الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طاقية أبي

محمود عبد الغفار غيضان

2012 / 11 / 27
الادب والفن


طاقية أبي والشعر الأبيض

حكى أبي مرارًا تلك الحادثة على أطراف حكايات ابيضاض الشعر. لم أعد أذكر كم سنة قضى أبي في الخدمة العسكرية الأساسية، فأبي لم يكن يكرر إلا أنه قضى في الاحتياط سبع سنوات... قال أبي: ذات نوبة حراسة ما، كنت أمشي ومعي سلاحي والناي- كان أبي يعشق الناي ويجيده صبيا- وفي الليل الطويل الذي لا تتبدد مخاوفه إلا بخيوط الفجر.. سمعتُ صوتهم... أكثر من خمسة.. ربما عشرة- هكذا قال- لم يرهم.. عرف من أصواتهم أنهم الأعداء.. كيف تسللوا إلى هنا؟ كيف دخلوا نقطة حراسته على الحدود؟ ماذا يفعل؟ إنه وحيد.. وهم كثير.. إطلاق النَّار في الهواء لن يرهبهم، ولا توجد فرصة لمباغتتهم، والذحيرة التي معي غير كافية أبدًا. بناتي- وهن كثيراتٌ- مَن سيربيهن؟ زملائي في المعسكر محدود القوة مَنْ سيحميهم لو كان الأوغاد قد أتوا مدججين بعتادهم منتظرين معرفة خبايا المكان؟

قال أبي: مئات الأسئلة كانت تقتلني، لكن دعاء أمي وزوجتي ألقياني في حفرة عشتُ حتى الآن لا أعرف مِن أين أتت.. وقعت في الحفرة وانهال علي التراب.. وبالناي عملت فتحة في الرمل للتنفس.. كنت أسمع أصواتهم وضجيجهم..لابد أنهم سمعوا صوت سقوطي في الحفرة..لا أعرف لغتهم لكني كنت أعرف مخمنًا ماذا يقولون: أين هو؟ لابد أن نجده.. لابد من أسره أو قتله.. لن نغادر المكان قبل العثور عليه... ظلوا يروحون ويجيئون وأنا أنتظر موتًا أو حياة لا أعرف..

قال لي أبي: كل الذي عرفته هو آلاف الصور عن جدك وأمك وأخواتك البنات.. عن الشهادة من أجل الوطن.. هكذا قال أبي.. ولما اختفى الصوت لم أتعجل في الخروج لعلهم يخادعونني... تابع أبي حكايته التي لم ينس تفاصيلها ولم تفقد طزاجتها أبدًا مع كل مرةٍ حكاها، قال أبي: انتظرت طويلا ولما أخرجت رأسي إلى سطح الأرض كان الصباح قد صحبني حتى المعسكر.. كانوا على وشك وضعي في عداد المفقودين لأني لم أعد لنوبة تبديل الحراسة.. فرحوا كثيرًا لرجوعي.. بطانية وسيجارة وكوب شاي أُحضِرت للعنبر بسرعة من أجلي...

وبينما كان أبي يحكي ما حدث لي بكل دقة، كان دائمًا يختتم هذا المشهد بقوله: كل شعره لمستها طاقيتي وأنا أخلعها آنذاك صارت بيضاء في اليوم التالي.. ظننتُ منذ تلك اللحظة أن شعري لن يبيضَّ أبدًا... فنحن ننعم بالسلام والأمان في وطننا... فلا حرب ولا كمائن منصوبة ولا أعداء!!! كان أبي في الخامسة والثلاثين آنذاك عندما ابيض شعره.. وبينما كنتُ أتأهب للخروج بعد تأنق خاص.. أمعنت النظر في المرآة فوجدت بعض شعيرات بيض... ظننت الأمر مجرد رؤية خاطئة بسبب الضوء الخلفي المنعكس على المرآه..

بعد شهر أو يزيد كان الشعر الأبيض ملحوظًا. ظللتُ أبحث عن حادثة مماثلة قد حدثت لي.. عن فزع أوشكتُ معه أنْ أفقد حياتي.. لم أجد إلا أنني كنتُ آنذاك في الخامسة والعشرين فحسب.


كوريا الجنوبية
27 نوفمبر 2012م









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس


.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل




.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر