الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو عالم آخر ممكن

ماجدة تامر

2005 / 3 / 13
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إن القيم الثلاث التي تستند إليها مؤتمرات العولمة في "دافوس" و "نيويورك" وغيرها هي الدولار واليورو والين الياباني .
ولا تخلو أية واحدة من هذه القيم من المتناقضات ، ولكن في مجملها تشكل مجموعة من القيم الليبرالية الجديدة الآخذة بالتعميم .
والسمة المشتركة لهذه القيم هي طبيعتها الكمية حصرا ، فهي لا تعرف الخير أو الشر ولا تميز بين العدالة أو الظلم ، إنها لا تعرف سوى الكميات والأرقام والأعداد . فالذي يملك مليارا من أي من هذه العملات ، فان قيمته تكون اكبر ممن يملك الآلاف منها ، وبناء على ذلك فالذي لا يمتلك شيئا لا يساوي شيئا وفق سلم القيم التي تعتمدها أي من تلك المؤتمرات .
وبهذا الشكل يبدو أن الإنسان لا وجود له ، فهو خارج السوق وبالتالي خارج العالم المتحضر . وإذا ما أخذنا القيم الثلاث السابقة مجتمعة ، فإنها تشكل محور السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي تتكون من العملة والسوق والثروة أو رأس المال .
إن الأمر يتعلق بعبودية مادية بحتة ، لان الحب الأعمى للمال والسوق في الزمن الحاضر ، يشبه إلى حد ما صورة الشعوب البدائية التي كانت تعبد الأصنام ، معتبرة أن هناك أشياء لها قدرة سحرية على حماية أصحابها أو مساعدتهم .
هذا التأليه للتجارة الجشعة يعتبر بمثابة ديانة جديدة لها طقوسها الخاصة بها . وأما أماكن عبادتها فهي البورصات ومكاتبها المقدسة هي صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها ، ومن أهم برامج أعمالها مطاردة الهراطقة أي الذين لا دين لهم ، وبمعنى آخر وحسب اعتبارها ، الذين لايملكون المال .
إن حضارة المال هي تلك التي تحول الأرض والماء والهواء والعواطف والقناعات إلى بضائع تباع لمن يدفع أكثر ، وتجاه هذه الروح التجارية المولعة بالربح فقط . فان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس لمناهضة العولمة في " بورتو أليغري " في البرازيل ، يترجم رفضه لها بقوله : " العالم ليس بضاعة للبيع ".
لأن المنتدى يتطلع بقوة إلى نوع آخر من الحضارة مبني على قيم أخرى غير المال أو رأس المال . فما هي القيم التي يستلهمها ذلك المشروع البديل . ؟
هي تلك القيم النوعية غير القابلة للتحول إلى مجرد كميات من المال ، وهي القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية المشتركة بالنسبة لأغلبية الجماعات والشبكات التي تشكل حركة عالمية كبرى مناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة .
فإذا عدنا إلى الوراء قليلا ، نجد أن القيم الثلاث المستوحاة من الثورة الفرنسية عام 1789 والحاضرة في جميع حركات الانعتاق والتحرر الاجتماعي في التاريخ المعاصر لم تعد تكفي لمواكبة العصر وهي : الحرية والمساواة والإخاء .
ولقد أشار " ارنست بلوخ " في كتابه " الحق الطبيعي والكرامة الإنسانية " عام 1961 ، إلى أن مبادىء الثورة الفرنسية محفورة الآن على واجهات الأبنية العامة في فرنسا ، ولكنها لم تجسد بعد كما يجب . فقد تم استبدالها بالفروسية والمشاة والمدفعية وشكلت لدى الطبقات الحاكمة جزءا من التقاليد البالية والوعود الفارغة .
ولكن إذا نظرنا إلى هذه القيم عن كثب من وجهة نظر ضحايا الأنظمة المعاصرة سوف تكتشف طاقاتها الكامنة المتفجرة في مواجهة حضارة المال هذه . فكم هي الآن حاضرة في الأذهان وواقعية في معركة اليوم !
وفي زمن مضى تم لاستيلاء على الحريات بالرغم من قرون طويلة من النضال ضد التسلط والفاشية والاستبداد والديكتاتورية . إلا أن الحرية اليوم هي إزاء شكل آخر من أشكال السيطرة والاستغلال . إنها أمام ديكتاتورية السوق وأصحاب البنوك والشركات المتعددة الجنسيات التي تفرض مصالحها على العالم .
إنها الديكتاتورية الإمبريالية المتمثلة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للولايات المتحدة ، والتي فاقت سلطتها العالمية تلك الإمبراطوريات الاستعمارية في الماضي .
إنها الديكتاتورية التي تختبىء وراءها أسماء مغفلة وقوى عمياء تمارس نفوذها بمنطق لسوق ورأس المال ، ونفرض نفسها عبر مؤسسات وشركات ومنظمات مالية وعسكرية ، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي .
إن إحدى هذه الثغرات في الثورة الفرنسية هي أنها استثنت النساء من المواطنية . فالمرأة الجمهورية " اولامب دي غوج " التي كتبت عن " إعلان حقوق المرأة والمواطنية " كانت قد أعدمت شنقا عام 1793 . فالمبدأ المعاصر عن الحرية لايمكنه أبدا تجاهل المرأة التي تمثل نصف المجتمع ، ولا يقبل بفكرة اضطهادها أو استعبادها .
والحرية تبقى ناقصة ما لم ندرك الأهمية الرئيسية لنضال المرأة من اجل التحرر وحقها في العيش بكرامة . وإذا ما أخذنا موضوع المساواة ، نجد أن هذه القيمة موجودة في تشريعات الثورة الفرنسية الأولى التي وضعت مبدأ المساواة أمام القانون .
إن وجود المساواة والعدالة الاجتماعية ــ وهما قيمتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض ــ يستدعي وجود مجتمع بديل يأخذ بعين الاعتبار إتباع طرق أخرى للإنتاج والتوزيع . وفي الواقع فان عدم المساواة من الناحية الاقتصادية ليس هو الشكل الوحيد من الظلم في المجتمع الليبرالي الحديث : فهناك التمييز العنصري والعرقي لمجرد الاختلاف في اللون واللغة أو الدين . مما يدفع البعض نحو الهجرة التي غالبا ما تكون آثارها وخيمة عليهم أو العيش في ظروف اقتصادية قاسية بسبب الاعتبارات الاجتماعية التي يفرضها المجتمع .
وماذا تعني الأخوة ؟ إنها التضامن بين الأفراد الذي يتجاوز حدود العشيرة أو القبيلة والعائلة ويتخطى العرق واللون والدين ، للوصول إلى مفهوم العالمية بمعناها الشامل والصادق . فهناك أجيال كاملة من مناضلي الحركات العالمية والاشتراكية يحاربون من اجل هذه القيمة السامية .
العولمة النيوليبرالية تولد الخلافات العرقية والصراعات الطبقية والتعصب الديني الأعمى مما يثير الشعور بفقدان الهوية . بينما العالمية تسعى إلى عكس ذلك . إنها تسعى إلى احترام الشعوب والتعاون فيما بينهم ، وشعارها هو : " عالم يتألف من عدة عوالم " . وبعبارة أخرى حضارة عالمية قوامها التعاون والتنوع .
ومن الأهمية بمكان وأكثر من أي وقت مضى ، إعادة التأكيد على الغنى الحضاري الناتج من الاختلاف الثقافي والفكري للشعوب ، ثم التضامن فيما بينها إزاء الهيمنة التجارية الجشعة التي تتسم بها العولمة الإمبريالية الحالية .
وهناك قيم أخرى يجب أن تضاف إلى القيم السابقة التي اقتصرت عليها الثورة الفرنسية عام 1789 . كالديموقراطية واحترام البيئة وغيرها .
وهذه القيم الأكثر قدما هي اليوم الأكثر حداثة .
فالتحدي الكبير الذي يطرحه المجتمع البديل هو مسألة الديموقراطيات . فلا يمكن للفرد أن يعيش في مجتمع لا يتمتع بالديموقراطية ، وعليه أولا أن يتسلح بالوعي الديموقراطي ويعمل على نشره بدءا بالأسرة وصولا إلى الطبقات السياسية الحاكمة التي توجه ضمير الأمة . فليس من المعقول أن تكون هناك ديموقراطية اقتصادية واجتماعية وتكون منفصلة عن الواقع السياسي وعن القرارات الناتجة عنه .
لأن الديموقراطيات لا تتجزأ مثلها مثل أية قيمة ، وبالتالي فان مهمتها مطالبة الطبقات السياسية الحاكمة بمسؤولياتها تجاه المجتمع .
ثم إن اخذ مسألة الأولوية في الاستثمار والإنتاج والتوزيع بشكل عادل يخدم المصلحة العامة ، بحيث أنها تكون بيد الأغلبية وليس بيد حفنة من المستغلين أو أسياد السوق .
أما فيما يتعلق باحترام البيئة ، فان اللوم الأول الذي يوجه إلى العولمة الرأسمالية هي أنها مسؤولة عن تدمير البيئة بشكل متسارع .
أما الحضارة التي ننشدها والقائمة على التعاون والتضامن ، فلا يمكنها أن تكون حضارة غير متضامنة مع البيئة ، لان الفرد لايمكنه أن يعيش بشكل متوازن وسليم ، إن لم يكن هناك توازن في البيئة . وقد عبرت تماما عن ذلك المظاهرات المناهضة للعولمة الإمبريالية من مدينة " سياتل " إلى " جنوا " وليس انتهاء بالمنتدى الاجتماعي العالمي ، والتي لم تطالب ببيئة اقتصادية وسياسية سليمة وحسب ، وإنما ببيئة اجتماعية وطبيعية سليمة أيضا تكون بديلة عن تلك البنى النفعية الضيقة التابعة للسوق .
لأن الطبيعة والحياة وحقوق الإنسان والحرية والثقافة وما شابه ، ليست بضائع للبيع ، لأن هناك في الواقع عالم آخر يتعارض مع العالم الكمي أو حضارة المال هذه عالم تكون فيه القيم الأخلاقية العليا هي الأساس ، ويتخذ من التنوع الثقافي والفكري والمصلحة العامة شعارا له ويكون للمرأة دور هام فيه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش