الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيرودوتس في المتاهة

محمد الأحمد

2012 / 11 / 17
الادب والفن




لكل كتاب حكاية، وحكاية هذا الكتاب الذي يشتمل على رواية عربية (منقولة إلى الانكليزية) بين مجموعة الكتب المستعملة التي كان يفترشها أحد البائعين على احد أرصفة شارع المتنبي بـ"بغداد". وصار واحداً بين الكتب التي عشقتها، بعد الاستمتاع بمضمونها، وصرت متعاملاً معه ككائن حي، يشغلني بين بقية الكتب التي لولا وجودها لما استطعتُ العيش..
***** ***** *****
بدأت الحكاية لحظة رأيت صورة "عزيز شلومو"، قبل اسم الكتاب ومادته، لأنه كان زميلاً لي في إحدى سنوات الدراسة، اليافعة، بأنفه العريض البارز، والذي جعلنا نلقبه أيامها بابي "خشيم" نسبة إلى ضخامة أنفه، وترفعه علينا. كان يضع ربطة عنق على قميص ياقته بارزة، متعمداً أن يظهر فيها وقاره، وكما كان بادياً عليه في اغلب الصور التي ما زلت احتفظ بها بين صور مراحلي الدراسية. فباتت السدارة البغدادية التي فوق رأسه تزيده أناقة، وكأنما تعلن عن هويته، بكل فخر، بالرغم من أنها وضحت ضخامة رأسه نسبة إلى عرض كتفيه. فلم يعد في يومنا احد من محيطنا يلتزم بها كما كانوا آباءنا يعتمرون بها.
يومها لم يكن يبدي لنا من ميوله الأدبية في شيء، ولكنه وضع اسمه عليها كمترجم، وليس كمؤلف، وأغفل عنا اسم المؤلف بعد ادعاء الإسقاط العمد في النسخة العربية التي وصلت إليه. وذلك إشكال مهم، أضاف تشويقاً لمعرفة الغاية من تواريه "في عالم اليوم، استحالة أخفاء أية معلومة، ومهما كانت قيمتها".. لقد أراد ان يبرز للقراء، بانه معاد لنظرية النشوء والتطور، لانها تناقض الفكرة القائلة "الإنسان هو أحسن الخلق وعلى صورة الآله خالقه"، كما كان لا يطيق من يجادل على انها نظرية تستحق النقاش "لسنا أحسن من الصرصور الأفضل منا فى بيئته ويمتاز عنا بإمكانيات زودته الطبيعه بها عنا كالتكاثر لأنثاه من خلال تلقيح ذكرى واحد بالعمر"، كان يوم كنا اطفالا في مرحلة المتوسطة، حسبما اتذكر، يكره أي صفة حيوانية او غير، تلحق كلقب بزميل ما، اذ يعتبر انها تشويه لهيئة الانسان، كما كان يفهم "الدارونية على انها تحط من انسانية الإنسان، والايمان بها، خطا بحق الاديان السماوية، من بعد ان اعطانا الله التكيف مع بيئتنا فبإمكاننا ان نعى ما حولنا بدرجه أعلى تعقيد كذلك اننا جمعنا من اصل واحد وشجرة عائله تضمنا وتقربنا إلى بعضنا، وكأنها نظرية مُدْحَظَة ولا يمكن لها ان تجد يوما ما طريقها الى عاقل، حيث نرجسية الخلق المستقل، والتكريم "بنفخ فيه من روحنا" أصبح دليل على بطلانها، وجدتُها - هذه الرواية - قد خلت من أي محظور ظاهر، او باطن جعل منها تميل بأتجاه، واحد، وتنصر الفئة الحاضرة على الفئة الغائبة كما كان يقول"هيرودوتس". وسجلت الرواية ما كان من ألفة طيبة بين معتنقي الأديان السماوية الثلاثة في المكان الواحد، مما جعلها أكثر ميلاً لتدوين شهادة على عصرها، من خلال متابعة مسيرة ثلاث أجيال من أبناء "ناجي يعقوب"، وصديقه "علوان دندي". فانا وفق فرض محايد، لن يجعلني أقود القارئ كما أريد؛ معاذ الله، مثل بعض التقديمات في المدونات العربية، التي تفرض على القارئ معنى، واتجاه؛ حتى تغفل عنه المعاني والاتجاهات الباقية. فتفترضه مُسَطًحاً، لن يتوصل إلى المكنون ما لم يستند على عصا المقدمة العصماء.
ان تمترس المؤلف بالمترجم، لن يعفيه من المسؤولية، اي احتمال راجح، ولا يمكن معالجته باي شكل من الإشكال، فلن ينفعه استخدام العبارة الشهيرة الجاهزة، في حال أراد احد ما بأن يجيش ضد سطر لا يروق له: (كل ما ورد في هذه الرواية من شخوص وأحداث محض خيال، وأي تشابه أو تطابق مع الواقع هو محض صدفة أيضا .. الخ). بعد ان حوى تفسيراً فرويديأ للنفس البشرية، وبين لنا عدم إستقلالها ذاتياً عكس ضربه موجعه لكبرياء الإنسان "بعد ان كان يشفق على الموجودات لعدم قدرتها على الاختيار، ويزهو بنفسه لقدرته على الاختيار والتفكير"... (أنها تغريبة تأريخ حقيقي كما لو دونه هيرودوث عن مدينته). أغوتني بالمكان الحميم، وشخوصها بأهلي وأحبتي، وزمنها زمني الذي شهدتُه بدقائق تفاصيله المتطابقة، أكثر من غيري.. كأنما كنت احد شخوصها، ولن اخفي مشاعري كنت فرحاً، مترقباً، لحظة سيأتي ذكري فيها في متن احد الفصول. فكان هذا الإيحاء بالخصوصية، سمة من سمات أي عمل أدبي ناجح، يغوي القراء كلما تدرّجوا في قراءتها.
***** ***** *****
ثم تحريت عن خارطة المكان والزمان، المحددين فتأكد لي بما تلاعب به خيال المؤلف الصائغ لتلك الأحداث المروية. لتمرير تغريبته "الكونية"، فكان مجملها لا يتطابق مع الواقع، بأي شكل من الأشكال. بدءاً منيّ، كأحد الشهود على العصر الذي حدثت فيه أحداث هذه الرواية. فهي تجربة روائية ناضجة تستحق أن تدرج في قائمة الروايات المهمة التي قرأت منها العدد الذي يفوق على بضعة آلاف، كهاوّ، ومن مختلف اللغات الأرضية. وعرفت من نماذجها ما معنى أن تكون عليه الرواية كجنس أدبي، مصرّاً على الوقوف بين الأجناس الأدبية الأخرى، له أنساقه المعرفية في المعلومة الدقيقة، والحكاية المقنعة. استطاعت ان ترسم سيرة مدينة. جعلتني معنياً بترجمة الذكريات وخارطتها، فكل نقل هو ترجمة، وكل شرح هو ترجمة، وكل تأويل هو ترجمة.. حيث ترشدني سيمولوجيا النص إلى مغامرة، فاعل مخلوق من نسج الخيال، لم يكن بلحمه وشحمه شاخصا إلا بين صفحات هذه المتاهة التدوينيّة. فالرواية جولة في مدينة طالما عشت فيها مثلما يعيش كِتاب ما، في ذاكرة مؤلف ما، وينتظر فرصة للتدوين، وكانت هذه الرواية/ الفرصة. تشبه الى حدّ ما الرواية الجميلة التي كتبها عالم الاجتماع، "حليم بركات"، التي كانت عودة حقيقية لاناس عاش معهم، في الماضي، وبعد ان عاد اليهم في مدينته "بيروت"، وجد الحروب الاهلية، قد نفظت منها ارواقها كما شجرة دائما معرضة لريح الخريف، بينما "هيرودوتس في المتاهة" حلقت في اتجاه معاكس، حيث عادت الى الماضي، وبالتحديد الى مكان وزمان سينما "ديالى"، وإستقرَأَتْ مضموناً جعلني اقف مع المترجم، وربما اتمرس خلفه، واناصره ايضاً، ابن المكان، والزمان، وسأتحمل الم حل بالذكريات التي عصفتها رياح الحروب.
وجدتُ فيها وصفاً مسموعاً كما كان "هيرودوتس" يكتب في مدونته التي كتبها قبل الميلاد بمئات السنين، ذلك الوصف المسموع، كانه وصفا مرئياً، فالرجل كان لا يمر باغلب الامكنة التي كتب عنها، وصارت سطوره تصلنا باعادة طبع تاريخه العظيم الاف المرات كما اغنية حنين نسمعها لنعود الى زمن انفرط من بين الاصابع، وبقي معلقاً في الفضاء، وقد كنت مستعداً، في لحظة اصرار، واظنني قدرت على التدوين.. هكذا كتبت روايتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صراحة مطلقة في أجوبة أحمد الخفاجي عن المغنيات والممثلات العر


.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24




.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع


.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح