الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد تجاوز سقوف الأزمة إلى الحرب

بدر الدين شنن

2012 / 11 / 12
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تمهيـد :
-----

وسط التهافت الهيستيري على السلاح وعلى التجييش ، لتأجيج الحرب الدامية المدمرة ، حيث يعلو صوت الرصاص والقنابل ، على صوت الوطن والعقل والسياسة ، قد يجد البعض من المنغمسين المنفعلين في عملية التغيير " بأي ثمن " ، وكذلك المتورطون بالارتباط بأجندات خارجية ، أن ما يتناوله هذا المقال ، هو موضوع لم يعد بوارد الآن . وهم بذلك يبعدون عن ممارساتهم اللامسؤولة واللاعقلانية السؤال والمسؤولية ، ويصرون على خياراتهم ، ويتخوفون على دورهم النخبوي والفئوي وعلى ما هم جادون في تحقيقه ، وذلك لتوجهه إلى كل حاملي الجذور الوطنية ، في مشروع التغيير الوطني الديمقراطي ، وبخاصة إلى الكتلة الشعبية الأوسع ، صاحبة المصلحة الأولى في هذا التغيير ، التي لاتقاتل دفاعاً عن النظام السياسي ، الذي يتحمل حسب قناعاتها مسؤولية ما ’جرت إليه البلاد ، لكنها صامدة متمسكة بحماية ووحدة الوطن أرضاً وشعباً ، ولاتنحاز إلى المعارضة .. لاسيما المسلحة .. المدعومة من الخارج المعادي الأطلسي والخليجي الرجعي ، التي ارتبطت مسببات التدمير والتقتيل واقعياً بممارساتها المسلحة ، واستباحتها المدن ، والبيوت ، والمدارس ، والمؤسسات الخدمية ، ودور العبادة ، كساحات حرب وأهداف عسكرية .. لفرض سيطرتها وانتزاع السلطة .
ونتيجة انشغال المعنيين بالتغيير الكارثي ، والتعاطي مع تداعياته التدميرية ، باتت هذه الكتلة ، وخسائرها المادية والدموية ، وآلامها ومصائرها ، موضوعاً من الدرجة الثانية من الاهتمام من قبل طرف ، وموضوعاً للاستثمار السياسي والمتاجرة بدمائها من طرف آخر . وهي إذ تكابد ظروفها الأمنية والسكنية والمعيشية الموجعة ، تشعر أنها لاتحصل على ما تستحقه من احترام لحقوقها الإنسانية ، وأن مصائرها غامضة .
وبما أن الموضوع هو أكبر من أن يستوعبه مقال واحد أو أكثر ، فهو محكوم بالإيجاز .. وبالتبويب تحت عناوين دلالية .

ملاحظات أولية :
---------

بعد أن تجاوزت الأحداث السورية " الحربية " كل السقوف الداخلية المطروحة في مسار التغيير ، وأصبح الخارج الدولي ( العدو والصديق ) هو كما تدل التداعيات والمعطيات ، من يملك ، إن حصل التوافق بين أطرافه ، قرار إنهاء هذه الأحداث والتغيير في نظام الحكم السياسي ، الذي سيكون ، حسب منطق الأمور ، لصالحه ، أكثر بكثير مما هو لصالح المحافظين على العهد القائم ، أو لصالح المطالبين بإسقاطه ، وهو من يملك ، إن لم يحصل هذا التوافق ، القدرة على مواصلة الحرب بأشكال تتطور وتتبدل حسب الظروف الدولية .
وبعد أن تبين من سيرورة الأحداث المريبة ، الدموية ، المتلاحقة - سواء ’أعترف بذلك أم لا - أن جل السياسيين السوريين المتعارضين .. المتقاتلين .. هم آخر من علم .. ويعلم .. لماذا بالضبط ، حدث ويحدث ، كل هذا الفتك بالحياة والمدن ، وكل هذا الانتهاك لإنسانية السوريين وكرامتهم ، وكل هذا التدمير لعمرانهم ولإرثهم التاريخي والحضاري والروحي ، ولماذا تحولوا هم ، من لاعب أساس في أحقية التغيير للأفضل المجمع عليه في البلاد ، إلى لاعب ثانوي .. تابع .. لاهث وراء أوهام ومجاهيل الحل الخارجي الدولي . بمعنى أنهم عجزوا عن فهم طبيعة وأبعاد الأزمة التي تعصف بالبلاد ، أو أن فهمهم للأمور كان غير مطابق ، أو لعله كان منزلق الرهان على مستجدات دولية مخادعة ، بنوا عليها رؤاهم وتصوراتهم الفكرية والسياسية والثقافية . فلم يعرفوا تماماً حجم وثمن الارتهان للخلرج " الصديق " المزعوم من جهة . ولم يعرفوا حدود قدراتهم في مواجهة الخارج " العدو " اللدود من جهة ثانية .
وبعد أن اتضح ، أن الاصرار على التغيير ، والحسم ، بالسلاح ، الذي نقل البلاد إلى حالة الحرب ، الذي لم ولن يحقق أي نتيجة إيجابية ، وإنما المزيد من القتل ، والدمار ، والضياع ، وخسارة شاملة للوطن أرضاً وشعباً وسيادة .. صار تكرار تناول تفاصيل السياسات السورية السابقة ، التي تتحمل المسؤولية الأساسية لما جرى ويجري ، والتخاطب الاستفزازي ، وتقاذف كرة المسؤولية بين الأطراف المتعارضة ، صار غير مجد الآن . بل صار المطلوب وبإلحاح ، من القوى التي تدعي الالتزام ببرنامج التغيير الوطني الديمقراطي ، العمل على انتزاع المبادرة ، بوحدتها ، وبالاعتماد على القوى الشعبية في الداخل ، من أجل استبدال حوار العبوات الناسفة ، والسيارات المفخخة ، وقذائف الهاونات والصوارخ ، والعمليات العسكرية الأمنية النوعية ، بحوار يصوب مفاهيم انتماء وعلاقة المتعارضين المتقاتلين الوطنية والإنسانية المشتركة ، ومفاهيم قضايا الخلاف وأساليب التغيير الديمقراطي نحو الأفضل ، بحوار يفضي إلى تجسيد وجودنا الموحد .. وآدميتنا .. وحقوقنا الإنسانية المشتركة .

من نحن .. وماذا لو اختلفنا :
-----------------

إن تفاقم الأزمة السورية ، ووصولها إلى مستوى الحرب الكارثية ، وسرعة تحولها إلى انقسام مجتمعي .. شبه قطيعي .. غرائزي .. تدفع للعودة إلى استخدام البديهيات ، التي من المفروض أننا قد تجاوزناها منذ قرون كثيرة ، وعلى الأخص منذ تأسيس دولة سوريا المستقلة ، وتطرح السؤال : هل نحن غرباء ، جئنا إلى سوريا من بقاع شتى ، حاملين معنا عصبيات الانتماءات التي نعود إليها . لا الأرض أرضنا .. ولاإقامتنا عليها ثابتة .. ما يهمنا منها هو ما نجنيه من خيراتها وقد نتخلى عنها للأقوى منا .. أو نجد أرضاً أفضل منها .. مثل الغجر تماماً .. نحط الرحال حيث يروق الحال ؟ أم نحن شعب واحد شكلته مكونات إنسانية .. تلاحمت .. وتراحمت .. وتزاوجت .. وتآخت .. وتكاثرت .. على الأرض السورية عبر آلاف مديدة من السنين ، اندمجت خلالها إراداتنا ، وطاقاتنا ، وعرقنا ، وأرواحنا ، في ترابها وهوائها ومائها . ومن خيراتها تشكلت خلايا دمائنا ، وأجسادنا . وأصبح كل منا هو سوريا الوطن .. وأصبحت سوريا الوطن تتجسد في كل منا ؟ .
وعلى هذا العشق المتبادل بين الأرض والدم ، نهضت الإبداعات والحضارات ، وصار الوطن الممتد ، من جبال طوروس إلى غزة ، ومن شاطيء المتوسط المشرقي إلى مابين النهرين .. صار أرض النور .. وموئل المبدعين .. ومنارة الدنيا .. وحاضنة نهضة العرب الكبرى ، التي امتدت من بلاد الشام إلى الأندلس غرباً وإلى الهند والسند شرقاً . وأصبح قدرنا ، الذي نصنعه بأيدينا وعقولنا ، عبر وحدتنا المجتمعية الإنسانية ، هو مصدر قوتنا واستمرارنا ، وحافظ موروثاتنا الغنية إلى أجيالنا المتوالية عبر التاريخ ، وحامل روح وجوهر وجودنا الوطني ومضامينه النبيلة .
أحياناً يتدخل الغزاة في أقدارنا . لكن الغزاة يرحلون ، ويبقى الوطن لنا ، وتعود مصائره إلى أيدينا . ولعل سعي الطامعين والغزاة للهيمنة على وطننا ، الذي يبدأ بالعمل على إثارة الاقتتال بيننا وتمزيقنا ، كمقدمة لتحقيق السيطرة عليه ، واستدامة هذه السيطرة ، الدليل الأكبر على ذلك . وكان ، وما زال ، أي خلاف كبير بيننا يهدد وحدتنا المجتمعية والوطنية هو خاطيء ، ونتائجه مدمرة معاكسة .. حتى لموضوع الخلاف ذاته . وهو يحرف مسار الخلاف ، من حول أي من هذا وذاك ، هو أفضل في البنية الداخلية في البلاد ، إلى إلغاء وجود البلاد ذاتها . وما يسقطه هذا الإنحراف ، هو قضايا الخلاف والمختلفين معاً ، قبل أي شيء آخر .
ولأن بلادنا تمتلك واقعاً جغرافياً سياسياً متميزاً ، وتمتلك ثروات هي محط أطماع الخارج الأجنبي وتدخلاته اللئيمة والخبيثة لتمرير مصالحه على حسابنا ، فإننا محكومون ، أن نحل أي خلاف سياسي إجتماعي وغيره ، من خلال وحدتنا الوطنية ، وبالأساليب الديمقراطية .. وبالقم المجسدة للعدالة الاجتماعية . ومن يتجاوز ذلك إلى الاقتتال والدمار لحل الخلافات ، إن كان في الطرف الحاكم هو استبدادي مرفوض ، وإن كان في الطرف الآخر هو خائن مدان . فالاستبداد مهما جرى تلوينه لن يستقيم مع الحرية والعدالة ، والعلاقات مع الخارج لن تصبح بشكل من الأشكال " ليبرالية " ، والغزو الخارجي مهما حمل من ذرائع لن يكون تحريراً من أجل قضية نبيلة . ومن يبغي أن ينأى بنفسه عن هذه الصفات المعيبة .. عليه أن يبحث في الداخل ، بواسطة العقل ، والحكمة ، والإحساس بالمسؤولية ، وعبر اللقاءات والحوارات الندية ، عن مخرج مشرف ، تتكيف فيه المصالح الفئوية والخاصة مع القيم الوطنية والديمقراطية .
إن أسوأ الظروف التي يمر بها أي بلد ، هي عندما يستعيض الحاكم عن الشعب بفئة نفعية إنتهازية ، وعندما تتوحد الطموحات السلطوية لدى البعض في الداخل مع المطامع الخارجية المعادية .

لمحة عن الخلاف الآن :
--------------

لم ينشأ الخلاف بين من في الحكم ومن في خارجه ، عندما جاء بشار الأسد إلى الحكم ، ولامع استحواذ حزب البعث على السلطة . إنه خلاف تبلور بعد الاستقلال ، حول المسائل الاقتصاية الاجتماعية بين الطبقات والتكتلات السياسية الاجتماعية ، بين الملاك الزراعيين التقليديين " الاقطاعيين " والصناعيين ، حول النفوذ السياسي وامتلاك ناصية الحكم . أي بين الاقطاع الزراعي الذي كان يقبض عليه ملوك الزيت وملوك القمح والشعير والقطن ، وبين القطاع الصناعي المتنامي خاصة في صناعة الغزل والنسيج والزيوت والاسمنت ، وبين القطاع التجاري ، الذي كان الوسيط بين المنتج والمستهلك وبين الداخل والخارج في التصدير والاستيراد ، وبين هؤلاء وجماهير الفلاحين وفقراء المدن ، الذين كانوا جنود وأبطال ثورات الاستقلال .
وكان التعبيران السياسيان الرئيسيان في تلك المرحلة هما " حزب الشعب " و " الحزب الوطني " . وتنشط إلى جوارهما في الفضاء السياسي ، أحزاب أقل حجماً وأكثر كثافة في التمثيل النوعي الاجتماعي والديني والقومي ، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي ، والحزب الشيوعي ، والأخوان المسلمون ، والحزب السوري القومي الاجتماعي .
ورغم تعدد الانقلابات العسكرية وعرقلتها الحياة السياسية الطبيعية ، في أوقات متقطعة ، فقد كانت الأمور تعود إلى نصابها .. حيث تقرر صناديق الاقتراع من سيشكل الحكومة ويتولى السلطة في البلاد . وكان يتم في الأوقات المتاحة للديمقراطية تداول السلطة بين حزب الشعب والحزب الوطني بالتعاون مع المستقلين وبعض نواب الأحزاب الصغيرة . وكانت آخر انتخابات برلمانية على هذه القاعدة الدستورية ، هي التي جرت عام 1962 . وحسب نتائجها شكل حزب الشعب الوزارة بالتعاون مع عدد من المستقلين .
ومنذ 8 آذار عام 1963 ، بدأت في سوريا مرحلة سياسية نوعية مختلفة عما سبقها ، حيث ألغي فيها تعدد الأحزاب ، والانتخابات البرلمانية التعددية ، وتداول السلطة مع أحزاب أخرى . ما أدى إلى مصادرة السياسة وإلغاء الآخر المعارض . ونشأ خلاف من نوع مختلف في البلاد ، بين الحزب الحاكم والموالين له ، وبين أحزاب سياسية غير معترف بها قانوناً ، حول بنية النظام السياسي ، والديمقراطية ، وتداول السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية . وقد أثرت ، في صيغة الخلاف المستجد بشكل كبير ، المتغيرات الاجتماعية ، التي كان عهد الوحدة السورية المصرية قد بدأها 1959 - 1961، ثم تبناها حزب البعث بعد 8 آذار 1963 ، وأهمها الإصلاح الزراعي ، وتأميم المعامل الكبيرة ، والمصارف ، واستكملت لاحقاً بإنشاء قطاع عام خدمي وإنتاجي واسع . حيث أدت هذه المتغيرات ، إلى فقدان الأحزاب التقليدية لقواعدها الاقتصادية والاجتماعية ، التي تشكل البنية التحتية لوجودها السياسي ولدورها الرئيس في العملية السياسية . وكبر بذك الخواء في الفضاء السياسي التقليدي في البلاد . وحل محله فضاء سياسي آخر من نوع مختلف ، لم يعرف السياسيون التقليديون التعاطي معه . وبدأ يحل محلهم سياسيون جدد لم يكونوا مخلصين في التعاطي مع الآفاق السياسية الجديدة .
كما أدت هذه المتغيرات ، مع تداعياتها التوسعية اللاحقة أفقياً ونوعياً ، إلى إدخال البعد الاجتماعي ، بصورة أكبر بكثير مما كان قبلها ، في السياسة .. في أي حراك سياسي .. وأي برنامج سياسي . حيث أخذ الموقف من هذه المتغيرات ، سلباً أم إيجاباً ، يلعب دوراً مؤثراً على حضور ونمو ، أو انقراض اللاعبين السياسيين . وأضعف إلى حد كبير من فرص تشكل معارضة ، على خلفية اجتماعية متباينة عما جرى ويجري واقعياً في مضمار المتغيرات الاجتماعية الجديدة . وانحصرت فرص أحزاب جديدة بتبني رؤية جديدة متقاربة في المجال الاجتماعي . وحدث خلل في معادلة ( حكومة / معارضة ) دفع بقايا قوى ومجموعات سياسية محافظة ، أو مغامرة ، لتلافي هذا الخلل ، إلى البحث عن دعم خارجي ما لبثت أن ارتهنت إليه ، وعلى التعويض مؤخراً عن الشارع ، بتسليح وعسكرة المعارضة ، وتكريس ثنائية صراعية ( حكومة / معارضة مسلحة ) .
كما أدت هذه المتغيرات أيضاً ، إلى تبدل أفقي في البنية الاجتماعية ، وانعطاف هذه البنية ، نحو التموضع كقاعدة اجتماعية تحتية للحزب الحاكم ، إذ بلغ حجم العمالة في القطاع العام الانتاجي والخدمي ، حتى أوائل القرن الحالي ، أكثر من ثلاثة ملايين عامل ، وشكلت قاعدة اقتصادية ضامنة للإستقرار الاقتصادي الاجتماعي والسياسي .
بعد العقود الخمسة الماضية ، تجاوز التعامل مع الخلاف في سوريا معايير السياسة والعقل والمصالح الوطنية العليا . وتكرست الحلول عبر صناديق الأسلحة . وسوغ حمل السلاح ، المتدفق من حلف الناتو وتوابعه ، باسم " الثورة " من أجل الحرية . وسوغ استخدام مختلف صنوف أسلحة الجيش في الداخل باسم حماية الوطن وإشاعة الأمن والاستقرار .
والسؤال المشروع هنا : هل كل الأحداث الكارثية الجارية بخلفياتها الدولية السافرة .. هي حقيقة ثورة من أجل الحرية ؟ أم أنها حرب إقليمية دولية ، تتحرك مفاعيلها على الأراضي السورية وعلى حدودها مؤدية دوراً قتالياً بالوكالة ، تنفيذاً لاستراتيجية هيمنة عامية ؟ هل انتقلت سوريا نهائياً إلى الحرب الداخلية دون أي احتمال للحلول السياسية ؟

سنتابع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نجل الزعيم جمال عبد الناصر: بشكر الشعب المصري الحريص على الا


.. مقابلة مع وليد جنبلاط الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي




.. فى ذكرى وفاته.. منزل عبد الناصر بأسيوط شاهد على زيارة الضباط


.. فى ذكرى رحيله.. هنا أصول الزعيم جمال عبد الناصر قرية بنى مر




.. شرطة نيويورك تعتدي على متظاهرين داعمين لفلسطين وتعتقل عددا م