الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى مجزرة حلبجة: شهادة شادمان علي فتاح ــ كنتُ هنــاك !

يوسف ابو الفوز

2005 / 3 / 12
الادب والفن


يوم 16 آذار 1988 ، أرسل النظام الديكتاتوري المقبور طيور شره الحديدية لتنتهك سماء مدينة حلبجة الكردية الوادعة ، وتنثر غيوم الموت ، فتمطر السماء سموم الخردل والسيانيد وتكون حصيلة ذلك موت حوالي خمسة آلاف إنسان واصابة سبعة آلاف آخرين .
حينها صمتت القوى الكبرى ازاء الجريمة البشعة ، وفيما بعد ، حين تطلبت اللعبة السياسية كشف جرائم نظام الديكتاتور صدام حسين ، كتبت الصحف الأمريكية عنها .
السيدة شادمان علي فتاح ، كانت هناك يوم المجزرة ، وقد استشهد أبيها ذلك اليوم الأسود بالقنابل الكيمياوية . التقيناها وروت لنا شهادتها :
انا من مواليد 1970 في مدينة السليمانية . في غام 1988 كنت واخي محمد واختاي بهره وشيلان وهم اصغر مني سنا ، نقيم في حلبجة مع والدنا البناء المعروف باسم (اسطه علي ) ، والكادر الحزبي في تنظيم الحزب الشيوعي العراقي . كان بيتنا في محلة (كاني عاشقان) التي تقع في طرف المدينة ، قريبا من منطقة كولان المليئة بالبساتين .
كانت الأجواء السياسية مضطربة أواسط آذار 1988 ، فالأحاديث تتوالى حول احتمال هجوم ايران على مدينتنا .وانتشرت اشاعات تفيد بان نظام صدام حسين في حال دخول " الحرس الثوري" الإيراني الى المدينة سيستخدم الأسلحة الكيماوية ، كما فعل في مرات سابقة في مناطق أخرى من كوردستان مثل منطقة كرميان .
ظهر يوم 14 آذار كنت عائدة من مدرستي ، ونحن في موسم الامتحانات ، حين قامت مجموعة من المرتزقة "الجحوش " بمحاولة اقتحام دارنا . سألوا عن أبى اثر وشاية من " .... " الذي رافقهم الى باب البيت ، وتمكنت من الاقتراب منه وشتمته ، لكنهم اعطونا مهلة اسبوع لمغادرة المدينة .
طيلة ليلة 14 ـ 15 آذار ، تواصل قصف الراجمات ، وطيلة الليل لم ننم ، فايران بدأت الهجوم لاحتلال مدينتنا . سقطت قنابل قريبا جدا من مكاننا . اخذنا من بيتنا بعض المواد الغذائية ، وذهبنا الى ملجأ قريب واسع يعود لجيراننا . وجاءت الى الملجأ عوائل كثيرة ، حوالي خمسين شخصا . أمضينا هناك نهار 15 آذار .وجاء لمقابلة أبي اشخاص يعرفهم على صلة بقوات الجحوش . واقترحوا ان نذهب الى مدينة السليمانية وكانت سيارة (زيل) حاضرة لنقلنا. الكثير من العوائل أرسلت أطفالها ولم يبق معنا من جيراننا سوى السيدة الشجاعة افتاو زوجة احمد كوكويي التي كان لها مواقف وطنية قبل ان يغيبها النظام الديكتاتوري ، وجارنا الطيب العجوز مام نوري وزوجته. حاول أبى أرسالنا الى بيت عمنا في السليمانية فرفضنا وقررنا ان نبقى معه . عصرا هدأ القصف قليلا ، وحين غادرنا الملجا وجدنا الايرانيين قد دخلوا حلبجة. وتوقف تحليق طائرات النظام الديكتاتوري المقبور. وتوقف قصف الراجمات . واثار ذلك أبي فقال " هذا الهدوء يسبق شيئا ما ، يجب ان نغادر المدينة ، ولكن عليّ هذه الليلة ان انجز بعض الواجبات ، وغدا نغادر ". ورافقته في زيارته لبعض رفاقه الشيوعيين المختفين في بيوت المدينة ، وزرنا بيت صديقة لي وودعتها .
صباح 16 آذار نهضنا مبكرين من النوم ، اخذنا شيئا من الطعام وبعض الملابس، وجمع ابي بطاقات هوياتنا الشخصية ووضعها في جيبه. كان يعرف ان في منطقة (باني كولان) كهفا اصطناعيا بناه الشيوعيين الأنصار، ويلجأون اليه حين يضطرون الى الاختفاء قرب المدينة ، وحين وصلنا الكهف وجدنا المطر قد هدم جداره والماء يملأ ارضه.
عدنا الى بيتنا وبلغناه حوالي الساعة العاشرة والنصف ، وانصرفت الى شؤون البيت . وفي حوالي الساعة الحادية عشرة جاء طيران النظام الديكتاتوري الحربي وبدا يقصف مدينتنا . ولان بيتنا يقع في منطقة كاني عاشقان في طرف المدينة وقريبا من منطقة كولان فقد كنا بعيدين عن القصف المباشر.
لحظة بدا القصف كان أبي يتمشى في ساحة البيت . حملت اختي شيلان وركضت الى الملجأ، وكان سبقني الى هناك اخي محمد واختي بهره . وظل أبي في ساحة البيت يراقب ما يجري ، ثم التحق بنا . بقينا طيلة النهار في الملجأ. وكان أبي يخرج بين الحين وحين ليستطلع الموقف ، كنا نحسب انه هجوم عادي مثل كل مرة . لم نكن نعرف ما يجري بينما الطيران مستمر في قصف المدينة. وامتلا الملجأ بالناس ولم يعد فيه موطأ قدم ، وبدا بعض الناس بالهرب من المدينة .
طلبنا من والدنا ترك المدينة فوافق ، لكنه قال اننا سنذهب بعد ان ينجز مشوارا صغيرا ليطمئن على بعض رفاقه ، لكنه ما ان وصل باب الملجأ حتى عاد الي ، شد كتفيّ وقال : " اذا لم اعد فاهتمي باخوتك ". حاولت ثنيه عن الذهاب وحاول اخوتي دون نتيجة . غادر وكان حزينا ومهموما جدا . وبعد مغادرته بقليل جاء شاب الى الملجأ وصاح :" انهم يقصفون كيمياوي " .ومثلما تعلمنا من الأنصار بللنا قطع قماش بالماء ووضعناها على وجوهنا . وتولد لدي شعور غامض بان أبي لن يعود . انتظرناه طويلا . أظلمت الدنيا . وترك كل الناس الملجأ وبقينا لوحدنا . وجاءت عائلة بدون ابيها ، وكان أفرادها يلطمون ويبكون ، وفجأة دخل الاب فعم السرور وغادروا جميعا . وكنت احاول تهدئة اختيّ اللتين كانتا تبكيان بصمت . قلت لهم ساذهب لابحث عن ابينا بمفردي ، فرفضوا واتفقنا ان نذهب معا . حين وصلنا الى مدخل المحلة قابلنا جارنا مام نوري وزوجته والسيدة افتاو ، فاخبرناهم اننا نبحث عن ابينا ، غضبوا منا وقالوا ستموتون ، ومنعونا من الذهاب واجبرونا على العودة الى الملجأ . حارتنا تقع في منطقة عالية قليلا ، ولم تتعرض الى قصف مباشر . نام اخوتي وبقيت طول الليل انتظر ، واتسمع . كنت اخشى ان يعود أبي ويرى باب الملجأ مسدودا فيظن اننا تركناه .
فجر 17 آذار استاذنت مام نوري في الذهاب بحثا عن والدنا ، فقال لي خذي اخوك محمد معك، فايقظت اخي محمد من النوم وذهبنا . كانت حلبجة ساكنة . موحشة . في حارتنا لم نجد احدا . خطف من بعيد شخصان او ثلاثة . وفي وسط المدينة بدانا نشم رائحة غريبة ، ولم تكن كريهة. ذهبنا الى حارة (كاني قولكا) ، التي كان المفترض ان يذهب أبي اليها ، وهي تبعد مسيرة عشرين دقيقة تقريبا ، وبدات المفاجات المخيفة : شاهدنا جثثا ممددة في كل مكان . الوجوه مبيضّة وكأنها مرشوشة بطحين ، وبعضها مسود. كان هناك اناس يحتضرون ويئنون بألم. كان المشهد فظيعا. لم ابك ولم اصرخ .أصابنا ذهول عجيب وخرس تام . جسمي كان يرتجف. حاولنا العثور على ابينا . فكنا ندور بين الجثث ونبحث. ذهبنا الى بيت رفيق أبي السيد علي حاج اسماعيل وطرقنا بابه، لم يرد احد. قريبا منه تسكن اخته امينة، زوجة الشهيد سيد توفيق ، فذهبنا الى بيتها ، لكننا وجدنا امام الباب سيارة (بيكاب)، وفيها ناس ميتون يبدو انهم كانوا يحاولون الهرب. لم نسطع المواصلة. وقد تبين لاحقا ان والدنا استشهد في زقاق قريب ، لكننا انذاك لم نصل اليه . بدانا نشعر بالتعب وما زلنا نشم الرائحة الغريبة ، أنه الكيمياوي دون ريب، ولم نكن نعرف ماذا نفعل، وبدانا نشعر بصعوبة في المشي ، ونحس بالتعب وبحرقة في عيوننا .
عدنا الى الملجا، فاخبرنا مام نوري ان من الأفضل ان نغادر ونبتعد، توجهنا إلى بستان كولان حيث توجد سقائف الفلاحين(خانه باخ). وفي الطريق صادفنا بعض العوائل هاربة . سألنا بعضها عن ابينا ، لم يكن لديهم اي معلومات عنه . اتفقنا ان نبقى معا على مقربة من المدينة ومعنا مام نوري وزوجته والسيدة افتاو. كان القصف مستمرا ولكن بشكل متقطع . وجاءت حوالي خمس عوائل أخرى الى البستان ، وبقينا هناك حوالي أسبوع ، ثم عدنا إلى بيوتنا ، بعض العوائل بدأت تغادر إلى إيران ، أنا واخوتي رفضنا المغادرة وقررنا انتظار والدنا.
في يوم وصولنا الى البستان التقينا حاج لائق صديق مام نوري ، كان يبحث عن عائلته . وبعد ايام سمعنا صياح استغاثة وطلب مساعدة ، وكان هو حاج لائق الذي عصر على جثث عائلته وبدت ينقلهم لوحده بعربة تستخدم في اعمال البناء ليدفنهم في مقبرة كولان .
منذ الايام الاولى بدأت عيوني وعيون اخي محمد تضرر. صرت لا أستطيع ان أقرأ، ولا ارى جيدا واحتاج دائما الى الاقتراب من الشخص لرؤية ملامحه جيدا ، وكانت لدينا قطرات عين لمعالجة الحساسية فاستخدمناها ، ولا ندري ان نفعت في شئ ، المهم انه تدريجيا وخلال أسبوع تحسن بصرنا . وكنا نشرب من ماء النبع ، ونتجنب ما هو مكشوف .
وبقينا ننتظر المعجزة : ان يظهر والدنا بشكل مفاجئ مثلما ظهر اخرون . بعد حوالي اسبوعين جاء السيد حاجي باقي كوكويي ، وهو من الذين ساهموا في جمع الجثث في المدينة . كان يمت بصلة قرابة الى السيد احمد لادا ، وبعد ان اجتمع اليه نادوني ، وعرضوا علي بطاقة هوية شخصية لاتعرف عليها ، فوجدت انها بطاقة والدي . قال انه وجدها في جيب احد الشهداء ، الى جانب بطاقات هوية اخرى ، وقد اخذ هذه البطاقة ودس البقية في شق في الحائط عند المكان الذي عثروا على الجثة فيه . وصف لنا المكان ، وفورا أخذني السيد احمد لادا ومعنا زيان ابنة اخيه الى المكان فعثرنا على بقية البطاقات ، وكانت هوياتنا التي التي اخذها والدنا معه !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنا والست والجيران?? علاقة ممتعة بين مزاج صلاح عبدالله وصوت


.. كل الزوايا - الفنان أيمن الشيوي مدير المسرح القومي يوضح استع




.. كل الزوايا - هل الاقبال على المسرح بيكون كبير ولا متوسط؟ الف


.. كل الزوايا - بأسعار رمزية .. سينما الشعب تعرض 4 أفلام في موس




.. رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة يوضح الاستعدادات لعرض افلام