الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليتيم - إلى رمضان حسين -

بدر الدين شنن

2012 / 11 / 26
الادب والفن


لاتسلني .. بعد الآن .. ياعيد عن سالم ..
سالم توفي بالأمس ياعيد .. صار في عالم لارجعة منه أبداً .. انتقل من عالم العربدة ، الذي تمرد عليه .. إلى عالم غامض لاعلم له به .
وكما كانت حياته خياراً لم يستشره به أحد ، كما كان يقول ، ’وضع جسده بين خيارات .. لم تكن تسمح له أن يستشر . أين يدفن .. ؟ .. في حفرة من النار في الأرض المشتعلة .. التي شق سبل الحياة فوقها .. ؟ .. أم في حفرة من الصقيع في الأرض التي نقل جذوره إليها .. ؟ .. وحسمها من تولى أمره بعد موته : سوف يدفن في الأرض التي استقرت جذوره فيها .

وألقي سالم ياعيد في حفرة رملية رطبة .. لاتطالها حرارة شمس .. كالتي أدفأته في طفولته وشبابه ولما كبر .. ولاتتمدد إليها جذور نبتات وشجيرات من حوله .. كالتي كان يراها حول قبر أبيه .. شمس ونباتات تؤنسه .. حين يبدأ جسده يتفاعل مع كيمياء الأرض .

وكما كان طوال حياته ياعيد بسيطاً .. إلى أبعد حدود البساطة .. كان تشييع جثمانه بسيطاً .. ومثلما كانت كلماته مع الآخرين والأقربين فقيرة .. نابعة من فقره التعليمي والمعيشي .. كان تأبينه ، ممن تبرع أن يذكر بعضاً ، مما كان مشتركاً بينه وبينهم ، من زمالة ، ومعاناة ، وقربى ، كان فقيراً نابعاً من فقر معرفة .. من هو سالم .. وما الموقع الذي شغله سالم في صفوف من قرروا تغيير واقع طافح بالظلم .. وبناء عالم يفيض وفرة وعدالة وحرية .
* * *
ذات صباح .. قبل ثلاثين عاماً .. كان سالم مقيداً ، من يديه ، ورجليه ، مرمياً على الأرض في غرفة التحقيق . وكان ثلاثة رجال قد أعياهم التعب ، يجلسون حول طاولة يحتسون الشاي . قال أحدهم :
- " لك " كل هذا الضرب .. يوم وراء يوم .. لم نأخذ منه " لاحق ولا باطل " .. يظهر أنه لايعرف شيئاً عما نسأله .
قال ثان :
- إنظر إلى وجهه .. إلى ظهره .. ويديه .. لقد ازرق جلده كله من ضرب الكابلات " السياط الحيدية " .. أنظر إلى قدميه .. إنهما ستنفجران من التضخم .. ولم يتكلم .
قال الرجل الثالث :
- إنه خبيث .. لاتغرنك سذاجته .. وأيمانه .. بعد قليل سيتكلم .. أعدكم أنه سيتكلم .
ثم نهض الثلاثة وراحوا يفكرون ماذا سيفعلون . وخطرت لأحدهم فكرة فقال :
- أعطوني شفرة .
وجاء أحدهم بالشفرة . أخذها صاحب الفكرة وأمسكها بين اصبعين . وقرفص أمام قدمي سالم .. وبوحشية شق باطن أول قدم .. ثم باطن القدم الثانية ... وانفجر الاحتقان في القدمين .. وتطايرت قطرات متلاحقة من الدم على وجه الجلاد وعلى الجدار خلفه . ولما كان سالم يصرخ بكل ما تبقى عنده من طاقة .. ويكز على أسنانه .. وجسده كله ينتفض ألماً . والرؤية زاغت في عينيه .. أطلق الرجال الثلاثة ضحكات هيستيرية .. وعلا صوت أحدهم يقول :
- الآن سيتكلم ..
لكن سالم لم يتكلم .. وحمى بصمته الجليل زملاء له من مثل هذا المصير .. وحمى أيقونات حلمه من عبث اللئام الأغبياء .
* * *
من عالم اليتم الذليل في الطفولة .. إلى عالم الشقاء المرير بعدها في الشغل .. إلى عالم الفقر الفقير من كل مسرات الحياة .. ودفئها .. إلى خلف القضبان .. هكذا رسمت أقداره سيرورة حياته ..
ما كان يؤلم سالم خلف القضبان ياعيد .. ليس لأنه يدفع ثمن قناعاته .. أو ربما لابتعاد الحلم وراء الآفاق البعيدة .. بل لأنه ترك خلفه عائلة .. بناها مع رفيقة عمره .. طفلاً .. طفلاً .. قطعة .. قطعة .. ورعاها بكده المضني طوال نهاره وبعضاً من ليله . كان خلف القضبان يفتش عن ذاته التي جرحها التعذيب .. ويبحث عن اعتباره وسط من وجد نفسه بينهم دون سابق معرفة .. وكان يتمسك ببقايا حلم يحاول مفعول السجن أن يشكك فيه . كل ما كان يخيفه ، أن يغزو اليأس قلبه . ولما كان يشعر أن هذا الغزو يكاد أن يتمكن منه .. ينتفض ويرفض . وعاش وديعاً .. رقرقاً .. عذباً .. مع كل نسمة روح تشاركه اضطهاد القضبان وقسوتها .
كانت أمنيته ، في أوقات منع الزيارات ، أن يفوز بزيارة ذات يوم .. أن يرى وجوههم .. ويذكر أسماءهم واحداً .. واحداً .. وواحدة .. واحدة .. . ويغلق عينيه ويتصور أنهم حوله جالسين يبشرونه بحسن الحال .. وبوعد بزيارة أخرى قريباً . أشد أمنية قسوة على سالم ياعيد ، هي تلك التي تأتي أيام العيد ياعيد .. حين لازيارة .. ولاشيء يأتيه منهم يعوض بعض شوقه إليهم .
* * *
كان احتضار سالم عسيراً .. مديداً .. ياعيد . يمكنك أن تحدد بدايته منذ أن اقتلع جذوره من التراب الذي ولد عليه ، وعاش معظم عمره من خيره ، ليضرب هذه الجذور في أرض أخرى .. يوم انتقل من الشرق الذي كابد من فقره وظلمه .. إلى الغرب الذي فكر أنه سيتحرر ويتعافى من كوابيسه وحرماناته فوق أرضه . ورغم كل الضمانات والعنايات .. لم يحس سالم ياعيد أن روحه مرتاحة . كان بين وقت وآخر يجتاز المسافات المرهقة ، ليعيش أسابيع وأيام .. هناك في بلاد الشمس . ويعود ليركن كالمحاصر في بيته ، يحلم بالتوجه نحو الشرق مرة أخرى . ومرة بعد مرة ، لم يعد يرى بلاد الشمس .. انتشر في جسده الارتعاش المضني ، الذي شدد عليه الخناق ، حتى رماه ممدداً ثابتاً فوق السرير .
ودخل سالم ياعيد في صراع من أجل البقاء ، هو صراع أقسى ما يتصوره عقل . كان الجسد يقاوم .. كانت الروح تقاوم .. كان حلمه يقاوم . لم يستسلم بسهولة للموات الذي بدأ يزحف من أطرافه إلى بقية جسده . فقد التحكم برجليه .. ثم فقد التحكم بآليات أحشائه .. وفقد بصره وظل يقاوم . لم يبق له سوى بعض اللمحات من الذاكرة يشاهد من خلالها لقطات من حياته .. وأذن بالكاد تتوسط لمن يحدثه ليسمع .. ويد تلبي ببطء شديد بعض رغباته بالحركة .. وحركة لسان لم تعد تصدر عنها سوى كلمات قليلة تحتاج إلى إعادة تركيب لتفهم .
* * *
لقد تجاوز سالم يا عيد زمن الاحتضار المألوف في حالات مماثلة . لقد تمكن أن يغادر بروحه وذاكرته سريره الملتصق به .. مرات .. ومرات .. لقد تمكن من استعادة ذكريات وصور وأشخاص ومواقف . وبين وقت وآخر يقلقه السؤال .. هل وفيت بما وعدت .. هل سيتحقق الحلم الذي أعطيته عمري .. هل ستبقى العائلة ملمومة الشمل . وكان يبعد الاجابات الناقصة . وتنتعش روحه عندما تضعه الذكريات وسط من رافق وأحب . وترن في أذنه الضحكات الودية ، تعليقاً على فهمه مقومات الحلم وتجلياته لما يصير بين اليدين ممكناً . ويتذكر كيف كان يوجز ما اعتقد أنه صح ، ويؤكد ثقته أن الحلم قادم لامحالة .
قال ذات مرة .. أنا لم يتسن لي التعليم مثلكم ، ولذلك لم أقرأ الكتب السميكة .. أنا فهمي على قدي .. أنا أفهم الحلم .. أن لا يكون هناك فقير وغني .. وأفهمه أن الحرية للجميع من فوق إلى تحت .. وأفهمه أننا كلنا أخوة لاعبد ولاسيد .. اللقمة الكريمة للجميع .. الكرامة للجميع .. والوطن للجميع . وعند الوطن كانت الذكريات تتواتر أكثر من غيرها . ويخطر عليه الموت والقبر .. ويود أن يدفن إلى جوار أبيه وجده .. ويتواصل شريط الذكريات متقطعاً ملبياً رغبات بقايا إرادة تأبى الموات ..
* * *
استقر سالم في حفرة متواضعة ياعيد .. وانهال على تابوته الرمل كثيفاً ثقيلاً .
بكى من بكى .. وأسف من أسف .. وتبودلت التعازي . وذهب كل إلى مأواه وبيته . وبقي سالم يا عيد .. وحيداً يتيماً .. كما عاش طوال حياته .
وأسدل الليل أثوابه السوداء . وهيمن على المقبرة سكون قابض للنفس .. مثير للسؤال .. هل سكان هذا المكان يؤثرون الهدوء ليرتاحوا في جنة السكينة من هموم الحياة وعبثها .. أم هو الحزن الطوعي العميق ، الذي يتطلب أن يكونوا ساكنين إلى ما لانهاية ؟ ..
من يخدع من ياعيد .. نحن أم الزمن . منذ سنة لم يخطر ببال أحد أن زمن سالم قد قارب نهايته . وأن من هو .. أبسطنا .. وأطيبنا .. وأكثرنا رجولة .. سيتمكن الزمن منه .. ويوقف عجلة حياته .. ويأخذه منا ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ضحايا الإستبداد السوري لا تعدّ..!
مريم نجمه ( 2012 / 11 / 26 - 16:29 )
الكاتب المبدع الصديق بدر الدين شنن المحترم

قصتك الواقعية المعاشة يا عزيزنا بدر قمة المأساة والتضحية في سبيل الحرية الحقيقية لشعبنا السوري المصلوب في ( هولوكوست الإنتظار )الديكتاتوري الهمجي الطويل - نشاركك اّلامك مع اليتيم - يا سالم يا عيد - الحزينة , هي قصة شعبنا وقصة كل المناضلين الأحرار الشرفاء الذين دفعوا وقدموا حياتهم وأعمارهم وأفراحهم وأحلامهم الخاصة في سبيل المصلحة العامة , في سبيل تحرر الوطن المسروق , لبناء عالم أفضل بعيداً عن الرعب والقمع والمعتقلات والإستبداد .. عاش القلم أيها الرفيق العنيد وشكراً لهذا السرد الممتع ألماً .. مع كل التقدير والحب ولو اختلفنا بالّاراء في بعض الهوامش , لك الصحة وطول العمر يا أبو حميد ..
تحية الحرية


2 - حقوق ضحايا التعذيب المهدورة
بدر الدين شنن ( 2012 / 11 / 28 - 07:31 )
لم تأت شخصية سالم من الخيال .. وكذلك شخصية كل من عيد والقاص . إنهم من لحم ودم عاشوا ويعيشون بيننا . وهم يمثلون إذا جاز التعبير قوافل ضحايا التعذيب الذين يدفعون .. بعد نفاذهم من بين القضبان .. يدفعون ضريبة الاهمال . وما تضمنته رسالة اليتيم هو رفض القمع في كل عهوده وصوره وأشكاله الذي يشكل إهمال ضحايا التعذيب إحدى تجلياته .. كفى .. كفى .. كفى . لقد كابد شعبنا من القمع باسم القومية .. وباسم التقدمية .. وبدأ الآن معاناة القمع ياسم الديمقراطية الاسلامية .. و- باسم الديمقراطية الليبرالية. وحتى لاتتكر جرائم القمع .. وتهدر حقوق الإنسان قبل وأثناء الاعتقال وبعده .. ينبغي تعميق ثقافة الحرية بمضامينها الديمقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات . والابتعاد عن تفصيل هذه الحرية حسب طلباتنا .. ومن لاتتطابق عليه مقاسات طلباتنا ، نقمعه بالإقصاء والعزل لما نكون خارج السلطة ، ونقمعه بالاعتقال لما نصبح في السلطة . وتواصل رحى الاستبداد والقمع دورانها ، وتطحن المزيد من المعتقلين . ونحصل على مزيد من ضحايا التعذيب ، والكثير من الأيتام
وشكراً .. زميلتي العزيزة عى اهتماك

اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?