الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حكاية الطاغوت وسقوط ورقة التوت
عادل الرحالي
2012 / 11 / 16اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
كانت تونس قد شهدت نقاشا وجدلا حادا و مطارحات فكرية و سياسية مدار القول فيها هو مسألة الشريعة و التنصيص عليها دستوريا و الدعوة إلى اعتبارها رافدا جوهريا بل ووحيدا عند البعض يتأسس عليها كل تنظيم للفضاء الاجتماعي و الحقوقي وما يستدعيه ذلك من اعتبار لها مرجعية أساسية في صياغة النصوص القانونية و منحها من ثمة المشروعية العليا في كل ما يتعلق بإدارة الشأن العام و لما خلنا أن معركة الشريعة هذه قد وضعت أوزارها بإقرار صيغة الدستور القديم عادت القضية لتطفو على سطح الأحداث من جديد خصوصا بعد تسريبات لفيديو يحاور فيه راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الاسلامية جماعة من السلفيين و آخر يصور مكالمة بينه و بين الشيخ السلفي بشير بن حسن و كان مضمون الشريطين مدويا بشكل لافت إذ سرعانما تداولتهما المواقع الاجتماعية و المنابر الإعلامية و علق عليهما مجمل أطراف الطيف السياسي في نبرة تتراوح بين الهلع و الخوف و التوجس حينا أو التبرير و التعليل حينا آخر إلا أن الثابت في ما حصل أن الشريطين قد أسقطا ورقة التوت الأخيرة عن المكبوت السياسي لفكر الشيخ و طريقته -أقصد حركته- وكشفا القناع عن أطروحاته فالرجل ليس بعيدا عن الطرح السلفي في مستوى الغايات و الأهداف البعيدة وهي إقامة دولة الله على الأرض بالمعنى الثيوقراطي للكلمة حيث أن الفرق بين الرؤية السلفية و رؤية الشيخ الجليل يقع في المستوى الإجرائي و الزمني لا في مستوى المبادئ و الغايات فإذا كان السلفيون يرون الأمر بعين المتعجل الراغب في التمكين و المتلهف لرجم الزناة و قطع الأيادي و جلد السكارى فان الشيخ – أدام الله تمكينه - ينظر إلي الأمر من زاوية التدرج المرحلي مستندا إلى ما يسميه في كتاباته فقه الواقع أو فقه الإستضعاف ومعناه مسايرة الواقع إلى حين الخروج من مرحلة الإستضعاف إلى مرحلة التمكن و الغلبة و الشوكة القاهرة أسوة بتجربة الدعوة في مرحلتيها المكية و المدنية و هو لا شك خطاب يفصح ضمنيا عن رؤية تستمد مراجعها من مقولات السيد قطب الذي تحدث عن جاهلية المجتمع ذلك أن المجتمع التونسي و فق هذا المنظور الذي تفصح عنه أقوال الشيخ يتسم بضرب من الوثنية الحديثة مما يستدعي فتحا إسلاميا جديدا و في هذا السياق تتنزل دعوته لضيوفه السلفيين باستثمار المساجد و تكثيف العمل الجمعياتي و نصب الخيام و استقدام الدعاة من كل فج عميق مبشرين بالثقافة الجديدة بالمعنى الغنوشي للكلمة . و الواضح أن ثمة قياس ضمني يجريه الغنوشي بين مشروع النهضة و المشروع النبوي ووجه الشبه في تصوره هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور فهو يتحدث عن النهضة كرديف للإسلام و العبارة يمكن قراءتها ضمن ما يسمى في علم تحليل الخطاب بدلالة المخالفة و هي الدلالة التي تشير إلى نقيضها بمعنى أن كل من لم يكن من أتباعه ومريديه يندرج تحت تسمية مسكوت عنها تدرك من خلال فحوى الخطاب فما دامت النهضة هي" الإسلام " ذاته فان نقيضها هو " اللاإسلام " . إن الغنوشي بهذا المنطق يضع جميع مخالفيه في سلة واحدة عنوانها العلمانيون و يتحدث عنهم بضمير جامع مانع هو ضمير " هم " و مثل هذا الخطاب من شانه أن يكشف عن نبرة تسكن خطاب الشيخ وهي نبرة الزعيم المتأله و لعله استتباعا لذلك يتمثل حدث الثورة وفق منطق الكرامة الصوفية القريبة من المعجزة التي أخرجته من ديار الهجرة في منفاه اللندني ليتربع على سدة الحكم في تونس فلا غرابة أن يستقبله أنصاره في مطار تونس – قرطاج الدولي بنفس ما استقبل به أهل المدينة الرسول الأكرم مرددين على نحو كرنفالي مشهدي " طلع البدر علينا " و لكن ما أبعد بدر النبوة الذي جاء رحمة للعالمين ببدر الإسلام السياسي الذي وزع أبناء الوطن الواحد إلى ملل ونحل بحسب الولاء و الطاعة له و لحزبه .
إن ما طرحه الغنوشي يتجاوز مجرد فيديو طارئ أو مجرد خطاب بوح و مناجاة في خلوة بينه و بين أحبابه ممن يشاركونه الإنتماء إلى التيار الإسلاموي الموسع بل إن القضية تعبر عن ثابت بنيوي يشكل أساس خطاب الإسلام السياسي يمكننا رصد تجليات هذا الثابت عند عدد من رموز حركة النهضة ذلك أن خطاب الحركة يقوم على رؤية إيديولوجية تنظر للشريعة على اعتبارها تعبيرا عن وصايا الله و تؤدي إلى المماثلة التامة بينها وبين العقيدة وهو ما عبر عنه واحد من قيادات النهضة الصحبي عتيق الذي أعلن بصريح العبارة :" من يرفض التنصيص على الشريعة عليه أن يراجع عقيدته " و لا شك أن هدم المسافة بين العقيدة و الشريعة هو هدم إيديولوجي ممنهج يوهم باعتباطية العلاقة بين الطرفين إذ تمثل الثانية من هذا المنظور إمتدادا بديهيا للأولى و تعبيرا قانونيا وأخلاقيا عنها وهي لا شك ممارسة تسعى إلى تحقيق المماهاة بين البشري و الإلاهي أي بين النص القرآني و المنظومة الفقهية المتشكلة حوله تاريخيا في سياق الثقافة الإسلامية إنها مماهاة بين خطاب الفقهاء و خطاب الوحي و مثل هذه الرؤية تعبر بشكل جلي وواضح عن حضور آلية إيديولوجية من آليات خطاب الإسلام السياسي عبر عنها الراحل نصر حامد أبو زيد بآلية التوحيد بين الفكر والدين. و الأمر ليس طارئا في خطاب الفكر الإخواني في نموذجه التونسي إذ هو راسخ في نصوصه ضارب بعمقه ومداه في أدبياته التي عبرت عنها كتابات الشيخ راشد الغنوشي الذي يورد في كتابه الحريات العامة في الدولة الاسلاميه:" إن المسلمين يعلمون يقينا أن إرادة الله إنما تجسدت في شريعته ، فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل "
و الناظر في المشهد السياسي بتونس يكتشف أن الدعوة للشريعة كانت غائبة في الخطاب الدعائي الانتخابي لحركة النهضة بموجب إستراتيجيات تكتيكية غايتها استدراج اكبر عدد ممكن من الناخبين خصوصا من العنصر النسائي الذي يتوجس خيفة من هدم مكاسب المرأة التونسية والتي نصت عليها مجلة الأحوال الشخصية مما يجعل الخوض في الشريعة في تلك الفترة تنفيرا لأصوات كثيرة قد تذهب نحو خصوم النهضة و مناوئيها و بعد الإنتخابات تحولت الشريعة إلى دعوى معلنة في شكل مطلبية حزبية فقد كان الصادق شورو النائب عن حزب حركة النهضة رفع آية الحرابة في المجلس التأسيسي بما يستتبع هذه الإحالة القرآنية من إشارات صريحة لتطبيق الحدود على فئة من المواطنين مصنفة في رؤيته في عداد المارقين عن سلطة الدولة ونواميسها وهو ما يذكرنا بمصطلح البغاة في المأثور الفقهي و هم المنشقون عن سلطة الدولة وقد فصلت كتب الفقه القول فيهم تفصيلا . و هذا التوظيف للمقدس تتخفى وراءه قصدية يسكنها طموح جامح لتمرير خطاب سياسي كان حمادي الجبالي قد استهله حين بشر أمام قواعد حزبه معلنا "إننا على أبواب دورة تاريخية جديدة و خلافة راشدة سادسة " ومثل هذا القول هو لا شك خطاب تنفتح فيه الممارسة السياسية على إشارات ربانية ومدد سماوي نوراني يتحول فيه الفعل السياسي إلى ضرب من ضروب الدروشة و الإشراق الصوفي وهو أمر يدل على نظرة قاصرة انحرف بموجبها الفعل السياسي من الدلالة على فن الممكن إلى حالة سيحان وتحليق روحاني في مقولات مطلقة وهلامية تتعارض مع شروط الواقع وتاريخيته.
إن الخطاب السياسي للنهضة بما هو خطاب ديمقراطوي مسلفن – نسبة للسلفية – يسكنه سعي محموم لإرساء مماثلة مستحيلة بين العقيدة و الشريعة و هو لا شك يجد صداه في أوساط اجتماعية تطغى عليها الأمية المدرسية و الثقافية فتتلقف هذا الخطاب و تندفع نحوه في حالة استنفار عاطفي إيديولوجي ذلك أننا أمام خطاب يسعى الى احتكار رأس المال الرمزي ممثلا في الدين للسطو على إرادة شريحة من الجماهير المصحرة معرفيا و المفقرة اقتصاديا و المهمشة اجتماعيا طيلة الحقبة الإستبدادية
انه لمن أمارات السقوط السياسي أن يلتحف خطاب حزبي يدعي انه ديمقراطي بأردية الوعاظ و القديسين متوجها إلى خصومه السياسيين بمنطق تكفيري يطعن في العقائد و ينبش في الضمائر و الصدور. و يبدو أننا أمام لحظة من تاريخ تونس المعاصر يندحر فيها الخطاب السياسي بشكل كارثي مفسحا المجال إلى خطاب فقهوي مسيس ميكيافيلي الهوى و الميول يعتقد جازما بامتلاكه الحقيقة و يموضع نفسه كحالة امتداد تاريخي للفرقة الناجية بكل ما تختزنه العبارة من ميراث الجدل الكلامي و المماحكات المذهبية وأدبيات الملل و النحل الذي عرفته مرحلة الانغلاق اللاهوتي في الحقبة الكلاسيكية من التاريخ الإسلامي.
إن المسألة تطرح إشكالات وأسئلة أكثر عمقا تطال زعامات الإسلام السياسي و منظريه و مدى إلمامهم بنصوص التراث وأنساقه ومدى وعيهم بسياقاته التاريخية و الثقافية .
في هذا الإطار لا غرابة أن يتراجع مفهوم المواطنة و مقولة الوطن ليفسح المجال إلى مفهوم دار الإسلام كوطن روحي ونقيض جدلي للوطن القطري بثقله الرمزي و الوجداني وليس حديث الغنوشي عن إسلاميي الجزائر وصدامهم مع الجيش و الدولة في الحرب الأهلية المريرة باستعمال ضمير نحن إلا دلالة على تصور يؤمن بالوطن الروحي دار الإسلام بالعبارة الفقهية بديلا للوطن القطري وهو في ذلك لا يختلف عن رفع السلفيين الراية السوداء بديلا عن العلم الوطني ومن البديهي أن هذا الموقف يؤسس لحالة من الإغتراب التاريخي في مقولات ماضويه عفا عليها الزمن .
إن خطاب الغنوشي الموجه إلى من يسميهم الصف الإسلامي في الخلوات و الظلمات بعيد عن أعين عدسات الإعلام يفصح عن خطاب مكائدي قد دبر بليل كما تقول العرب وهي أزمة تتجاوز شخص الشيخ الغنوشي لتطال خطاب الإسلام السياسي بشكل عام و رؤيته الحضارية و مشروعه المجتمعي الذي يبشر بالمنوال التركي الأردغاني في النور و يحلم بالمنوال الطالباني في الكهوف و الدهاليز المعتمة و لعل الحلم بدولة الشريعة يرجع لطبيعة خطاب الإسلام السياسي الذي تشكل تاريخيا "في سياق الهزائم العربية المتتالية و المدوية فقدم نفسه كمخلص وبديل طوباوي لواقع العجز عن الفعل الحضاري و اتجه نتيجة لذلك إلى التراث الفقهي ليطرحه من جديد على الواقع – المتغير مما يؤدي في النهاية إلى تأكيد الوجود في التاريخ ولكن بشكل ميتافيزيقي " وفق عبارة هشام جعيط .
إن هذا الخطاب كما تعبر عنه حركة النهضة في علاقته بمقولة الشريعة و رغبته الجامحة في إدخال كل مؤسسات الدولة إلى بيت الطاعة النهضوية إنما يبشر في التحليل الأخير بشمولية مطلقة قد تكون أكثر استبدادا من سابقاتها . فليست علاقة النهضة بالسلفية حينئذ مجرد زواج متعة أملته دوافع الاستثمار الانتخابي بل هو التقاء في المقاصد و الأهداف و لا عجب في ذلك ما دامت النهضة في منشئها حركة دعوية سلفية مما يجعل خطابها متمزقا بين الحنين إلى الشريعة و الأصول الأولى من ناحية و بين الإلتزام بإكراهات و شروط العمل الديمقراطي المدني من ناحية أخرى و لعل حالة الاضطراب التي تسم خطاب الحركة وزعاماتها تستجيب لتوصيف الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش :
"أنا العاشق السيئ الحظ
لا استطيع الذهاب إليك
ولا استطيع الرجوع إلى تمرد قلبي علي"
إن ما يحدث الآن و هنا يستدعي حالة من اليقظة التامة حتى لا يتم فتح الدستور على نصوص و ممكنات غير محمودة العواقب من شأنها أن تفسح المجال لقراءات متشددة و دغمائية قد تعصف بمدنية الدولة فتكون بمثابة نصوص موقوتة قابلة لتوظيفات لامدنية فيحمل الدستور المشكل وفق مراسيم ديمقراطية بذور فنائه من داخله و احتمالا واردا لاغتيال المشروع الديمقراطي ذاته و تحويله إلى نموذج استبدادي ثيوقراطي خصوصا إذا علمنا أن أنظمة الاستبداد السياسي الملتحفة بأردية الدين كانت لها عبر التاريخ قدرتها الفائقة على "تجنيد مزيفي النصوص الناطقة دائما بتوجهاتها وأهدافها " بعبارة نصر حامد ابو زيد
و لذلك فان كل قوى المجتمع المدني و كل القوى الديمقراطية و الحداثية على اختلاف هوياتها السياسية و الإيديولوجية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للوقوف صفا واحدا ضد السطو على مدنية الدولة فليس الرهان مجرد رهان سياسي بين خصوم و فرقاء سياسيين بل هو رهان وجود و رهان وطن ورهان مصير تاريخي لاجيالنا القادمة .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز