الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رواية احمد شافعي الأولى -رحلة سوسو- الحكاية سلم يتفتت كلما نزلنا أكثر

نائل الطوخي

2005 / 3 / 9
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


تنزل نجوى على السلم المصنوع من الحجر الجيري. يتخيل أشرف الذي يراقبها بالأسفل أن السلم يتفتت تحت قدميها. يبرر لها هذا, يقول لها إن أوهن انواع الأحجار هو الحجر الجيري, و برغم أن السلم يتفتت تحت قدميها فهي تجد فرصة للصعود مرة أخرى, غير أنها تجد نفسها متورطة في دغل آخر غير قادرة على الخلوص منه إلى الأبد.
في روايته الأولى "رحلة سوسو" الصادرة عن الهيئة العامة لقصورالثقافة بالقاهرة يحرص الكاتب المصري الشاب أحمد شافعي على لغة باردة تماماً, لا تتسم بأي انفجارات أو اندلاعات خاصة. أيضاً تصبح تفاصيل عالم الرواية كأنها تفاصيل عالم افتراضي بارد. منذ بداية الرواية ندخل نحن هذا العالم. ندخل بلدة كل تفاصيلها الميادين الثلاثة.. ميدان الشاعر, ميدان النافورة, ميدان الملك الغائب, البحيرة و مبنى استراحة المحافظ, الكلية, طريق المدينة الجامعية, موقف الحناطير, البنك, المكتبة العامة, الشارع التجاري, السوق, متحف الجيولوجيا. كل شيء يبدو افتراضيا و هشاً في هذه البلدة. فقط يكتسي عالم الرواية بثقل واقعي عندما تبدأ نجوى في اختلاق عالم جديد ستقوم ببطولته. ربما هذه هي المفارقة الأساسية في الرواية. الاختلاق فقط هو ما يتمتع بثقل, أما الواقع فهو هش و لا يوثق به.
تصل نجوى إلى قرية صغيرة لتلتقي أختها نجلاء فتلتقي معها بأشرف, ذلك الذي يقنعها بأن تؤلف قصة تكون هي بطلتها تتمتع فيها بكونها تفعل كل ما أرادت فعله في حياتها الواقعية, و يتغير اسمها في القصة إلى سوسو. هنا يبدو مجاز السلم الذي يتفتت تحت قدميها مجاز ملائم, فكلما مضت هي خطوة في حكايتها المختلقة تلك استحالت عليها العودة اكثر. ثم مجازان كذلك يجاوران هذا المجاز. سفينة نوح التي وصلت إلى الأرض الجديدة و استحالت عليها العودة إلى ارضها القديمة. و مجاز الملك الغائب. يقول أشرف لنجوى: "كان الملك و جدود جدود أهله قد اغتصبوا العرش قديماًَ و قالوا للشعب إن الحاكم أنابهم على البلاد إلى أن يرجع من رحلته الطويلة التي بدأها بحثاً عن الحقيقة, كما ترين لا يمكن أن ترسو هنا سفينة أبداً, لسبب بسيط هو أن هذا الماء يخفي تحته صخوراً أبشع بكثير من هذه الصخور التي ترينها هنا." هنا ستستحيل العودة على الملك الغائب بسبب صلابة الصخور في الماء, كما ستستحيل العودة على نجوى (التي اصبحت سوسو) بسبب هشاشة الحجر الجرانيتي الذي تحطم تحت قدميها. أي: ثم عودة مستحيلة بسبب الصلابة و عودة أخرى مستحيلة بسبب الهشاشة, و في الحالتين نحن متورطون و ليس أمامنا إلا المضي قدماً. هكذا يغدو خالق الحكاية الهشة غير حر بالضرورة, فهو أسير حكايته أو مخلوقها. كذلك الحال بالنسبة لمن يعيش في الواقع الصلب, من لم يقابل أشرف و لم يستسلم لأكاذيبه. يقول أشرف لنجوى: "هذه حكاية لا مكان لك فيها, حكاية سرطانية. هي التي ستعيش فيك. هي التي ستستخدمك".
عندما تبدأ نجوى في التورط في حكايتها و تصير غير قادرة على الفكاك منها و من سوسو (هي نجوى في الحكاية) ينقطع السرد فجأة. نرى أشرف يذهب لضابط الشرطة ايمن و يعترف أمامه بأنه قتل سوسو.. و يشرع في سرد القصة التي اخترعتها نجوى عن نفسها.. عن كل ما ارادت ان تكونه.. هنا تتضاعف هشاشة العالم بشكل منطقي, فحكاية يحكيها شخص لشخص هي اكثر موثوقية من حكاية يحكيها شخص لشخص على لسان شخص آخر. و هكذا يزداد الاتكاء أكثر على السلم الهش و يتفتت أكثر. غير أنه هنا أيضاً بالتحديد ما يحتشد العالم الذي تحكي عنه نجوى بالتفاصيل كما قلنا.. تفاصيل عن سفرة لألمانيا و علاقة غرامية بين موظف في العمل ورئيسته, و واسطة تدخل لكي تمنع السفر عن بنت, بل و حديث عن تحرر الدول النامية و أشيائنا الصغيرة.. هل يتصل هذا بجملة وردت في الرواية عن قلعة بناها بريخت, قلعة قوية جداً غير أنه ما إن ينطق واحد فيها بكلمة حتى تنهار, أو هل يتصل هذا بجملة وردت قي ذهن نجوى عن كون الصمت هو الأمر الحقيقي الوحيد, و أن الكلام بطبيعته قائم على الخداع "و لو أن نجوى تعرف مفردة التواطؤ, لقالتها"؟
عندما يلاحظ أشرف التفاصيل الكثيرة في حكاية نجوى المختلقة و أن هذه التفاصيل ما هي إلا أداة تكبل عالمها المختلق أكثر يسألها "لم يا نجوى لا تجربين ان تريدي شيئاً جديداً, لم لا تنسين الشغل و عصام و ناجي و إنعام و نبيلة و المانيا". هنا, ولأول مرة, تلجأ الرواية إلى السيريالية: تحكي نجوى, كأنما اطلق أشرف إشارة البدء لديها, عن الفندق الذي سافرت إليه في فرنكفورت و أحرقت نار اندلعت فيه كل من تعرفهم (ما عدا سوسو طبعاً). سرت النار في ألمانيا كلها و في البحر الأبيض و في مصر و لم تحترق سوسو. هذا السيرياليزم الكاريكاتوري يمكن له أن يكون توطئة مناسبة للفصل الأخير من الرواية, الفصل الأخير الذي تأكد فيه أن الخداع صار يلتهم نجوى تدريجياً.. و انها صارت فريسة لكذبتها.. إلى درجة ان يبدأ هذا الفصل بالبنت التي تسير في الطريق و يدلها صوت في ذهنها على معالم الطريق, يشرح لها ما تراه, من تكون هذه البنت السائرة إذن غير سوسو؟ الفتاة المختلقة التي أرادت نجوى أن تكونها, و قد تصدرت الحياة الواقعية في الرواية و انسحبت نجوى إلى مرتبة خلفية ترشد فيها بطلتها فقط إلى الطريق (راجع مجاز الحكاية السرطانية التي لا مكان لكاتبتها فيها). هذه البنت التي لا يصرح الكاتب باسمها تبدأ في الرؤية بشكل مغاير, تتحول رؤيتها إلى السخرية الشديدة و يتحول جو الرواية كله إلى الكاريكاتير المقارب للسريالية. يصل هذا الكاريكاتير إلى ذروته حينما يُسرد فصل كامل عن رئيس مجلس الإدارة (رئيس نجوى أو سوسو) و كيف كان قصيراً عندما التحق بالعمل في الستينيات و لكن"أحبه رؤساؤه كثيراً و ظلوا يرفعونه فيرتفع, يرفعونه فيرتفع, إلى أن وصل إلى الطابق الأعلى من المبنى و أصبح رئيس مجلس الإدارة." هنا بالتحديد تصبح لغة الرواية اكثر سخونة واحتداماً و تنبع من صوت واحد بالمطلق, هو صوت نجوى تهمس لسوسو, تحرضها على ممارسة الكاريكاتير. قد يخدع هذا الصوت القارئ. يعتقده صوت أشرف, فكل الأجزاء السابقة من الرواية تؤكد ذلك (دوما ما يكون أشرف هو المعلم و نجوى هي من تتعلم). و برغم أن هذا ليس صحيحاً إلا أن المؤكد أن أشرف قد تم احتواءه في الصوت المتحدث (صوت نجوى).. و بالتالي في البنت المستمعة. أشرف - الذي وصف نفسه بينما يقشر القصب أنه سكر الكون و خبيئة الله مثلما أن السكر بقلب عود القصب هو سكر متماسك لم يمسسه أحد من قبل آكله - قد تحول إلى عصارة سكر في عقل البنت (نجوى ثم, في مرحلة تالية, سوسو) و صار يمدها بالقدرة على اختلاق الحكايات.. و على تصديقها و الغوص فيها, بالضبط كشخص تحطم من تحت قدميه السلم الهابط به إلى عمق البحر فصار يكافح للخلاص حيث لا مغيث .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلسل إيريك : كيف تصبح حياتك لو تبخر طفلك فجأة؟ • فرانس 24 /


.. ثاني أكبر جامعة بلجيكية تخضع لقرار طلابها بقطع جميع علاقاتها




.. انتشار الأوبئة والأمراض في خان يونس نتيجة تدمير الاحتلال الب


.. ناشطون للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية: كم طفلا قتلت اليوم؟




.. مدير مكتب الجزيرة يرصد تطورات الموقف الإسرائيلي من مقترح باي