الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-عبد المنعم رمضان- وحنينه العاري

سهير المصادفة

2012 / 11 / 28
الادب والفن



لم أصل إلى نهاية ثمانينيات القرن العشرين إلا وأنا غارقةٌ تمامًا في فِتنة وزهو وفوقية "المتنبي"، وحواري "نجيب محفوظ" وشخوصه الجالسة على المقاهي أو المستندة على ما تبقى من أسوار قاهرة الصقلي، كنت لا أدرى ماذا أنا فاعلةٌ بنفسي المحتشدة بالكلمات حتى اصطدمت اصطدامًا صاعقًا ومدويًّا بشعراء جيل السبعينيات.. بدوا لي آنذاك أقوياء للغاية وأسطوريين يسيرون في الحياة الثقافية كما سِرب أسودٍ يزود بعضه عن بعضٍ، وربما هذا ما جعلهم الأكثر جدارة بين كلّ الأجيال السابقة أو اللاحقة عليهم لحمل كلمة جيل، حتى بات من المتعارف عليه أنه بمجرد نطقها يتبادر إلى ذهننا.. جيل السبعينيات.
كان ملمحٌ من ملامح طوباويتى قبل أن ألتقيهم فكرتي عن الشاعر وتحديدًا عن الشاعر.. رأيت في أحلام يقظتي "المتنبي" في بُردةٍ ذهبيةٍ مرَّصعةٍ بالماس، ورأيت "أبا نواس" في عباءةٍ فضيةٍ وإلى جوار حصانه الأدهم يعدو عددٌ من المماليك، ورأيت أمير الشعراء "أحمد شوقي" في بزةٍ باريسية وهو يتلو بيتَ شعرٍ على أحد الملوك، ثم رأيت "عبد المنعم رمضان" وكان بسيطًا كحصى الأرضِ الطيبة وراسخًا مثل حجارة الأهرامات ومشعثًا مثل فارسٍ لم يحظِ أبدًا باستراحة مُحارب.. أخذ بيدي عبر دواوينه ودون أن يدرى إلى آفاقٍ أرحب وعرفني إلى "الحلاج" و"النفرى" و"ابن عربي" وآخرين، وصار منذ اللحظة الأولى وأيضًا دون أن يدرى واحدٌ من الضمائر الكبرى التي ستحكم أدائي الثقافي العام ومشروعي الإبداعي، أتابع مقالاته التي لم يكتبها بقلمه الشعري الفاتن فقط بل أيضًا بسيفٍ مسلولٍ لا يخشى في الحق لومة لائم، وكنت عندما أصافحه بشكلٍ عابرٍ لا أجد ما أقول إلاّ: والنثرُ فضَّاح الشعراء أيها الشاعر الكبير.
صدر للشاعر الكبير بحق "عبد المنعم رمضان" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أحدث دواوينه بعنوان "الحنين العاري"، وكان علينا أن نذبح الذبائح منذ صدوره وحتى هذه اللحظة، لكن بعيدًا عن شجون المشهد الثقافي والأدبي وبعيدًا عن تبرير الصمت المواكب لصدور الديوان والذي قد يعزّى إلى صعوبة الكتابة عن ديوانٍ لشاعرٍ كبيرٍ ومحاصرة المفردات الجمالية لقصيده، بعيدًا عن هذا كله وأكثر سأحاول الاحتفاء هنا بـ"الحنين العاري"، والحنين العاري ينساب في هذا الديوان مترقرقًا حاملاً ذروات زبَدَه مثل شلالات كبرى لا نعرف لها منبعًا ولا نهتم أن نراها وهى ترتاح في مصبَّاتها، سيبدو الحنين كأنه عارٍ بالفعل أحيانًا:
كأنكِ الأرضُ التي يسيرُ فوقها الحمام
كأنكِ الظلام
كأنكِ الرياح
من الوراء هكذا إلى الأمام.
لكننا سرعان ما سنكتشف أننا قد خُدعنا وأن الحنين كان طوال الوقت متدثرًا بلآلئ شديدة الندرة والتفرد لم تُر من قبل، وبرؤى الشاعر المتفجرة تمردًا وثورةً وعلمًا وثقافةً ونضجًا في محاصرة المجاز ونزع تقليديته وإعادة وضع تعريفٍ جديدٍ له يخصُّ "عبد المنعم رمضان" وحده:
سوف أسحبُ الموسيقى
إلى الإسطبل
وأعلِّقها من أقدامها الخلفية
وبمشقةٍ أحبسها.
"الحنين العارى" ــ والذي بلغت صفحاته مائة وسبع وثمانين صفحة من القطع الكبير وبخط يد الشاعر نفسه ــ ليس عاريًا أبدًا وإنما يتدثر طوال صفحات الديوان بقاموسٍ لغوى ثرى وشديد العذوبة وجديد على آثار "عبد المنعم رمضان" الشعرية السابقة، وتكاد مفردات الديوان من فرط رقتها وشفافيتها تقترب ليس فقط إلى محاصرة العالم وكتابته بل إلى وضع هذا العالم في راحة كفِّ الشاعر، وأنا هنا أستند إلى عنوان رواية "جيوكندا بيلى" "الكون في راحة الكفّ"، فيصبح العالم في راحة كفّ الشاعر كرةً كريستالية تُسرُّ له بأسرارها فيهدهدها تارةً ويعنفها تارة أخرى ويستنطقها أطوارًا:
لم يكن كافيًّا
أن أرى حافَّة الأرضِ
ترتجُّ ثمَّ تفورُ
وتخرجُ منها المدينةُ عاريةً
وأصابعها العشرُ
مشبوكةٌ في السماء.
لا أدرى لماذا باغتتني قصيدة من قصائد الديوان بعنوان الديوان نفسه "الحنين العاري"! هل لأنني تمنيت أن يظلَّ العنوان واحدًا على الغلاف ليقترب من واقعه فيصير عنوانًا لقصيدٍ شعري جديدٍ وفادح الجمال كأنه إحدى معلقِّات القدامى؟! خصوصًا والشاعر الكبير نفسه مدركٌ هذا بالطبع إدراكًا لا يقبل التأويل، ففي أولى قصائده بعنوان "بعد السقوط" يستهل حنينه هكذا:
أتبعُ الحنينَ الذي يوقفني
قربَ الهاوية
الحنين الذي مثل كلِّ ليلةٍ
يمتدُّ
وهو بالفعل يمتدُّ أيها الشاعر الكبير طوال صفحات ديوانكَ الآسر الفاتن، يمتدُّ عاريًّا ومتدثرًا في الوقت نفسه بكلِّ ما خبرنا من جمال الشعر حتى هذه اللحظة، هذا الحنينُ ممتدٌّ وأنتَ تتبعه ونحن نتبعك بالطبع لأننا غاوون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل