الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدور الاجتماعي للأدب ومسلمة النقد الأيديولوجي

ياسر محمد أسكيف

2012 / 11 / 27
الادب والفن


الدور الاجتماعي للأدب
ومسلّمة النقد الأيديولوجي

هل من دور اجتماعيّ للأدب ؟
سؤال قد يشيح سامعه بوجهه استهجانا ً , وربما أتى بفعل يشير إلى أن وقته أشدّ ضيقا ً من إضاعته في سماع الترّهات , أو في مناقشة ما حسم أمره منذ أمد بعيد . إذ ما من أحد يعزل الأدب عن دور اجتماعي منوط به , حتى أولئك الذين يتجهون إلى دعم , أو ممارسة , مقولة "الفن للفن " , إذ لن يصمدوا بدعواهم طويلا ً أمام أي تحليل ودراسة للنموذج النصي في سياق تاريخي اجتماعي مُحدّد . ( التسلية والإضحاك أدوار اجتماعيّة بكل تأكيد ) . وهذا الدور الذي تتم إناطته بالأدب يتدرّج ضمن طيف واسع من المهمّات والغايات تبدأ بتهذيب النفوس وتعزيز الأخلاق " الحميدة " وصولا ً إلى المساهمة في تغيير العالم بعد استبصار خفاياه وتفسيرها .
ليس السؤال عن دور الأدب جديدا ً . أو هكذا يبدو , حينما لا تكون الإجابة ضرورة لازمة . غير أن ذاك الذي يشيح بوجهه مستهجنا ً سينقلب على إجابته حالما يُدرك أن آخرين يرون للأدب أدورا ً أخرى غير التي رآها , أدوار لا تتفق مع القناعة التي بنيت عليها الإجابة . وتبدو ال " نعم " هنا , التي لم يكلّف نفسه عناء النطق بها , ليست تلك المتعارف عليها كنقيض لل" لا " والعكس . بل هي " نعم " في حالة شديدة الخصوصيّة والذاتيّة , تتحول إلى " لا " في باقي الحالات , وكأنها إجابة عن سؤال يخصّ معنى الأدب وليس دوره . وهنا تضمر الإجابة ارتباطا ً بين ما يحقق الدور الذي يعزّز الإجابة ب" نعم " وبين الأدب , إذ يبدو كل ما لا يحقق هذا الارتباط شيئا ً آخر لكنه ليس " الأدب " بكل تأكيد .
جديد السؤال إذا ً هو في الكشف عن أنه سؤال يقوم على غير " المتفق عليه " . وهو بالتالي أسئلة وليس سؤالا ً . وكي يعود إلى صيغة المُفرد , عليه أن يتخفّف من لباس الفاعليّة والانتماء , وأن يتوضّع في صفّ " المجرّد " .
ما الأدب ؟ وكأنما هي الصيغة التي تنقذ السؤال من التشتت والتشرذم . غير أن الإجابات ستكشف نسقا ً بالغ الحديّة والاتساع , وبالغ الاكتظاظ بالممارسات الإلغائية . إذ سيتدرّج معنى "الأدب " , كما تُظهره الإجابات , من السير الشعبيّة وقصص الأنبياء والرسل وصولا ً إلى النصوص المفتوحة والعابرة للأجناس . وكل معنى من هذه المعاني يُنكر على المعاني الأخرى حق انتسابها إلى " الأدب " . ولأن تلك المعاني جميعا ً , إضافة إلى مولّدات معان أخرى (سينما – دراما – صحافة – إعلان ) تشكل أغلب الخطاب المؤثر , ويجمعها ذات الدور , أو الغاية , فيمكننا إعادة صياغة السؤال بطريقة تُبقي على المُشترك : ما الخطاب المؤثر ؟ وبشكل أكثر وضوحا : ما الخطاب الذي تتوفر أشكاله على القصديّة في التأثير, والإقناع , والتعبئة ؟ هنا سيكون السؤال أكثر طمأنة , وعليه ستتسم الإجابة بالجرأة وقلّة الحذر , ذلك أنه ما من إجابة , حتى الأكثر سذاجة , إلا وتمتلك نصيبها من الصحّة نظرا ً للمصفوفة الطويلة جدّا ً التي تشكل ذلك الخطاب .
وفي معاينة عناصر المصفوفة سنعثر على مُشترك " عُرفيّ " صاغته المؤسسة الأكاديميّة الرسميّة , كمفهوم ل" الأدب " ودرج الجميع على تداوله : الشعر – القصّة - الرواية – الخاطرة - المقالة – المسرحيّة . وسوف يكون هذا المفهوم , منعا ً للالتباس والإطالة , هو الذي سنعتمده فيما سيلي , دون أن نغفل عن كونه " جزءا ً " من الخطاب المؤثر وليس الخطاب كلّه , كما أننا سنبقى على حذر تجاه التفريط , مهما كان ضئيلا ً , تجاه تاريخيّة هذا المفهوم , وتجاه زئبقيته أيضا ً .
ما علينا قوله الآن . أنه في كلّ ما سبق ثمّة ما يشير إلى التباس يُعيد إنتاج نفسه مع كلّ صيغة جديدة للسؤال . وفي المعاينة يتكشف أن الالتباس حاصل نتيجة للافتراض بأن " الأيديولوجيا " و "الأدب " حقلان منفصلان , أو أنهما من طبيعتين مُختلفتين . مع أن المفهوم الذي قبلنا باعتماده للأدب يعكس تماما ً مدى تلبيته لرؤية فئة مُعيّنة وتحقيقه لغاياتها .
ويبدو أن السمة الأيديولوجيّة ل " الأدب " تظهر متناسبة طرديّا ً مع مدى وعي هذا الأدب لأدوار " ميتا أدبيّة " مُناطة به . إذ أنه , ومن خلال وعيه لدوره , يقفز فوق شرط القبول ومؤهلاته , بتنكبه لمهمّة مركّبة يتجسد حدّها الأول في الإطاحة بالأعراف الأدبيّة السائدة , وإحلال البديل , وأما حدّها الثاني فهو العمل على تهيئة , أو إعداد , الذائقة لقبول البديل كعرف أدبي جديد . وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن غاية الأدب , أي أدب , هي تحقيق القبول , أي التحوّل إلى عرف سائد , وإلى جزء من الرؤيا المستقرّة للعالم , فمسألة وعيه لدوره في إزاحة قيَم وتحطيم أعراف , وفي إحداث القبول والتحوّل أمر ينطوي عليه جوهره . ولكن ما يغيب عن الأذهان هو أن قيمة أدب ما لا تأتي من مقدار إطاحته بأعراف أدبية سائدة بل بمدى قدرته على امتلاك الفرصة ( عبر الإمكانية ) للتحوّل إلى عرف جديد . وتاريخ الأدب يقدّم الكثير من النماذج التي أحدثت دويا ً هائلا ً في اختراقها لأعراف مرحلتها غير أنها مرّت وكأنما لم توجد ( الدادائيّة – السوريالية – الوجوديّة - ..) ومنها ما اعتبر في حينه مجرّد " تفاهات " و " سخافات " لا تسترعي كبير اهتمام , ولكنها تحوّلت إلى " أيقونات " أدبيّة , ونماذج بلاغيّة , لا يمكن تجاهلها . وغاية القول هنا هو أن وعي الأدب لدوره في خرق السائد وتفكيكه أمر خارج إرادته ونواياه , ويتعلق بشكل رئيسي في مدى تهلهل وانحطاط المنظومة الرمزيّة العامة التي تحتاج , من أجل تدعيمها وتقويتها , إلى عناصر جديدة . والسؤال هنا , فيما يخصّ الزمان والمكان العربيين , وعلى سبيل المثال : هل تحوّلت الرواية ومعها القصّة القصيرة والأشكال الجديدة من الشعر إلى أعراف أدبيّة ؟ قد يبدو السؤال مُباغتا ً , وغريبا ً على الطرح , كما أنه ينطوي على الضعف وعدم المشروعيّة أكثر مما ينطوي على عكسهما . وكي يبدو أكثر مشروعيّة سيُدعم بسؤال يتقدّمه فيما يتأخر عليه : هل القراءة بحدّ ذاتها في الآن – هنا عرفا ً ؟
وعند هذه النقطة سنلاحظ بأن الأدب العربي الحديث , وبسبب ما أصابه من إفراط وظيفي , قد غدا عاجزا ً عن الدخول كعنصر بنيوي في المنظومة البلاغيّة العامة , لأنه ببساطة شديدة , وسعيّا ً منه لإيجاد قارئه , وقبلها ( القارىء ) الذي يجسّد مُستهلكا ً حقيقيا ً للمعرفة , سرعان ما يسفر عن النوايا التي تسهلّ وتبرّر استنفار عناصر الرمزية المُسيطرة ومحاكمته بتهمة الإخلال بالنظام العام وتهديد السلم الأهلي !! !
لقد أكد تاريخ الأدب على أن مهمّته الأخير استقرّت على مذهبين رئيسيين متصارعين ينطلقان من رؤيتين مختلفتين للعالم . تتمثل الأولى بالمكتمل والنهائي من صفات وأبعاد , أي بذلك الذي حدث مرّة كوجود , ولا يمكنه الحدوث ثانيّة إلا كفناء . وأما الثانيّة فتجد في المتغيّر والمتبدل سنّة هذا الكون , وتستند في تشكلها إلى المُعطيات التاريخيّة . ولأنهما رؤيتان متعايشتان بدون تكافؤ فإن الخطاب , أو البلاغة , كتعبير عن كليهما , تنطوي بالضرورة على مؤشر الانقسام بما تحاول استجلابه من دعم لنظام معيّن من القيم دون سواه . ولأن كلّ الأشكال الأدبيّة , ببواعثها , وبغاياتها المختلفة , تنطوي على رغبة أكيدة في القبول والتحوّل إلى أمر شائع فإنها , كمكوّنات بلاغيّة ( تنكب على " الشعور " لأنها معنيّة على وجه التحديد بأن توقظ فينا وتضبط تلك الأجزاء التي تكاد أن تكون اجتماعيّة صرفا ً . تلك الأجزاء الاجتماعية الأشدّ " آليّة " . – فرانكو موريتي – سوسيولوجيا الأشكال الأدبية – ترجمة : ثائر ديب – ص 22 ) وهذا ما يؤكده المُنتج الأدبي العربي بكافة الأطياف التي تتدرج فيها بواعثه , بما فيها ذلك الخطاب الطليعي – المستقبلي , حيث السعي المحموم على بعث وإحياء المنظومات الرمزيّة , النائمة منها والمقصيّة , منظومات تشكّل إلى حدّ ما جزءا ً هامّا ً من اللاوعي الجمعي , والهدف من بعثها , أو إحيائها , كما لا يخفى , هو استجرار الدعم والمؤازرة دونما إسراف في محاولات الإقناع , وقد يتجاوز الإحياء تلك العناصر إلى الرموز الأسطوريّة وأنسنتها , في محاولة لتحييد القدريّة التاريخيّة . وهذا يجعلنا ننتهي إلى أنه ما من " أدب " أيديولوجي وآخر غير ذلك , إنما هنالك من يجيد إخفاء الأمر وآخر يخفق في ذلك .
ومع " النقد الأدبي " يُصبح أمر التخفي والتمويه أكثر مشقّة . ذلك أنه مُتّهم بآليات عمله ذاتها , أي بكيفيّة وجوده . وعند تمحيص الاتهامات الموّجهة , على مدى السنين الماضية , إلى النقد الأدبي العربي بخصوص نزعته الأيديولوجيّة نكتشف بأن تهمة كهذه من الطبيعي أن توّجه , ولكن ليس للنقد وحده بل للأدب أيضا ً . ذلك أن الموقف النقدي ( تجاه الأدب أو غيره ) لا ينفصل عن فكرة الاحتجاج على واقع مُعيّن , كما لا ينفصل عن الرغبة في التغيير والنزوع إلى تأجيجها , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى هنالك خلط وقع على الدوام بين النقد الأدبي وبيانات الدعوة ( التي ازدحم بها , عربيّا ً , النصف الثاني من القرن الماضي ) إلى شكل مرسوم ومحدّد لمفهوم " الأدب " بحيث لم يعد الكتاب قادرين على أن يروا من النقد الأدبي سوى هذه الصيغ الشعاراتيّة التي لا تتعامل مع الأدب كموضوع للدراسة , بل كمقياس لمدى تطابقه مع وصاياها . وأعتقد بأن كلّ من يقيم حجّته على تلك البيانات ليبرّر صحّة اتهامه للنقد ب " الأيديولوجي " ليس سوى صائد أعذار لم يعرف بعد حتى الأشكال البسيطة من النقد الأدبي .
وبما أن " الأدب " ليس إلا جزءا ً من النسيج البلاغي أو الخطاب المؤثر فإن أية دعوة إلى نقد أدبي مُنزّه عن القصديّة ستبدو دعوة مُشبعة بالمبالغة , كما ستبدو كثيرة الاطمئنان إلى سند مفقود , ومن ناحية أخرى ستبدو إقرارا ً خفيّا ً بلا قصديّة الأدب , أي إزاحة له من ساحة الخطاب المؤثر , وحتى من حقل البلاغة كاملا ً . الأمر الذي يؤشر إلى تناقض بيّن , إن لم نقل نظرة عين حسيرة .
وإذا كان النص الأدبي أكثر قدرة على التمويه مقارنة بالنص النقدي فيما يخص ملاءته الأيديولوجيّة , لأسباب توفرها المكوّنات البلاغية , فهذا لا يعفيه من تلك الملاءة التي يُظهرها النقد من خلال عمله على المكوّنات التي تشكّل الواقعة الأدبية , وخاصّة أن النقد يعمل في الأساس على كيفيّة عمل هذه المكوّنات . وهنا تبدو العودة إلى سؤال البداية أمرا ً يعدُ بالفائدة على ما أظن . إذ يتضح لنا بأن الاشتراطات التي تشكل السبب في انقلاب الإجابة على ذاتها بين " نعم " و" لا " هي اشتراطات نقديّة بالدرجة الأولى . إذ أن الإقرار بدور اجتماعي للأدب يقابله رفض لهذا الدور فيما يخصّ النقد الأدبي , وتحديدا ً حينما يُظهر تحيّز الأول وترجمته لقناعات وآراء فئة اجتماعيّة محدّدة , أي حينما ينضمّ النقد إلى الجميع في تأكيدهم على ذلك الدور عبر إظهار الطبيعة الأيديولوجيّة لأشكال البلاغة كافة , ومنها الأدب بطبيعة الحال . وفي حالة الأدب العربي فإن الأيديولوجيا صنو الأدب , إذ أنه أدب لا يرى في نفسه إلا مُحرّضا ً على التغيير ومساهما ً به , إنه إشارة دائمة إلى عدم الرضا . وهذا أمر طبيعي في مجتمع يعاين أفراده في كلّ لحظة مدى تخلفه عمّا آل إليه الآخرون . ولأن التغيير المنظور يُقصد منه التقدّم للحاق بلحظة الآخرين , فإن خلافا ً على معنى " التقدم " يشطره إلى مفهومين متناقضين . فالذين يجرّدون هذا المفهوم ويجعلون منه مفهوما ً لا " تاريخيّا ً " يمكنهم ببساطة أن يعتبروا ال" نكوص " أو ال" ارتكاس " بعضا ً من معانيه , لمجرّد أنها تنطوي على معنى الانتقال من راهن . بينما لا يساوم آخرون على التاريخيّة المحض لمفهوم " التقدّم " . ولهذا فإن الفكر النقدي , ومن ضمنه النقد الأدبي , الذي يتخذ من المتغيّر جوهرا ً لاشتغاله , سيبدو غائبا ً تماما ً عن ساحة اشتغال اللاتاريخي , وسيبدو منحازا ً لجهة دون غيرها . مع أن الانحياز الملحوظ ليس انحيازا ً , أي موقفا ً طارئا ً من واقعة ٍ , بقدر ما هو مسألة ارتباط بنيوي على قدر كبير من الطبيعيّة . وإذا كان من مكان للحديث عن التحيّز فإنه في حقل التحفظات , وليس الممارسات النقديّة , التي تبديها وجهات النظر اللاتاريخيّة , عبر اتخاذها من مسلماتها , غير الحاصلة على الاجماع بشأن التسليم , حُجَجا ً وبراهين على عدم صوابيّة الآخر .
أخيرا ً : آمل أنني قد قاربت ما كان غايتي , وبيّنت بأن الأيديولوجيا لا تكون " أشعبا ً " في ولائم " الأدب " و " النقد الأدبي " بل هما " الضيوف " وهي " ربّ المنزل " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?