحويل الولاء الاجتماعي الى ولاءات خاصة. وفي ظل هذه الأوضاع تأخر الفقه وجرى تداول أحاديث التفضيل والتخيير والحديث عن الفرقة الناجية. واستنزفت عقول الناس في الغيبيات. وهكذا تكاملت المستلزمات الضرورية لتحويل المذهب الى طائفة.
فبينما كان الاختلاف المذهبي أقرب الى التنوع الفكري في التفسير الذي سلك طرقاً ومناهجَ متعددة، كظهور أهل الحديث وأهل الرأي وظهور مدارس علم الكلام والمذاهب الاعتقادية (المدارس الفلسفية)، ساعدت جميعها في تحريك المجتمع ووحدته وتجدده على أساس التسامح واللاإكراه ، أخلت الطائفية بالوحدة الاجتماعية وأدت الى إنقسام فئوي حاد صرف المجتمع لمصلحة الحكام والمستفيدين منهم إلى اهتمامات هامشية ونزعات تصد التقدم. وقد تأثر مجال الأحوال الشخصية بهذه التحولات. فمع نشوء دول الطوائف تغيرت المذاهب الرسمية بتغير مذهب الحكام واختياراتهم. وتحول الإفتاء إلي وظيفة سياسية رسمية وهيمن الفقه الطائفي الذي يعني الانحياز التقليدي لطائفة معينة ولصالح التحيزات العصبوية التي يكتسبها الأفراد بالوراثة البحتة وتنتقل من جيل لآخر بزخم التتابع المطلق. وبالمقابل نشأ التشدد من قبل الأضداد الطائفية للحيلولة دون تفككها.
ويرى الكثير من الباحثين بأن مفردات التحول المذهبي الى الطائفية قد تكاملت بانتهاء حكم المتوكل. حيث قتل عام 248 هـ.[vi]
كان تأثير هذه التحولات على بنية المجتمع الإسلامي كبيراً، وخاصة في مجال الأحوال الشخصية. فتقيد القضاة بالتقليد الطائفي أدى الى تضييق الخناق والعسر على الناس. وتنوعت أحكام القضاء لا على أساس اختلاف الأوضاع الاجتماعية في الأمصار الاسلامية، بل على أساس الانتماء الطائفي المسبق. وانغلقت الطوائف على نفسها في مجال الزيجات، فانعزلت كل طائفة في علاقاتها الاجتماعية.
ما هو مدني وما هو ديني
المساحة الموجودة بين وظيفة القاضي ووظيفة المفتي
الزواج في الإسلام عقد مدني كسائر العقود. وينعقد باتفاق الإرادتين وحضور شاهدين دون أن يكون لرجل الدين أو المرجع الديني دور في ذلك. فالإسلام رفض وجود سلطة لرجال الدين، فلا حاجة للوساطة بين الإنسان وربه، والأكثر من ذلك حدد القرآن مهمة النبي بالتبليغ، { فإنما عليك البلاغ}...{ وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد}.
هذا الطابع المدني متوفر في كل العقود وفي كافة أحكام المعاملات. وتعتمد مسألة القضاء والفصل في المنازعات الناشئة عن هذه الحقوق والعقود على الظاهر والقرائن. أما الجانب الديني في مثل هذه العقود والمعاملات والحقوق الناشئة عنها، فيتعلق بفكرة الحلال والحرام الناشئة في البيئة الإسلامية الأولى ليكون رقيباً باطنياً ونفسياً، ولتراقب تصرفات الإنسان.
فصلت الشريعة الإسلامية بصورة عملية الجانب الدنيوي المدني عن الجانب الديني، ونظمت أمور المجتمع على أساس الجانب الدنيوي المتجسد بالأفعال والعقود وكيفية اثباتها حسب المعطيات القضائية. ونجد في التطبيقات التاريخية للمجتمعات الإسلامية الفصل الواضح بين حكم القضاء الذي يعتمد على الاعتبارات القضائية القرائنية وبين حكم الدين الذي يعتمد على الاعتبارات الاعتقادية والأخلاقية ضمن التشكيلة الاجتماعية السائدة. وعليه قد يكون هناك خلاف بين حكم القضاء الذي يحاكم العمل أو الحق حسب الظاهر، وبين حكم الدين الذي يحكم على أساس ما في النفوس والدواخل، وعلى أساس الاعتبارات الدينية. فلو عجز الدائن عن إثبات دين حقيقي جحده المدين أمام القضاء، لا يستطيع أخذ حقه عنوة ولا يحكم القضاء لصالحه لأنه فشل في إثبات حقه، في حين يقر له الاعتبار الديني أن يأخذ منه قدر حقه دون إذن المدين أو دون علمه. ولو وصل مثل هذا الأمر للقضاء لا يقر للدائن فعلته، بل ويحاسبه.
وارتباطاً بفكرة التميز بين الجانب المدني والجانب الديني، نجد أن السلطة الإسلامية وفي العصور المتأخرة ميزت بين وظيفة القاضي الذي يعتمد على الاعتبار القضائي للأعمال والأحكام، وبين وظيفة المفتي الذي يعتمد الاعتبار الديني.
بدايات التقنين في مجال الأحوال الشخصية
لم تبدأ حركة التقنين أولاً في مجال الأحوال الشخصية، بل بدأت هذه الحركة ، التقنين بالمعنى المعاصر في أواخر العهد العثماني في مجال القانون المدني، بصدور مجلة الأحكام العدلية عام 1293 هـ، أي قبل 132 سنة هجرية.
وأصبحت المجلة قانوناً مدنياً عاماً تضم مجال المعاملات المدنية والتجارية ومفردات القانون المدني(البيوع، الإجارة، الكفالة، الحوالة، الرهن، الهبة، الشركات، الوكالة) وغيرها منتخباً من الأحكام الفقهية الخاصة بالمعاملات للفقه الحنفي ، المذهب الرسمي للدولة العثمانية. ولا يعول على ما يخالفه من أحكام فقهية في حالة تواجد الحكم المطلوب في المجلة، وذلك لاقتران صدور المجلة بالأمر السلطاني. ويرجع القضاة الى نصوص الفقه فيما لا نص عليه. وقد رتبت أحكامها في صورة مواد مختصرة يقتصر الحكم فيها على رأي واحد.[vii]
علماً إن الدولة العثمانية سبق وأن كانت لها تجارب تشريعية، حيث سنُّ السلطان سليمان القانوني (القانون نامه) الذي ضم أحكاما في العقوبات التعزيرية وفي حقوق الأراضي وتحديد الأراضي الأميرية والخراج، وكذلك في المواضيع العسكرية والإدارية.كما جرى تأسيس السجلات الشرعية التي ضمت قرارات المحاكم الصادرة من المحاكم الشرعية.
وفيما يخص مجلة الأحكام العدلية فقد رتبت مباحثها على الكتب والأبواب الفقهية المعهودة، ولكنها فصلت الأحكام بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة لكي يسهل الرجوع اليها والإحالة عليها. وكان مجموعها 1851 مادةً.
وقد سبق إصدار هذه المجلة تأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية، التي تمتعت باختصاص النظر في أنواع من الدعاوى التي كانت ترجع الى المحاكم الشرعية سابقاً.
وأتى اصدار مجلة الأحكام العدلية ضمن حركة اصلاح الوضع المتدهور في الدولة العثمانية والمسعى الذي بذل من أجل تحديث الدولة، وخاصة بعد اتساع الاتصالات والتجارة والعلاقات الاقتصادية بين الدولة العثمانية والدول الأوربية التي شهدت تطورات سريعة وكبيرة، واطلاع كبار موظفي الدولة العثمانية على التجربة الأوروبية، وحاجة الدولة العثمانية الى ربط التصرفات والعقود العقارية بنظم شكلية وإجراءات منها تنظيم السجل العقاري، لكي تكون تحت مراقبة الحكومة لأغراض مالية وحقوقية وسياسية.
ومن الأسباب الأخرى لإصدار المجلة ضمن وجهة الإصلاح السياسي والإداري في الدولة العثمانية، هي أن أحكام الفقه الإسلامي منثورة في الكتب الفقهية، وقد تتواجد في غير أماكن بحثها. كما إن الكتب الفقهية متفاوتة في استيعابها للأحكام العملية، ومتفاوتة في لغتها. إضافةً الى وجود آراء فقهية متعارضة في الحكم على القضية الواحدة. كما إن معرفة القوي الراجح من الضعيف المرجوح مسألة نسبية تحتاج الى قدرة ومرونة فقهية يصعب توفرها عند الكثيرين بنفس الدرجة. وقد يرجح مؤلف ما لا يرجحه آخر، مما يؤدي إلى وضع القضاة في بحر من الفتاوى والتخريجات وأقوال مجتهدي المذهب بترجيحات متباينة.
لم تبدأ حركة التقنين أولاً في مجال الأحوال الشخصية. ولكن جملةً من الاعتبارات المذكورة أعلاه والتي أدت الى ظهور مجلة الأحكام العدلية، يمكن أن تمس بشكل أو آخر مجال الأنكحة والمواريث، وبالأخص المبررات المتعلقة بوجود تعدد الحكم الشرعي في قضية واحدة من قضايا الأنكحة والمواريث.
ظهر مصطلح الأحوال الشخصية في أواخر القرن التاسع عشر حيث ورد هذا المصطلح في كتاب محمد قدري باشا المعروف "بالأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية". وقد ورد في مقدمته أنه "يشتمل على الأحكام المختصة بذات الإنسان من حين نشأته إلى حين منيته وتقسيم ميراثه بين ورثته". وللكاتب المذكور كتب أخرى في هذا المجال، منها في الوقف وفي أحكام المعاملات. وسميّ هذا "مرشد الحيران لمعرفة أحوال الإنسان" جعله على أحكام عامة، وأخرى خاصة، وعرضه في مواد بلغت "1045" مادة.[viii]
ويبدو أن الاختيار على هذا المصطلح كان نتيجة تمكين الطوائف غير الإسلامية في ظل الدولة العثمانية من الاحتكام لرؤساء دياناتهم أو لمحاكمهم القنصلية في المسائل المتعلقة بأشخاصهم دون سواها فضلاً عن بداية حركة تدوين القوانين وارتباط هذه الحركة بالفكر القانوني الغربي واقتباس بعض المصطلحات القانونية منه.
وفي الوقت الذي بدأ فيه هذا المفهوم في التبلور والوضوح، بادر العثمانيون بإصدار قانون حقوق العائلة سنة 1917 مقتبسين هذا المصطلح المستحدث أيضاً من الغرب.
لكن ما يميز قانون الأسرة العثماني في منهجيته عن مجلة الأحكام العدلية أنه لم يعتمد الفقه الحنفي، بل أخذ بعض الأحكام من المذاهب الثلاثة الأخرى كاعتبار عقد الزواج صحيحاً والشرط معتبراً إذا اشترطت المرأة في العقد إلاّ يتزوج عليها. و أخذ القانون المذكور بالتفريق الإجباري القضائي بين الزوجين ومكُّنت المرأة من التخلص من زوج السوء بطلبها التفريق. وقد أخذ من مذهب مالك إطلاق حرية الزواج لزوجة المفقود بعد أربع سنين من فقدانه، بينما يقضي المذهب الحنفي بانتظار وفاة جميع أقرانه في العمر، فتبقى زوجة المفقود معلقة حتى شيخوختها.[ix]
ولم تكن مسألة أخذ الأحكام الفقهية في قانون الأسرة العثماني من المذاهب المخالفة للمذهب الحنفي مسألةً إرادوية ، بل كانت هذه الخطوة حاجةً موضوعية بسبب الضيق الموجود في كل مذهب فردي من المذاهب الإسلامية إذا ما أخذت أحكامه على حدة، حتى في حالة تثبيت الاجتهاد في علم أصول الفقه للمذهب المعين. إضافة الى أن خطوة التقنين خطوة ضرورية لمعرفة حقوق المواطن الفرد بعد تثبيت الحدود القومية للدول المعاصرة ونشوء مفهوم الجنسية وسريان أحكام القانون من حيث المكان.
وإذا أخذنا تجربة البلدان العربية فنجد أن مصر في زمن محمد علي باشا 1805ـ 1849 م، الذي تزامن حكمه مع الفترات الأخيرة لحكم الإمبراطورية العثمانية، اقتصر أمر القضاء فيه على المذهب الحنفي، بعد أن تغير هذا الأمر طوال تاريخ مصر الإسلامية حسب مذهب الحكام.
وقد جمع محمد علي باشا علماء الأزهر وقال لهم: لا أريد أن أحكم بشيء حرمه الله، لكن اجتمعوا وضعوا لي قانوناً. وقد فشل علماء الأزهر آنذاك وقالوا ما وصلنا الى شيء.[x]
أوائل عام 1915 شكلت في مصر لجنة من كبار العلماء من المذاهب الأربعة إلى تقنين قانون للأسرة يستنبط من المذاهب الأربعة ويختار منها، بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون صالحاً وفقاً لروح العصر. إلاُّ أن اللجنة لم تفلح في الأمر رغم إعدادها لائحةً بهذا الشأن بسبب الانتقادات الموجهة للمشروع بعد عرضه على رجال القضاة والمحاماة والمتعاملين بالمسائل الفقهية.[xi]
إلاَّ أن جزءاً قليلاً من اللائحة ظهر في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها الصادر بهما الأمران العاليان المؤرخان 10 ديسمبر 1920 وهو خاص بأحكام النفقات وبعض مسائل الأحوال الشخصية 1920. وجاء الكثير من مواد هذا القانون وفق المذهب المالكي متأثراً بقانون الأسرة العثماني.
وفي عام 1923 صدر القانون رقم 56 حدد بموجبه سن الزواج حسب المادتين اللتين تكون القانون منهما، ومضمونهما أنه لا تسمع دعوى الزوجة إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة، وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة، وإنه لا تجوز مباشرةً عقد زواج، ولا المصادقة على زواج أسند إلى زمن ماض ما لم تكن سن الزوجين في هذا السن المحدد.[xii]
وفي عام 1926 وفي ذروة تطور حركة الإصلاح الديني تألفت لجنة من المختصين بالمسائل الفقهية من تلامذة الشيخ محمد عبده وضعت اللجنة مقترحات تجازوت المذاهب الأربعة الى آراء الفقهاء عامة مما هو نافع للأسرة. وارتقى عمل اللجنة الى الاستنباط من القرآن والسنة حتى ولو ناقض ذلك ما قاله السابقون.
وقيَّدت هذه اللجنة رغبة الرجل في تعدد الزوجات واشترطت لتزوج الرجل من أخرى ألاّ يعقد الزواج أو يسجله إلاّ بإذن القاضي الشرعي، ومنع القاضي من الإذن لغير القادر على القيام بحسن العشرة، والإنفاق على أكثر ممن في عصمته، ومن تجب نفقتهم عليه من أصوله وفروعه. كما أخذت اللائحة المقترحة من هذه اللجنة بمبدأ الالتزام بالشروط التي تفرضها الزوجة على الزوج عند إبرام العقد، كالإشتراط بألاّ يتزوج عليها.
وأعطت اللائحة الحق للزوجة في طلب التفريق بسبب إضرار الزوج بها بما لا يستطاع معه دوام العشرة. وكذلك طلب الزوجة الطلاق لو غاب زوجها سنة فأكثر، ولو ترك مالاً تستطيع الإنفاق منه.
على الرغم من عدم قبول اللائحة في ذلك العام، فقد صدر القانون رقم 25 لسنة 1929 واقتصر القانون على ما جاء بالمذاهب الأربعة، وترك ما لم يمكن في هذا النطاق، إلاّ في الطلاق بلفظ الثلاث والالزام بكل شرط تشترطه الزوجة.[xiii]
وجرى تنظيم أحكام الميراث بالقانون رقم 77 لسنة 1943، وأحكام الوصية بالقانون رقم 71 لسنة 1946. ومنذ عام 1929 لم يتم تغيير قانون الأحوال الشخصية، وإن كان قد أدخلت عليه الكثير من التعديلات آخرها القانون رقم 100 لسنة 1985.
وجرت تعديلات فى قانون إجراءات التقاضى فى مسائل الأحوال الشخصية بالقانون رقم 1 لسنة 2000، وإن كان القانون لم يلب طموح الراغبين فى تعديل القوانين المنظمة للعلاقات الأسرية، حتى تصبح أكثر عدلا وتؤكد قيم المودة والرحمة، التى أكد عليها القرآن الكريم، إلا أنه استحدث بعض النقاط تتعلق بالخلع والطلاق من الزواج العرفي، واستحداث نظام محكمة الأسرة.[xiv]
وفي سوريا صدر أول قانون عام للأحوال الشخصية عام 1953. ويتضمن القانون المذكور الأبواب التالية: الزواج، الأهلية، الوصية، والميراث. وقد استمد القانون المذكور أحكامه من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه، إضافة الى الأحكام الإصلاحية التي أخذ بها قانون الأسرة العثماني والقوانين المصرية المتفرقة التي تناولت قضايا الأحوال الشخصية.[xv]
وفي العراق وبعد تأسيس الدولة العراقية، كانت المحاكم الشرعية ـ قبل أن يتغير اسمها الى محاكم الأحوال الشخصيةـ تعتمد المذهب الشخصي للمسلمين المتداعين، وتصدر قرارها وفقاً لما تنص عليه فتاوى ومقررات هذا المذهب، عبر العودة الى النصوص المدونة في الكتب الفقهية، والى الفتاوى في المسائل المختلف عليها، ويستعان في أغلب الأحيان بالمراجع الدينية لهذا المذهب، أو بالعودة الى قضاء المحاكم في البلاد الإسلامية.
كما كانت في محكمة التمييز هيئة تمييزية للجعفرية وهيئة تمييزية للسنة فيما يخص دعاوى الأحوال الشخصية، وهذا ينسحب على عمل المحاكم الشرعية التي تقضي وفقاً لمذهب المتداعيين، والتي تتحدد في المناطقية والجغرافية وتعمل على تكريس المذهبية واللجوء الى التحايل على المذاهب بين المتداعيين.
بعد ثورة الرابع عشر من تموز1958 ألفت وزارة العدل العراقية بتاريخ 7 شباط 1959 لجنةً لوضع لائحة الأحوال الشخصية استمدت مبادءها مما هو متفق عليه من أحكام الشريعة، وما هو مقبول من قوانين البلاد الإسلامية، وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق. واستطاعت اللجنة صياغة مشروع قانون للأحوال الشخصية والذي عرف بالقانون رقم 188 لسنة 1959. واشتمل القانون على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والولادة والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث.[xvi]
أخذ هذا القانون أحكامه من جميع المذاهب الإسلامية. وجرى تطبيق أحكامه دون النظر الى مذهب العراقي المسلم، حيث أن القانون المذكور يشكل حالة وسطية وشاملة يتم تطبيقها على عموم المسلمين العراقيين، والأجانب المسلمين في العراق، طبقاً لنص الفقرة ( 1 ) من المادة الثانية من القانون المذكور ونصه " تسري أحكام هذا القانون على العراقيين، الا ما استثني منهم بقانون خاص".
بينما تم العمل في قضايا الأحوال الشخصية للمسيحيين واليهود بموجب لوائحهم الخاصة، وفق دياناتهم. وتختص بالنظر في قضاياهم محاكم البداءة باعتبار انها محاكم المواد الشخصية التي تختص بالنظر في قضاياهم، وإصدار الأحكام وفقاً لذلك.
أما الصابئة المندائيون والأيزيديون فلا يشملهما اختصاص القانون، بحجة عدم وجود لوائح شخصية تخصهم، على الرغم من أن لكل منهما دينه الخاص ولوائحه الشخصية التي تصلح بأن يتم اعتمادها في الأحكام الشرعية كل وفق دينه المعترف به في العراق، إذا ما جرى الأخذ بمبدأ الاختصاص.
لقد أكدت لائحة الأسباب الموجبة لصدور قانون الأحوال الشخصية على حقيقة كون ما وجد " في تعدد مصادر القضاء واختلاف الأحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرة وحقوق الفرد غير مضمونة، فكان هذا دافعاً للتفكير بوضع قانون يجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها".
وفي الوقت نفسه أشارت الفقرة الثانية من المادة الأولى الى أنه " إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمةً لنصوص هذا القانون" وهذا يعني أن القانون المذكور لا يدعو الى التقيد بفقه مذهب معين، بل تجاوز ذلك الى الاستفادة من مبادئ الشريعة بشكل عام.
وقد راعى القانون المذكور وسطيته في مسألة تعدد الزوجات، فلم يمنعه كالتشريع التونسي ولم يقيده كالتشريع المغربي. فمنع الزواج بأكثر من واحدة إلاّ بإذن القاضي، واشترط لإعطاء الإذن ان تكون للزوج كفاية مالية لإعالة ما زاد على واحدة، وأن تكون هناك مصلحة مشروعة، ومنعت الزواج بأكثر من واحدة إذا خيف عدم العدل، وتركت ذلك لتقدير القاضي.[xvii]
ونجد هذه الوجهة في صياغته لأحكام الميراث حيث أن توحيد تلك الأحكام من جهة، وجعلها منسجمة مع الانتقال إلى الأراضي الأميرية التي شرعت منذ عهد الدولة العثمانية من جهة أخرى، أوقف التفاوت في انتقال الحقوق الى الوارثين، وقطع دابر التحايل على القوانين وقواعد الشريعة الاسلامية.
ولم يرق هذا الأمر لانقلابيي شباط عام 1963، فأصدروا التعديل رقم 11 لسنة 1963 لإيقاف العمل بالمواد المتعلقة بالمواريث، وتطبيق فقه المذاهب بدلاً منها. وجرى توحيد أحكام المواريث وإعادة الهيبة والاحترام لقانون الأحوال الشخصية بعد التعديل الثاني على القانون المذكور أواسط السبعينات، من خلال مساواة البنت للابن في حجبها ما يحجبه الإبن من إرث أبيها وأمها، وإيراد مواد خاصة بمنع الإكراه في الزواج واعتباره جريمةً يعاقب عليها القضاء، وتحديده مواد خاصة بالتفريق القضائي والحضانة بما يخدم مصلحة المرأة العراقية.
تعرض قانون الأحوال الشخصية الى عدد من التعديلات المجحفة بحق المرأة والعائلة العراقية عموماً، بالتزامن مع تصاعد وتائر الديكتاتورية والإرهاب بعد الثمانينات. وبعد انبثاق تجربة اقليم كردستان المحررة من الديكتاتورية، وافق البرلمان الكردستاني على جزء من المقترحات التي قدمتها المنظمات النسائية الكردستانية، من أجل تعديل القانون المذكور، وإعطائها صيغةً أكثر عصريةً، وبما ينسجم مع مفردات التحضر والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن الخطوات الجريئة التي اتخذها البرلمان الكردستاني هي رفضه وبإجماع الأصوات للقرار 137 الصادر عن مجلس الحكم العراقي والقاضي بإلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، حرصاً من البرلمان المذكور على الالتزام بمفهوم دولة القانون وحماية حقوق أفراد العائلة، ورفضها لمنطق فقه المذاهب الذي أصبح في الممارسة العملية فقها للطوائف، وعاملاً على تشرذم الشعب العراقي من خلال إعطاء الأولوية للولاء الطائفي على الولاء الاجتماعي العام للوطن، والذي يجد انعكاسه من خلال وجود قانون موحد للأحوال الشخصية، والذي ساعد على حفظ حقوق العائلة ومنع التحايل، وخلق الأرضية المناسبة للتمازج الاجتماعي بين الأسر العراقية وإقامة علاقات الزواج والمصاهرة خارج أطر الانغلاق الطائفي أو المذهبي.
المخاطر الناجمة عن عدم وجود قانون موحد للأحوال الشخصية
يأتي قرار مجلس الحكم 137 حول إلغاء قانون الأحوال الشخصية ضمن الإشكاليات المطروحة مع طرح الأسئلة حول مستقبل الوحدة الوطنية العراقية، وانشغال السياسيين ورجال الدين والمرجعيات الدينية وقادة الأحزاب الدينية والطوائف المختلفة والمثقفين والسياسيين من دعاة الديمقراطية والمجتمع المدني، بطرح ومناقشة المشاريع المختلفة التي تخص القضية العراقية. ويتجاوز القرار في مضمونه وطريقة وأسلوب إقراره في المجلس مسألة النوايا الكامنة في الخفاء، حول المشاريع السياسية التي تمس البنية الاجتماعية العراقية، ليصل الى حد السعي لفرض توجه سياسي واضح مفضي الى خلق فخاخ طائفية، تتعارض حتى مع فكرة اقتراب المذاهب ووحدتها، على الرغم من مشاركة الكثيرين في مؤتمرات تتحدث عن تقارب المذاهب الإسلامية ووحدتها. ويبدو أن البعض من السياسيين والمرجعيات الدينية الذين يطرحون أنفسهم حماةً للهويات والخصوصيات المذهبية والطائفية، ومن خلال ولائهم لتلك الخصوصيات يكرسون الانقسامات، ويستعيضون عن الجامع الشامل بالمفرِّق المثير للخلاف. ونكون في النهاية أمام حالة تعدد ولاءات تساهم في خلق هويات انعزالية، ويتحول التعدد والتنوع العراقي في المذاهب والأعراق من حالة تمنح القوة والتجدد والتآلف والتفاعل، الى حالة تنتج العزلة والتشرذم والانكفاء، ورفض الآخر، وتتحول علاقة الفرد بخصوصيته المذهبية أو الطائفية الى سجن اجتماعي مسيج بالفتاوى وفرمانات التكفير، بذريعة نقاوة المذهب والحفاظ على أصول استنباطه للأحكام الشرعية.
إن المخاوف الناجمة عن القرار 137 لن تكون محصورة في إطار علاقات الزواج والميراث، لأن نجاح مثل هذا المشروع وتمريره ستعقبه خطوات أخرى منها تحديد الهوية الطائفية للفرد العراقي في بطاقة الأحوال المدنية، وعادةً تبدأ الطائفية في مجال الأحوال الشخصية، ثم تكرس نفسها من خلال تحديد الدستور للهوية الطائفية للدولة وتمرير الأمر بنص مخادع يسمح للطوائف الأخرى بالرجوع الى فقه مذاهبها في مسائل الأحوال الشخصية، أو من خلال تثبيت هذه الوجهة كعرف دستوري يضمن اقتسام "كعكة" السلطة بدلاً عن الشراكة والمسؤولية الجماعية دستورياً. وليست هناك ضمانات إذا ما جرى المسير على هذا الطريق من إيجاد ثنائية أو أكثر حتى في القوانين الجزائية.
وفي المجال العملي ينجم عن عودة كل طائفة أو مذهب الى فقه تلك الطائفة وضع تعمل فيه كل طائفة على الحفاظ على بقائها و"نقائها" وبالتالي يصبح من الطبيعي أن تعارض وتقاوم الزواج من الطوائف الأخرى. نفس الامر ينطبق على بقية الطوائف الدينية الاخرى سواء اكانت مسلمة أو مسيحية.
إن عدم وجود قانون موحد للأحوال الشخصية يضع الفرد والاسرة تحت سلطة السلطات الدينية المختلفة ويمنع الانصهار في اطار بوتقة وطنية واحدة تجمع كل العراقيين والعراقيات.ناهيك عما تخلقه من مشاكل في حال الزواج المختلط لما يخلفه هذا الزواج من مشاكل للأطفال وحقوقهم ، وأيضاً لحقوق النساء.
من ناحية أخرى يخلق إلغاء قانون الأحوال الشخصية إشكاليات كبيرة للمحاكم العراقية، حيث يضع القاضي في مأزق كبير ليبحث عن الحكم الشرعي في الكتب الفقهية التي تعبر اساساً عن امكانيات فقهاء العصور الإسلامية المختلفة وضمن البيئات الثقافية السائدة، وجهدهم الذي يعتبر جهداً بشرياً يحتمل الخطأ والصواب، ويدخل الاجتهاد الفقهي ضمن هذا الجهد البشري. فضلاً عن أن تلك الأحكام منثورة في كتب الفقه والفتاوى المؤلفة منذ ما يزيد على اثني عشر قرناً. وتتناقض هذه الوجهة مع ضرورة التقنين في دولة القانون ومعرفة المواطن الفرد لحقوقه وواجباته في عقوده ومعاملاته وفي كافة مجالات حياته.
قانون الأحوال الشخصية 188 لسنة 1959 والتعديلات المطلوبة
قبل أن تبادر الحركة النسوية الديمقراطية والقوى الوطنية الديمقراطية العراقية بطرح تصوراتها وملاحظاتها حول قانون الأحوال الشخصية المعمول به، وصياغة مقترحاتها من أجل خلق حركة شعبية مساندة لمطالبها في إجراء تعديلات ترفع الحيف عن المرأة في بعض الفقرات والبنود التي بحاجة الى تغير، وبما يضمن المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في الدستور والتزام كافة القوانين العراقية بهذا النص الدستوري، وبشكل لا يكون أي بند من بنود القوانين العراقية نقيضاً له، وإعادة بناء أواصر العائلة العراقية على أساس التكافؤ وتوفير الضمان الاجتماعي، ومعالجة ظاهرة العنف الأسري، إضافة الى الضغط من أجل توقيع العراق واحترامه لكافة المواثيق والإتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة، ورفع التحفظات على الإتفاقيات التي وقعها، أصدر مجلس الحكم العراقي قراره 137 بالشكل المعروف، وباتت الحركة النسوية والقوى الديمقراطية تناضل من أجل إلغاء هذا القرار وإبقاء القانون رقم 188 لسنة 1959. وقد استطاعت الحركة النسوية إلغاء القرار المذكور، وهي تناضل من أجل الحفاظ على قانون الأحوال الشخصية. ولكن بقاء الحركة النسوية والحركة الديمقراطية ضمن ذلك المطلب، من شأنه إلحاق الضرر بنضال المرأة العراقية وبعملية بناء الديمقراطية في العراق والتي لا يجب حصرها في إطار الديمقراطية السياسية، بل يجب أن يتعدى هذا التوجه الديمقراطي في بناء العراق الحديث إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وقضية المراة العراقية التي تعتبر من مكونات الديمقراطية في الجانب الإجتماعي.
أن المطلوب هو إعادة النظر في الكثير من المفاهيم الواردة في قانون الأحوال الشخصية اعتماداً على استقلال التشريع عن المعتقدات الدينية المختلفة والتي هي جديرة بالاحترام التام ، كما أن الاعتبارات والتقاليد الدينية هي لا ريب من عناصر التراث الوطني والفكري في كل بلد، وللسلطة التشريعية أن تستوحيها كمعطيات اجتماعية فكرية إنسانية على ان تبقى مستقلة تجاهها ومنفصلة عنها. وهذا الاستقلال شرط لإيجاد تشريع موحد وقابل للتطور المستمر.
وتتطلب إعادة النظر إعطاء تعريف عصري لعقد الزواج ومنع تعدد الزوجات، ومعالجة الأحكام المتعلقة بالنشوز، ووضع حد أقصى لفرق السن بين الزوجين، ومنع الزيجات ذات الفارق الكبير في السن، ووضع عقوبة على أولياء الأمور الذين يزوجون أبناءهم أو بناتهم عند تجاوز الحد الأقصى، إضافةً الى مراجعة أحكام المواريث بما يضمن المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق، ومراعاةً لمساهمة المرأة جنب إلى جنب الرجل في إعادة بناء الوطن والتنمية.
أن فكرة تساوي المرأة والرجل في الحقوق تنبثق من صفة الانسان ومن صفة المواطن، ولا يجوز إنكار صفة الانسان وصفة المواطن على المرأة .ولهذا يجب أن تكون كل البنود الواردة في قانون الأحوال الشحصية مؤسسة على تساوي المرأة والرجل . فحقوقها العائلية متساوية. وكذلك الحق بالثروة وبممارسة المهنة وبالعمل وبالارث. وهذا التساوي ينسجم مع المبادئ الديمقراطية ومع وثيقة حقوق الانسان المعلنة عام 1948 والعهدين الدوليين للحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
إن الدفاع عن وجود قانون عصري موحد لكل العراقيين في مجال الأحوال الشخصية، وبشكل يراعى فيه المواثيق والاتفاقيات الدولية، ومنها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 1979، والإعلان العالمي بشأن القضاء على العنف ضد المرأة الصادر في 20 كانون الثاني 1993 ، لا يشكل دفاعاً عن حقوق المرأة وحرياتها فقط، بل يعتبر دفاعاً عن قيم الحضارة والتمدن ومفهوم المواطنة لأن هذا القانون يشكل أساساً اوحدة الشعب العراقي وانطلاقةً لبناء العائلة العراقية التي تقدر فيها المرأة القيام بمهامها تجاه الوطن وبناءه والمساهمة الفاعلة في التنمية والتقدم.
إنها قضية كل من يهمه مصلحة الشعب العراقي ومستقبله رجالاً ونساءً.
الهوامش
[i] الدكتور صبحي الصالح علوم الحديث ومصطلحه ص 44 دار العلم للملاين الطبعة 22 1999
[ii] التواريخ مثبتة في كتاب كشف الظنون لحجي خليفة.
[iii] الدكتور عبد الكريم زيدان الوجيز في أصول الفقه ص 156 مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة 2000
[iv] الدكتور عبد الكريم زيدان المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص 149 مؤسسة الرسالة الطبعة الرابعة عشرة 1996
[v] مصطفى أحمد الزرقاء المدخل الفقهي العام الجزء الأول ص 178 مطابع الأديب الطبعة التاسعة 1968
[vi] الشيخ مخمد الخضري الدولة العباسية تحقيق وتعليق ابراهيم أمين محمد ص 316
[vii] مناع القطان تاريخ التشريع الإسلامي ص 337 مؤسسة الرسالة الطبعة 26 عام 1998
[viii] المصدر السايق ص 338
[ix] مصطفى أحمد الزرقاء المدخل الفقهي العام الجزء الأول ص 208 مطابع الأديب الطبعة التاسعة 1968
[x] نصر حامد أبو زيد / هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي. مقالة في مجلة الثقافة الجديدة العدد 295 تموز ـ آب 2000
[xi] الإمام محمد أبو زهرة الأحوال الشخصية ص12 دار الفكر العربي الطبعة الثالة 1957.
[xii] المصدر السابق ص 14
[xiii] المصدر السابق ص17.
[xiv] قوانين المرأة بين الشريعة وقوانين الأحوال الشخصة من تقرير المركز المصري للأحوال الشخصية 2003
[xv] مصطفى أحمد الزرقاء المدخل الفقهي العام الجزء الأول ص 210 مطابع الأديب الطبعة التاسعة 1968
[xvi] لائحة الأسباب الموجبة لصدور قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959.
[xvii] المصدر السابق
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. إعلام إسرائيلي: المؤسسة الأمنية أوصت بالتوصل لاتفاق مع لبنان
.. إسرائيل تقصف قلب العاصمة بيروت وسط حديث عن قرب التوصل لاتفاق
.. حديث إسرائيلي عن استهداف عضو بارز في حزب الله ببيروت وصواريخ
.. مراسلة العربية غنوة يتيم: تواصل عمليات رفع الأنقاض في منطقة
.. الجيش الإسرائيلي يواصل غاراته الجوية على الضاحية الجنوبية لب