الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسلمة السياسية في العراق

سعد محمد رحيم

2012 / 11 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يدخل الدكتور فارس كمال نظمي في كتابه ( الأسلمة السياسية في العراق ـ رؤية نفسية/ مكتبة عدنان.. بغداد 2012 ) حقلاً معرفياً ـ تطبيقياً جديداً في الدراسات العراقية. معتمداً منهجاً مركّباً تتمثل نواته بالتحليل النفسي/ الاجتماعي ( الوصفي )، وهو أوسع نطاقاً من عبارة ( رؤية نفسية ) التي عرّف بها كتابه. معتمداً على الكشوفات النظرية والمنهجية الحديثة مستخدماً إياها في إضاءة مناطق بكر ( ملغومة ) غير مفكر بها كثيراً. وكان الراحل الدكتور علي الوردي قد افتتح مثل هذه الدراسات منذ عقود، غير أن الدكتور نظمي يمضي خطوات أبعد ويتجاوز بعض الخطوط الحمر ( الخطيرة ) التي تردد الوردي في اقتحامها يومئذ. وربما تكون المستجدات من الأحداث، وأجواء الحرية ( النسبية ) المتوفرة الآن، إلى جانب التطور العلمي والمنهجي الحاصل في مجالات الدراسات الإنسانية المختلفة منذ ذلك الوقت، قد أتاحت لنظمي فرصاً أوفر للبحث والتحليل والاستنتاج. وأحسب أن هذا الكتاب بصفحاته المائة والستين يعد إرهاصاً، أو مقدمة، أو تجارب أولية ( بروفات ) لمشروع معرفي كبير يشغل بال الدكتور نظمي. وهو بالتأكيد أهل لإنجازه لما يمتلكه من قدرة معرفية وتحليلية، وذكاء لمّاح، وجرأة في إضاءة المساحات المظللة، والمحجوبة، والمسكوت عنها.
ينطلق كتاب الدكتور نظمي من طرح مشكلة مؤداها تموضع الدين "في قلب الحدث السياسي المتحكم بمصائر ملايين الناس في بلدان الشرق الأوسط"، لاسيما بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، والولوج في عصر العولمة، وبدء ما سمي بثورات الربيع العربي. لتكون الحالة العراقية مثاله في استقصاءاته وحفرياته، حيث التنوع العرقي والمذهبي والطائفي، والأشكال المختلفة التي اتخذتها الصراعات الاجتماعية والسياسية تاريخياً. وما أفضت إليه من ملابسات في الراهن السياسي والاجتماعي. ومن غير أن يغيب عن ذهنه حقيقة أن ذلك كله يجري في إطار تتوفر فيه إمكانيات وشروط قيام دولة مدنية حديثة.
تتحول المشكلة التي أشار إليها نظمي، على أرض الواقع، إلى إشكالية؛ إلى جملة من مشكلات ومسائل متشابكة لا يمكن حل واحدة منها بمعزل عن الأخرى. فيما يتطلب بناء تصور ( مجسّم ) علمي عن ذلك إيجاد مقاربات نظرية مختلفة ترى الإشكالية في منظومة عناصرها وتفاعلاتها وتحولاتها المعقدة. وهذا يتطلب طرح الأسئلة الصحيحة التي ستقود منطقياً إلى فرص العثور على الأجوبة الصحيحة. أسئلة من قبيل؛
"أهو دين أم تدين أم تديين؟ أهو إسلام أم تأسلم أم أسلمة؟ أهو دين إيديولوجي محدد العقائد والغايات في أذهان معتنقيه؟ أم هو صورة إدراكية سيكولوجية حمّالة أوجه حد التشظّي، ونحو كل وجه منها يتجه جمهور محروم ومتعصب ومتعطش لأي يقين يريحه من أزمته الهوياتية المتفاقمة في عصر عولمي، تهيمن فيه أصنام التكنولوجيا وتنحسر العقلانية وتسود اللامعيارية؟".
ولذا لا ينجر نظمي إلى إطلاق أحكام انفعالية وقناعات متسرعة قد توهم بها الأحداث من خلال صورها السطحية المضببة والمضللة. فيرى أولاً أن عراق اليوم؛ "لا يشهد أسلمة شمولية شاملة فحسب، بل يشهد أيضاً صراع اسلمات طائفية تدّعي كل منها أحقيته العقائدية المستمدة من ( إطلاعه ) المتفرد على اسرار الإرادة الإلهية. ومع ذلك، فإن المنظور النفسي لهذا الكتاب يفضل الأخذ بوجود ( أسلمة سياسية ) واحدة لها عناصر بنائية محددة تمارس وظيفة سيكولوجية متشابهة إلى حد كبير في نفوس العراقيين عامة مهما تباينت معتقداتهم بين طرفي التدين والإلحاد".
ويتضمن الكتاب مجموعة من المقالات/ الدراسات التي كتبها خلال السنوات الأربع الماضية، وهي بمجملها قراءات في كيفية تشكّل الظاهرة السياسية المقنّعة بالدين في العراق ببعدها النفسي، ساعياً لتقديم "تفسير متعدد الأبعاد والزوايا لكيفية تفاعل سيكولوجيا الدين بسيكولوجيا السياسة لإنتاج ظواهر سلوكية مجتمعية مهمة بضمنها أنماط لشخصيات اجتماعية بدأت بالبروز تباعاً بعد نيسان 2003". وهذه الظاهرة لم تأت من فراغ، بل كانت لها أرضيتها التي مهدتها "سادية النظام السابق" حيث الفراغ والعقم السياسيين اللذين أوجدهما خلال سنوات حكمه الطويلة، والتي افضت إلى ما نواجهه من محن، الآن.
ويبقى الافتراض ( الأساس ) الذي يختبره نظمي مراراً طوال صفحات كتابه، ليبني عليه أفكاره ورؤاه هو؛ "إن محاولة فرض الأسلمة السياسية على المجتمع العراقي، هي خيار يقع بالضد من النزعة العلمانية الاجتماعية الراسخة لهذا المجتمع. لذلك فإن أحد الأسباب الرئيسة المفسرة لاستمرار مسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق هو نزعة الأحزاب الدينية الحاكمة فيه لتشكيل المجتمع العراقي على شاكلتها، أي محاولة تطييفه قسراً عبر إخراجه من هويته المسلمة بمذهبيها المتعايشين وإدخاله في هوية تأسلمية متعصبة بمذهبيها المتصارعين".
* * *
يرصد الدكتور نظمي في كتابه آنف الذكر مفارقات الحياة السياسية العراقية وتناقضاتها المؤسية عبر فحص التركيبة النفسية للنخب السياسية، وتحديد الأنماط السلوكية التي تميّزها، في الراهن العراقي؟. وبدءاً ينحت اصطلاح ( السياسي المعولم )، وهو السياسي المحترف المرتبط نفسياً ووظيفياً "بمراكز الاقتصاد العملاقة خارج حدود بلادها، بما يجعلها تنشط لإفراغ المضمون الفكري والأخلاقي للصراعات والتحولات الاجتماعية في بلدانها". ومن الخصائص التي تطبع هذه الشخصية، بمنظور نظمي؛ تبريريتها، وديماغوجيتها، ونفعيتها المفرطة، ووهن حسِّها الاجتماعي والوطني، وتبعيتها العصابية للخارج، وافتقارها لفلسفة إنسانوية واضحة. وهي شخصية تعاني من تناشز معرفي مردّه إلى تباين منظومتها القيمية الدينية/ الطائفية التقليدية الرافضة للديمقراطية الغربية عن حالة تعطشها المرضي للسلطة، واضطرارها للقبول بواقع اللعبة ( الديمقراطية ) وآلياتها التي ستوصلها إلى سدّة الحكم. ومن هنا نجدها متزمتة، تنتفي عندها قيم الجمال والتسامح، ومدمنة على الظهور النرجسي في وسائل الإعلام، وتتسم بعجزها عن التفكير الجدلي، وخلوها من الهوية السياسية المحددة. وهذه الشخصية نشأت بالتزامن مع صعود وهبوط الفاشية ذات الوشاح العسكري التي حكمت العراق لأكثر من نصف قرن، وما صنعتها وخلّفتها من مجال نفسي مضطرب. والغريب أن هذه الشخصية لقيت رضىً من المحتل العلماني العولمي الذي ما يزال مصاباً بفوبيا اليسار والشيوعية. لذا لم يكن محتاجاً "أحزاباً اشتراكية، ولا ليبراليين وطنيين، ولا طبقة وسطى مثقفة، ولا رجال دين متنورين".
بالمقابل يتحدث نظمي عن الشخصية العراقية ذات النزعة العلمانية/ المدنية التي تتصف بانفتاحها العقلي، وتديّنها الهادئ غير الأصولي، وروحها النقدية الجدالية، وشكِّها ( وسخريتها من ) بأية سلطة تدّعي القدسية وتفشل في تقديم العون للناس، ورقي حسِّها الذوقي والجمالي، وحدة وعيها الحضاري المتنامي؟. ولكي يتجنب اللبس والحساسية التي تثيرها كلمة العلمانية فإنه يعرِّفها بأنها "تلك النزعة الاجتماعية نحو إدراك الآخر ( الشريك في المجتمع والدولة ) على أساس هويته الوطنية المدنية لا على أساس هويته الدينية أو الطائفية ما قبل المدنية". وإذن؛ لماذا اختار العراقيون ( وجلّهم باعتقاده علمانيون بالقوة ) في الاقتراع الديمقراطي الحر شخصيات سياسية مثل تلك التي ينعتها بالطائفية والديماغوجية والنرجسية والسيكوباثية، الخ..؟ وجوابه هو أن هذه النزعة "ما هي إلا تكوين عكسي مؤقت غايته الاحتماء النفسي بسقف إيديولوجي ما وسط عاصفة التغيير تلك، وإنها ( أي تلك النزعة ) ستنحسر تدريجياً لصالح نزعة أعمق وأشد رسوخاً من الناحية التاريخية، هي نزعة العلمانية الاجتماعية في الشخصية العراقية". وربما يتغافل الدكتور نظمي، في هذه النقطة، عن عوامل أخرى اجتماعية وثقافية وتاريخية تركت آثارها، بالتراكم، سلباً في الشخصية العراقية. ليضعها في صورة مثالية أكثر مما هي في الواقع، بسبب محبته لها ومن خلال موقف إيجابي منها لا يخلو من انحياز. وقد نتفق مع نظمي في أن "المجتمع بنائياً ووظيفياً أكثر قوة ودينامية وتقدماً وديمومة من الدولة والسلطة في العراق". لكن هذا لا يعني أن نتجاهل العلل والتناقضات والتناشزات والأزمات التي يعاني منها المجتمع والذي من نتائجه بروز شخصيات ونخب سياسية ملتبسة ومؤشكلة ولها أمراضها، والأخيرة، بمعنى من المعاني، ما هي إلاّ وليدة وسط اجتماعي له أزماته. والدكتور نظمي سيحدِّثنا عن صور وتمظهرات مجتمع يصفه، في مكان آخر، بالمأزوم والمحبط والمستلب، وبالرهينة. وكلها إفرازات لعوامل موضوعية "ارتهنت العراقيين في مصائرهم". والرهينة بحسب توصيفه "جسد أخرس فاقد لزمنه الخاص، لأن حركته ومعناه وقيمته غدت مفاهيم محنّطة في تابوت اسمه: الحدث، يصنعه الآخر..". حيث تنتقل الأزمة إلى بنية تفكير الفرد حتى ليرى الحرية وهماً، ليجد، من ثم، في الوهم حريته.. وإن سنوات طويلة جداً من الاستبداد والحرمان والخوف والفقر وتسلط الفاشيات بأشكالها المختلفة تركت في نفسية ذلك الفرد والمجتمع رضوضاً ليس لهما ( الفرد والمجتمع ) أن يشفيا منها بين ليلة وضحاها. حتى باتا يخافان الحرية إذا ما استعرنا عبارة، وعنوان كتاب، لأريك فروم. فالعراقي "يعرف الحرية عقلياً لكنه يريد أن يظل سلوكياً رهينة لقوة ما تعفيه من مسؤولية وجسامة المبادرة الذاتية لمواجهة وجود اجتماعي مكتظ بالأزمات والحرمانات اعتاد أن يتحاشاه خضوعاً وخوفاً من قسوة قوى متنفذة تنيب عنه في كل مرّة". بيد أن هذا لا يعني الاستسلام لليأس. فكل أزمة ذات طبيعة تاريخية، ويجب أن ننظر إليها في سياقها الصحيح.. يقول الدكتور نظمي أن "إدراك الرهينة لعبوديتها، ووعيها برذائل خاطفها يمثلان الخطوة الأولى الضروررية لانتصارها النفسي القادم على تفكيرها الأزماتي".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود ماهر يخسر التحدي ويقبل بالعقاب ????


.. لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة.. نزوح جديد للنازحين إلى رفح




.. ندى غندور: أوروبا الفينيقية تمثل لبنان في بينالي البندقية


.. إسرائيل تقصف شرق رفح وتغلق معبري رفح وكرم أبو سالم




.. أسعار خيالية لحضور مباراة سان جيرمان ودورتموند في حديقة الأم