الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قسوة الظمأ في مجموعة جذور الفجر

رحمن خضير عباس

2012 / 11 / 15
الادب والفن


قسوة الظمأ في مجموعة
( جذور الفجر )
• رحمن خضير عباس
• عن مؤسسة دار الصادق الثقافية . صدرت المجموعة الشعرية الثانية للشاعر العراقي عبد الأله الياسري . وتحمل هذه المجموعة القصائد الشعرية التي كتبها الشاعر في بواكير حياته , حينما كان يلج هذا العالم الشعري وكأنّه ينحت صخرا , في بيئة ادبية ومناخية , اقل مايمكن ان يقال عنها : إنها بيئة الأضداد . النجف الأشرف باحة روحية شاسعة , تحتضن سمو المعتقد الموغل بالتأريخ الأسلامي , وسمو الأبداع الشعري , من المتنبي الى الجواهري . بيئة مكتظة بالقسوة والصرامة , من طقسها الجغرافي الى طقسها الديني . لعلها المدينة الوحيدة التي يفر سكانها الى اعماق جوفها في السراديب , وكأنهم يلمسون بطن الأرض ويتشربون بروحها . هذه المدينة التي يتجاور فيها الأحياء والموتى في ثنائية غريبة . ويتعايشون في أزلية يتوهج فيها الموت , ويتغلغل في جنبات الحياة . حتى ان مقبرة السلام تكبر على حساب المدينة , وحتى ان المدينة تتسع على حساب المقبرة , في تموج غريب وحركة من المد والجزر , وفي بحر لم يبق منه غير اليباب والصخور القاحلة التي رسمت لأنسانها , روحه العطشى , سماته , ومجموعة قيمه وعاداته . ورغم افتقار المدينة الى نهر يروي عروقها , استعاضت عنه بالشعر , الذي اصبح نهرها المتدفق وفي هذا النهر/ الشعر اتخذ شاعرنا عبد الأله الياسري صاريته .يصارع جدب الحياة . سلاحه روح معذبة تبحث عن الخلاص .
كان الرحيل عن الوطن في هجرة طويلة ,امتدت عقودا , جعلت بينه وبين بواكيرقصائده الأولى جدارا من العزلة . كانت يده تتدلى في زمن حلزوني لتلتقط هذه القصاصات الصغيرة التي تركها في لحظة منسية . وحالما تصفحهن حتى احسّ بعبق الماضي ,من رجولة مبكرة واحلام متشظية .لقد دفنها الأهل خوفا عليها وخشية من سلطة متجبرة . هذه السلطة كانت تتوجس من كل شيء وتعتبره محرما , حتى من كلمات وتشبيهات وصور بلاغية !
تغطي هذه المجموعة عقدا من السنوات . تمتد من نهاية الستينات الى نهاية السبعينات من القرن الماضي . وكانت قصائده الأولى تنبيء عن شاعر متمكن من ادواته الشعرية . ملم بالَنفَس العمودي للقصيدة العربية الكلاسيكية , قادر على ترويض القوافي . آنذاك كانت قامة الشعر العمودي في اوج عطائها , يمثلها عملاق الكلمة الشاعر الجواهري . لكن شاعرنا عبد الأله الياسري , لم يبق اسيرا لعمودية الشعر , بل حاول ان يكتب قصيدة التفعيلة التي تمردت على القافية الموحدة . لذالك جاءت مجموعة اشعاره الأولى نسيجا جميلا , ما بين متانة البناء العمراني للقصيدة التقليدية , وما بين رشاقة ورقّة القصيدة الحديثة .
في فاتحة الفجر , اول قصائد المجموعة . يتحول الأحتراق الى محاولة للخلاص .رغم ان الموروث الأجتماعي يجعل منه عذابا وعاقبة لغير ( المتّقين ) . ولكن شاعرنا يجعل منه وسيلة لأمتصاص الخطايا وكأن النار الأزلية , هي الوحيدة القادرة على غسل الآثام .
"أريد أن نغسل العالم بالحريق .."
• ولكن الحريق ليس اسلوبا تدميريا , بل يدخل في لغة التمهيد لعالم اكثر نقاءا . عالم يتجدد ولايظل مرهونا بالماضي . او اسيرا لجملة من المفاهيم والرؤى .
تترجم قصائد الشاعر غربة روحية عميقة , جعلته يختار الغربة اسما لأحدى عشرة قصيدة. يعزف من خلالها وبأوتار خافتة , عن حالة من الحيرة تجعل الماء ظمآنا :
"ظميء الماء / كاد – من الوردة – يطلب ماءْ "
أية محنة تتسلل كقطرة سم في كأس الحياة التي نترشفه رغما عنّا . حتى أنّ الغيمة تتوسل في باب القحط , وعطر القدّاح لاينفذ من خلال الصخر , والعصفور الذي يأبى ان يتضفدع , والنخل الذي تأسره الفسائل الحمقاء .. انها ثنائيات مبثوثة بين القصائد , تكشف فداحة الواقع وقسوته على القيم الجميلة التي تجد نفسها اسيرة لعوامل موضوعية اكبر منا , وبعبارة اخرى هو الصراع المتنامي ما بين الجمال والخير وما بين القبح والقسوة . ورغم ان سلاح القسوة قادر على تدميرالجمال ولكنه غير قادر على هزيمته . فاالقيم والمثل العليا لابد ان تنتصر . لقد قدم الشاعر منظومة اخلاقية وحسية . يمثلها : النخل والعطر والعصفوروالحمامة والغصن .. لكن هذه المفردات تخبيء خلفها دلالات انسانية لم يشأ الشاعر ان يبوح بها مباشرة , كما ان التأزم الذي شهدناه يسري في عروق القصائد , ينبيء عن حالة من التأزم الروحي الذي يجتاح جيلا كاملا , وجد هذا الجيل متاهات عصيبة . والكثير من الأزمات والأحباطات التي ما انفكت تدمر كل احلامه . لقد اضحى جيلا جريحا , يلمس – بأسى- اختلال القيم العامة في المجتمع وكأنه وجع النخل الذي اصبح اسيرا لما هو اقل منه منزلة .
" ملتف في شَرَك الدمع النخل ْ
ملتفٌّ بعباءة ذل . تأسره للجدب فسائل حمقاء.
لم تبلغ أنْ تتهجى لغة التمر . "
قد تبدو المرأة في هذه المجموعة الشعرية المبكرة شاحبة الملامح , تختفي وراء فكرة ما , او تترآى كغرض شعري , دأب الشعراء على سلوكه فنيا . المرأة في القصيدة انثى عصية على اللقاء . المرأة علاقة مستحيلة , في ظل علائق اجتماعية محفوفة بالحذر والعزلة . الشاعر يرى المرأة جسدا رائعا شهيا , يستوطن الأخيلة والأحلام . المرأة رسم مجرد تخطها رغبات محبطة يتجلى فيها الجوع الجنسي والحرمان :
" ارسم انثى. البسها فستانا ازرقْ
وبأسناني الجوعى , بأصابعي المشبوبة , انهشها
أجعلها تتعرى "
ولكن صورة المرأة تبدو اكثر حسية في قصائد اخرى .حيث يلتقط اوجه الترابط الأنساني بها من خلال الوضع الأجتماعي القائم , ومن خلال العلاقات العاطفية والأنسانية المسوّرة بأبعاد أُسرية ودينية :
" خوفوك الأهل مني وأنا منك بإسم الدين اهلي خوّفوني "
يستغرق الموتُ النَصَ الشعري ويهيمن عليه . حيث يطفو على سطح القصائد , وكأنه اكثر بريقا من الحياة . وقد تكون المدينة والبيئة باعثا لذالك الموت الذي يتغلغل احيانا بين فجوات الحياة . وقد يكون الموت انتصارا على حياة قاحلة وذليلة :
" فإقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياح .
واقفا اني اموت "
او قد يكون الموت مستحيلا , يتمناه فلا يجده .
" لا أغرودة تعشب في الصمت . لاموت .
حتى الموت باب ينسدُّ بعينيه "
. لقد وردت مفردة الموت وتكررت في اكثر من موضع , كما استخدم الشاعر بعض دلالات الموت كالمقبرة والتوابيت والجنازة ..الخ وقد كانت هذه المفردات تنبثق بعفوية من خلال التعايش مع النص . في مدينة تتعايش مع الموت بشكل يومي .حتى يتحول الموت الى سلعة
رغم انّ كل قصائد المجموعة كتبت قبل هجرة الشاعر عن الوطن , الآ أنّ قضية الرحيل كانت تراود الشاعر وتتراءى من خلال ثنايا النص . قد يكون الرحيل هو الهجرة المفترضة للروح المثقلة بحزن اللحظة المتأزمة . او قد يكون الحلم بسفر سندبادي الى تخوم عالم لايعرف الخوف . او قد يكون الأمل في الخلاص . ولكن سفرة الشاعر السياحية الى اسطنبول في منتصف السبعينات جعلت من الرحيل عن الوطن وجعا آخر :
" انا الآتي . اجرُّ حقيبتي تعبا ب اسطنبولْ
وجرح الطير في عيني "
وهكذا يحمل الأنسان صخرته على ظهره . فهو معذب في الوطن , وحالما يتسلق اسوار الوطن هاربا . حتى يتحول السفر الى جرح ومنفى .
في المرحلة الجامعيةللشاعر , والتي إمتدت من (1968 -1972) كان يدرس في جامعة بغداد/ كلية التربية . وقد كتب عدة قصائد القاها في مهرجانات شعرية . وقد شهدت قاعة ساطع الحصري في كلية التربية , هذه الأعراس كلها . وكان الشاعر عبد الأله الياسري من الشعراء الذين اشاعوا جوا من البهجة الأدبية والحبور الفني اضافة الى شعراء آخرين ومنهم على ما اتذكر : حميد الخاقاني ونبيل ياسين وحسن المرواني وآخرين . وقد ضمت مجموعته الشعرية ( جذور الفجر ) هذه القصائد تحت اسم البغداديات . وكنّ على التوالي (بين يدي بغداد ) ومطلعها : " آهٍ وعينيك يا محبوبة الصغر ما إبتل رملي ولا ندّى الهوى شجري "
اما القصيدة الثانية فهي ( قافلة الأحزان ) ومطلعها :
" حملت شراع الموت في صمت آلامي وأرضعت من ثدي التباريح أعوامي "
والقصيدة الثالثة , ( نزيف الشمس )
"حزين مسائي .خطوتي ما لها درب ولاشفتي بين الكؤوس لها شرب "
اما القصيدة الأخيرة في سلسلة بغدادياته فهي ( الضياع ) ومطلعها :
"ملّت من النغم المحزون ناياتي واتعبت فرَس الأحزان آهاتي " .
وقد اكتسبت تلك المهرجانات شهرة كبيرة . وشهدت قاعة الحصري اجمل الأصوات, سواء من الشعراء الشباب او من الشعراء الكبار الذين شاركوا بقصائد عصيّة على النسيان , مثل الجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة .ونتذكر جميعا الشاعر يوسف الصائغ وقصيدته الرائعة ( اذكريني عند تخوم البحر ) كما تضمّ كليتنا نخبة من الأساتذة الكبار الذين تركوا بصماتهم على الفضاء الثقافي مثل المخزومي وجواد علي الطاهر وعاتكة الخزرجي والسامرائي والحمداني وعناد غزوان وغيرهم . وكان الشاعر صالح مهدي عماش - وقد كان نائبا لرئيس الجمهورية انذاك – يصرّ على حضور هذه المهرجانات . ومن الجدير بالذكر ان نقول ان الشاعر عبد الأله الياسري قد القى قصيدته ( قافلة الأحزان ) بحضور هذا النائب .وقد كانت القصيدة صرخة احتجاج مدوية ,اطلقها الشاعر في وجه السلطة . لم يكن خائفا او وجلا , معتمدا على الصدق مع النفس والصراحة امام الملأ , زوّادته التشجيع الكبير و التصفيق العارم من الحاضرين , واغلبهم من الشباب . مما حدا بعميد الجامعة الدكتور محمود غناوي ان يسرع الى المنصة وكأنه يعتذر امام الحاضرين قائلا :الحالة المأساوية الذي وصفت بها القصيدة اوضاع العراق مبالغ فيها , فالدنيا بخير . ولكن كلمات عميد الكلية المتلعثمة ضاعت بين هتافات الأعجاب الذي شارك فيها صالح مهدي عماش نفسه . لقد استطاعت هذه القصيدة ان تتغلغل في وجدان تلك اللحظة التأريخية المؤطرة بشتى الأحتمالات .
لقد قدّم الناقد المبدع خالد جواد شبيل دراسة عن قصيدة ( الضياع ) ونشرها في مركز النور . هذه الدراسة المعمقة تجعلني عاجزا عن اضافة اي حرف آخر . وقد عقد مقارنة بين هذه القصيدة وبين قصيدة ( انا وليلى .. واشطبوا أسمائكم ) للشاعر حسن المرواني التي ذاع صيتها بعد ان غنّاها المطرب العراقي كاظم الساهر . ولاشك ان الأستاذ خالد قد حلل القصيدتين تحليلا فنيا واكاديميا , والقى الأضواء على الظروف التي احاطت بتلك المرحلة .
وعلى العموم فأن الشاعر عبد الأله الياسري في بغدادياته , يجعل من بغداد عاصمة للفرح . استقبلت عشاقها من جميع اصقاع العراق واصبحت امّاً لهم . كما انهم نسوا مدنهم الصغيرة والمترامية , واليابسة من كل شيء وذابوا في مدينة الحلم واليقظة , الطفولة والشباب . مدينة ابي نواس والمنصور وحكايات شهرزاد . انها المدينة التي استعصت على اليأس . وانها ستحتضن أبناءها يوما وستمسح عنهم غبار الغربة .وكما قال الشاعر عبد الأله الياسري :
" قد أتعبتني قفار اليأس واستلبت حُلم الطريق , وقد طالت مسافاتي
وأنكرتنيَ يا بغداد جاحدة حتى لدات الصبا حتى حبيباتي "
اوتاوة / كندا 17/11/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا