الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاتحةٌ لروايةٍ لمْ تبدأْ بعدُ

ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)

2012 / 11 / 21
الادب والفن


جلس رشد إلى منضدته مكدّسًا أمامه رزمةً من الأوراق و أقلام الحبر الأنيقة و قد جعل من دخان سجائره و عبير قهوته العربيّة السّوداء مجالا للتأمّل . كانت غرفته مدعاةَ لمتعةٍ لا يظفر بها خارجًا , فالكتب المبعثرة على السّرير و على الأرض لم تجد لها مكانًا في مكتبته الصّغيرة , و لوحات " دالي " و " فان غوغ " و " رونوار " و " مونيه " الممزّقة لبياض الجدران , كمنجته المهجورة , و مزيج من روائح التّبغ و العطر و البنّ ... كان كلّ ذلك مدعاةً لبهجته المعزوفة على وتر وحدته كلّما اختلى بذاته .
جلس يومها و قد اعتملت في ذهنه فكرة كتابة رواية , كانت رغبةً محمومةً أخذته صبيحة ذلك اليوم بينما كان في قاعة المحاضرات يستمع إلى أستاذ النقد الأدبيّ و هو يتحدّث عن كتّاب الرّواية و اختياراتهم الفنيّة في إنشاء نصوصهم .
"لمَ لا أكتُب رواية تكون فاتحة لمشوار أدبيّ محلوم به من أيّام الصّبا ؟" كان قد فتح ذائقته على أقاصيص المنفلوطي و شذرات جبران و روايات نُعيْمة , و قد مثّلت رواية " اليوم الأخير " لميخائيل نعيمة منعرجًا حقيقيا في مطالعاته , إذ استجابت لتحوّلاته و حفّزت ثورته و فورته الوجوديّة , و ها هوّ الآن تجاوز العشرين من عمره , يدرُس اللّغة العربيّة و آدابها و يقرأ لسارترْ و كامو و كولن ولسن و المسعدي , ثمّة شيء ما يشدّه إلى تلك المناخات الوجوديّة .
أمسك القلم بعد طول تأمّل و أخذ يخطّ أسطرًا معوجّة من الكلمات المضطربة في تتاليها , مرتشفًا بين الفينة و الأخرى من قهوته اللّذيذة , استغرق ساعتين بين تسطيرٍ و تشطيبٍ حتّى نسي الموعد الذي ضربه مع صديقه أشرف , كان عليه أن يتّجه صوب المقهى المعتاد ذلك المساء , إلا أنّ استغراقه في الكتابة أنساه ذلك , حتّى رنّ هاتفه :
_ آلو, عذرًا يا أشرف فقد كدت أنسى موعدنا ...
_ لا تعتذر عمّا فعلت , هلا أتيت ؟
_ أحبّذ المكوث في البيت هذا المساء , يمكنك المجيء , ها أنا أستدعيك لفنجان قهوة عندي , أنا بانتظارك .
_ حسنًا رشد لك ما أردت .
صعد أشرف إلى غرفة رشد بعد أن فتحت له السيّدة ليلى - أم رشد - الباب , وجد صديقه في غمرة ضبابه و أوراقه , لفافة التّبغ في فمه و القلم بين أصابعه يهوي به على القرطاس فيسوّده ثمّ يشطب ما يخطّه في عصبيّة .
_ أراك منهمكًا في الكتابة يا صديقي , ماذا عساك تخطّ ؟ - قال أشرف بعد أن استلقى على السّرير -
_ اجتاحتني رغبة عارمة اليوم في كتابة رواية , و ها هوّ القلم لا يطاوعني في رسم فاتحةٍ لها , تكاد تراني عاجزًا أمام هذه الحزمة من الأوراق البكر ...
_ رواية ؟ لم أعهدك روائيًّا ... بل عهدتك متفلسفًا, هل تظنّ أنّك قادر على هكذا مشروع ؟
_ لمَ لا ؟
_ ليس هذا تشكيكًا في قدرتك على الكتابة صديقي , حاشا و كلّا , لكن لكلّ درّ معدنه , و أخشى أن يرميك أحدهم بالتقحّم على ميدان الرّواية بعد قراءة عملك . ثمّ إنّي على علمٍ بأنّك كارهٌ للتنظير الأدبيّ , و الكتابة الرّوائيّة تستلزم دراية واسعة بنظريات النقد الأدبيّ في مجال الرّواية و تاريخ كتابتها و أنماطها و مدارسها و و و ...
_ نعم أما كاره للتنظير الأدبيّ , هذا رأيي و لن أتنازل عنه , ثمّ إنّ نظريّات الأدبيّة ما هيّ إلا أدوات للفصل الإجرائيّ بين حدود الأجناس , و ليست لصناعة الأصفاد المقيّدة للإبداع , فلا تكون الرّواية روايةً إلا إذا توفّر فيها كذا و كذا و كذا ... أنا على يقين بأنّ وجود الجنس الأدبيّ سابق على ماهيّته , تلك الماهيّة التي يحاول النّاقدون ضبطها , و ضبطهم يكون على أيّة حال نسبيّا , و لا ينبغي لمحاولاتهم في الضبط و التوصيف أن نتقلب أصفادًا و قيودًا تلزم المبدعَ ...
_ ممم ها قد صرت بدورك منظّرًا أدبيّا من حيث لا تدري !
_ فلأكن ما أكن, فليكن ما أكتبه نصّا و كفى , لا يهمّني إن صنّفتموه روايةً أو لم تفعلوا , حسبي أنّي أكتب تنفيسًا عن قلقي و تأريخًا لذاتي ...
واصل الصّديقان نقاشهما في مواضيع شتّى حتّى وقتٍ متأخّر من اللّيل , ثمّ غادر أشرف تاركا صديقه رشد ليعاود الضياع في غمرة ضبابه و أوراقه , لم يكن يعلم أنّ الكتابة جهد و عناء و مكابدة , و أنّ الحرفَ عصيّ و شحيح , إذ لم يكمل صفحةً واحدةً إلا بعد ليلة مضنيّة قضّاها في غرفته مستأنسًا بموسيقى موزارت , متأملا بين اللحظة و اللحظة إحدى لوحات " سلفادور دالي " السرياليّة الممزّقة لبياض الجدران .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبلبة وأوس أوس ونجوم مسرح مصر يحضرون العرض الخاص لفيلم عصابة


.. كل الزوايا - رعب وكوميديا وأكشن .. دليلك لأبرز أفلام عيد الأ




.. كل الزوايا - تعرف على خريطة عرض السينمات المصرية في عيد الأض


.. كل الزوايا - اعرف رأي الناقد الفني محمد شوقي في فيلم أولاد ر




.. كل الزوايا- الناقد الفني محمد شوقي تعليقا على فيلم اهل الكهف