الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عم عليّ رضوان والفرَّاز

محمود عبد الغفار غيضان

2012 / 11 / 24
الادب والفن


علمتنا القرية أن نخاطب كل كبير بــ "يا عم" فلان، أو يا "سيدي- جدّي" فلان. كنا صغارًا نتوه لعبًا وفرحًا في شوارعها التي كانت آنذاك تستوعب أجسامنا الصغيرة بدفء. كنا نتفق على "الجُرن" الذي سنلعب فيه كرة القدم بعد العصر؛ جرن العمدة، جرن أم شريف، ملعب "الزرعية- الطريق الرئيس لمدخل القرية"، ملعب المدرسة الابتدائية، جرن صابر أبو صبرة، جرن عبد المعز، جرن مشهور. هذه المساحات التي لم يعُد لها وجود الآن إلا بخرائط الجمعية الزراعية. كنا ذات مرة نلعب في جرن مشهور. كان الحكم عم علي رضوان- الله يمسِّيه بالخير، هكذا علمتنا القرية عند ذكر الغائبين صباحًا أو مساء- الذي لم تكن له أية علاقة بكرة القدم من قريب أو بعيد. كان من الطبيعي جدًّا أن يحتسب عم علي ركلة جزاء ضد أي فريق رغم أن اللعبة رمية تماس، ولو عرقلت لاعبًا من الفريق المنافس في منطقة جزائه هو، احتسب عليك ضربة جزاء في منطقتك أنت!! يبدو أنه كان يحب كلمة" بلنتي، والاختصار هو "بلن" بكسر الباء واللام وتسكين النون- كنا وما زلنا ننطقها هكذا في القرية- أو يبدو أنه كان يحب أن يمارس سلطاته كحكم كاملة، بغض النظر عن معرفته لقواعد اللعبة أو لتعمده تجاهلها. وكنا نستقبل القرار بالضحك، لكن الأهم أننا كنا ننفذه. بعد كل هدف كنا نجري إليه ونسأله: - النتيجة كام يا دلقوتي يا عم علي؟ فيرد بكل هدوء:- النتيجة في الآخر زي "فرز البصل". فنواصل اللعب!!
ولمن لا يعرفون معنى "فرز البصل" آخذهم إلى "المُجمع" كما كان يُطلق عليه، وهو مكان تجمع فيه الجمعية الزراعية محصول البصل من الفلاحين كل سنة، يضع كل فلاح محصولة في صف من الأجولة ترتفع بمقدار خمسة أو ستة أجولة رأسيًّا، وبمقدار خمسة عشر إلى عشرين جوالا أفقيًّا، وتتعدد الصفوف حسب مقدار المحصول. ثم يأتي مهندس زراعي مكلف من الشركة التي ستشتري البصل، ويفتح بسكين معه أجولة عشوائية من محاصيل الفلاحين ثم يصنف تلك المحاصيل حسب جودتها ويفرزها، ولهذا كان يُلقب بــ"الفراز"، وبهذا الشكل يتحدد سعرها، ثم تحمل سيارات النقل هذه المحاصيل يوميًّا إلى الشركة في المدينة. كان الجو بالمجمع بهيجًا كل صباح، معظم رجال القرية يمشون باتجاه المجمع عند مدخل القرية، الجمال والحمير تحمل أجولة البصل، وفي مرحلة متقدمة قامت الجرارات الزراعية بهذا الدور. وصوت "أبو غريب" حارس المجمع متهكمًا من الجميع، مُضحكًا إياهم بتعليقاته الساخرة، كانت عبارة التحية التي تتردد في المجمع طيلة الوقت، كان "أبو غريب" لا يحب وربما لا يعرف من دول الغرب سوى "النمسا" ولهذا كان يتهكم من أي فلاح ممن لا يعرفون القراءة والكتابة بقوله: " الله يرحم أبوك، ماهو كان مكمل تعليمه في النمسا". كنت في المرحلة الاعدادية وانتقلت إليّ من أحد ابناء عمي- بسبب دخوله الجيش- حرفة الكتابة على الأجولة بسعر يتحدد بعدد الأجولة، كنت أكتبُ على أول جوال وآخر جوال بكل صف اسم صاحب المحصول وعدد الأجولة. كنتُ أحيانًا لقصر قامتي لا أتمكن من الوصول للجوال المطلوب الكتابة عليه، فأجلس على صف من المحصول المجاور وأقوم بالكتابة، التي الكتابة مهمة لأنها تحدد عدد الأجولة وتعرّف بصاحبها، ولذا لم يكن الفراز يقوم بفرز أي محصول- كان يسمى بلغته "رسالة" إلا بعد الكتابة عليها. كنتُ أضع مسحوق زهرة الملابس في علبة بلاستيك مع القليل من الماء وأستخدمها لحبر للكتابة، وكانت الفرشاة قطعة من الجريد التي تم دقّ طرفها بالحجر حتى صارت كمقدمة الفرشاة الحديثة. وكانت الشركة التي تشتري محصول البصل تعطيني لوحًا مفرغًا باسم الشركة، وأقوم بوضع الحبر على الفراغات فوق عدد من الأجولة وبخاصة الصف العلوي قبل أن تحملها عربات النقل إلى المدينة. تتوسط المجمع خيمة يستريح فيها الفراز ويقوم بكتابة تقاريره ونتيجة الفرز، ويجلس داخلها وحولها الكثير من الفلاحين مترقبين درجات الفرز، وعلى الطريق العام صوت الشباب الذين يقومون بتحميل الأجولة على عربات النقل الواقفة على الطريق، كان معظمهم يعمل في ميناء الأسكندرية، ويبقى في القرية خلال فترة المجمع، كان الضجيج جميلاً، الضحكات والكر والفر والمزاح بكل مكان، ولو ارتفع صوت البعض غاضبًا من درجة الفرز، هرول الجميع إليه وينتهي الأمر بسلام. خلال عدة سنوات تعلمت هناك الكثير والكثير، كنتُ معروفًا بين الجميع، وخلال عودتي إلى البيت أو ذهابي للعب الكرة مساء أسأل كثير وبخاصة من زوجات الفلاحين: - الله يخليك يا "أبو عمار" ما تعرفش محصولنا خد فرز أه؟ - أه بالفيومي هي إيه بنطق أهل المدينة- كنت أحظى بسلام العمدة الذي كان الكل يتمنى الوقوف أمامه أو نيل شرف الجلوس بجانبه. وهناك ايضًا سمعت مئات الحكايا المدهشة والغريبة، الخيالية والحقيقية، البريئة والشريرة. لكني بكل أسف لم أكن قد تعلمت بعد كيف أختزن الحكايا.
24 نوفمبر 2012م
جوانج جو- كوريا الجنوبية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل