الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاتم أنوار

فيحاء السامرائي

2012 / 11 / 21
الادب والفن


"ولهذا أقيمُ هنا مؤقتاً... أتسكعُ وحيداً ممتقع اللون، وإنْ ذَبُلَ نبات البردي في البحيرة، وأحجمت الطيور عن شدوها...."
- جون كيتس... La Belle Dame Sans Merci
تترجم أبيات قصيدة تزيّن ركناً من عربة قطار الأنفاق (المترو)، يضعونها لإغناء وقت راكبين، يتحاشى بعضهم نظراً الى آخرين أمامه، لذا ينقل بصره بين اعلانات ودعايات ملصقة داخل العربة لرحلات سياحية، صوب مناطق تسطع بشمس سخيّة في وقت غيوم وشتاء، كذلك لأدوية رشح ونزلات برد...وفي أيام أعياد رأس السنة، تُلصق عروض لماركات نبيذ فاخرة وأدوية لعلاج سوء الهضم...سحنات من جنسيات ولكنات مختلفة، جالسين وواقفين، يقرؤون صحفاً أو كتباً، تضجّ بهم عربة ولزوجة هواء...يوم أتت أمها لزيارتها، كانت بالكاد تحرّك قدميها بين جموع راجلين ومنتظرين في محطة الأنفاق، ولم يفتْها أن تعلّق:عبالك يوم الحشر، زين ما تخسف بيهم الكَاع، يمكن أكثر من زوار كربلا بيوم الأربعين... تتفلسف ابنتها بحسرة: (ما أكثر الناس وما أندر الانسان)...
لسنين فارعة، يصاحبها نفور من مكان تأبى أن يغدو بديلاً عن آخر بعيداً في خارطةٍ، وفي قلبها...بحكم هوى؟ وفاء؟ أم خشية من جحود؟... لسنين، تمنح حاضرَ مكانٍ تعيش فيه لقب منفى...تتحصن داخل قلعة ماض مضنٍ، في انتظار فارسُ آتٍ، يأتي فاتحاً لأسوار روحها، يعتقها من مؤقتية وطارئية وازدواجية...تسير عكس وقتها وزمنها ونفسها، تؤجل حياتها، تحفظها في خزانة أحلام وآمال، تتحول شجرة بلوط باذخة في وجدانها الى نخلة، تعيف طعاماً باهراً وتتشهى (خرّيط وشي صْملّة)، كل فاكهة لذيذة تنقلب الى تمْر بقدرة حنينها، نهر التيمز يلبس ماء دجلة والفرات، أوبرا وسيمفونيات تصير أغنية (جي مالي والي)، يثقل يومها بسماع أخبار ومطالعة مقالات، تقلّب ألبوم صور قديمة وتتحفظ على علاقة مع جيران أجانب...تسحب من جوفها خيط ضحكة لا تنطلق، وتعيدها الى قاعها، كيف يتسنى لها فرح وهناك من ينتحب في أرضها؟ لا، لن تستخدم شفتيها للإبتسام...تتيقن أن غرسها لا ينبت الاّ في أرض أجداد وأسلاف، على ترابها وفي مجامرها ونهاراتها وخيباتها وطعناتها ولعناتها وندوبها وطيبتها وحماقاتها...هجينة حياة أضاعتها دون أن تعيشها، ترتعب من فكرة أنّها تعودت عليها وأدمنتها، وهاهو عمرها وعمر آمال نحيلة، يمضيان بكل شيء، إلاّ بجديلة أحلام خابية، شاب لبّها وعاب ورابَ، أبت ألاّ تقصّها حتى يتحقق نذرها، ويرجع عبثاً سالف زمن انقضى...لكن هذا منتهى هراء، (كَودو) لن يأتي لو نحرتْ عمراً آخر في انتظاره، و(سعود لايعود) لو تدركْ...لتحتفظ به في سلال ذكرياتها وتمضي، لاتتبرأ منه بل تبرأ...
يتخلى شاب عن مقعده بتهذيب لأمرأة مسنّة صعدت تواً، تعتذر شابة منها بلطف حين تلكزها بحقيبة كبيرة تحملها على ظهرها، تصعد إثرها مجموعة من شباب ضاحكين بصخب، يصرخ أحدهم بمرح، ربما حينما تواجهه سحنة كئيبة لها:
Cheer up man, chill out, life is short
تبتسم مجاملة، يتملكها أحساس مباغت بفرح حقيقي، تألف وتستأنس بأجواء حولها، يشعّ منها ضياء مهادنة، ينعكس ظلال ابتسامتها على زجاج العربة، ترى نفسها أجمل، هل تتمكن اليوم من هزّ سكون عتمة وخضّها، كي تتوضح أمامها رؤية جليّة متوازنة؟ ألا يمكن أن تحوّل منفى الى (ملفى) والى منفذ لتصالح مع زمان ومكان وأمان؟...يجوز، بل ربما يجدر ذلك، فما تبقي من وقت لا يسعف في استضافة لاجدوى وحيرة ثانية داخل روحها وعلى دربها...تزيح شعرها عن جبهتها، تدرك فجأة حاجتها الى مقصّ أو الى قصِّ شعرها...تسرع بالنزول في المحطة التالية، وتتجه صوب أقرب صالون حلاقة.

فيحاء السامرائي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كيتس و أهوارنا
عادل سعيد ( 2012 / 11 / 22 - 15:18 )
اذن فبردي بحيرة كيتس قد ذبل ، وطيورها قد كفت عن الشدو او هاجرت..كأني بكيتس يتعثر على ارض اهوار العراق التي شققها العطش وذبل برديها وهاجرت طيورها وجف انسانها.. وها انت في قطار الحياة يا فيحاء الذي لايتوقف ابدا . انطلق من بغداد ومر على كل محطات النفي التي يمكن للعراقي ان يدركها او تدركه، وها هو يخترق انكلترا ، وبغداد تسافر معك ..تتبادلان الحكايا التي لاتنتهي والدموع التي لاتنتهي والضحكات التي تحضر بين كل حكاية ودمعة.. ومازال قطار الحياة يخترق انكلترا
ولكن تأكدي وانت تنزلين للإستراحة في احدى محطاته من انك نزلت في لندن .. وليس في علاوي الحلة..

اخر الافلام

.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان


.. كل يوم - الناقد الرياضي فتحي سند : فرص الأهلي في الفوز بالبط




.. كل يوم - الناقد الرياضي فتحي سند : لو السوبر الأفريقي مصري خ