الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين ,كرسي القش و-سفريات ابو عساف-

روبير البشعلاني

2012 / 11 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


أيام الدراسة الابتدائية وفي فترات العطل الصيفية كان أهلي يعطونني ما أمكن من مصروف جيب لكي "أطلع" الى الضيعة عند بيت جدي أزعجهم هم بدل أهلي. فالإزعاج في القرية اهون على النفس من وقع الإزعاج في المدن. وبما أنني من أصول بقاعية شامية ومن عشاق السهل الممتد بين سفحين جميلين كانت فكرة الأهل لا تضيرني كثيرا لا بل كنت من محبذيها الكبار. وسيلة النقل "الوحيدة" يومها الى البقاع كانت مختصرة بحافلات جميلة يملكها أحد المستثمرين الزحلاويين ويعمل تحت لوغو "سفريات ابو عساف". السفرة تستمر ساعة تقريبا ونقطع بها ما يقارب ال45 كلم نقدا وعداً بين بيروت وزحلة "عروس البقاع".
رحلتنا تبدأ إجمالا من ساحة البرج أو ساحة الشهداء حسب توقيت طوائف أخرى. وكانت يا للغرابة شركة ابو عساف دقيقة المواعيد تنطلق على الساعة المحددة أيا يكن عدد الركاب في الحافلة. لكن وجب القول أن دقة مواعيد الشركة وصيانة الحافلات الدائمة وعددها ووتيرة رحلاتها الكثيفة نسبيا وغياب المنافسين كانت من الشهرة والنجاح بحيث جعلت من النادر أن تنطلق الحافلة بدون ان تكون غاصة بالركاب. طبعا سوف أعفيكم من الكلام على "زمور" حافلات ابو عساف "البحري" بالبرغم من أهمية ذلك الزمور في ذلك الزمن وبالبرغم من حنيني الشخصي اليه والى موسيقاه العذبة. ذلك أن الزمور كان جزءا لا يتجزأ من "صورة" المنشأة الاقتصادية كما يقال بلغة تسويق اليوم لا بل ركنا من أركانها. وكان يطلق أعيرة من عدة ألحان ومقامات موسيقية وعلى عدة طبقات صوتية, ناهيك عن أنه منبه للركاب المحتملين في القرى المتناثرة على الطريق الى عروس البقاع. "الزمور يغري الركاب بالرحلة " كان يقول السائق متباهيا بزموره.
جميعنا مزهوون كنا بزمور ابو عساف , من أصحاب الشركة الى السائقين فالركاب كما أهل القرى التي تخترقها الرحلة. لكن علي الزمور ألا ينسيني أن أشرح لكم منهج العمل والرحلات عند ابو عساف أو " سياسة المنتج" بلغة علوم اليوم. فالنقلة (الرحلة), كما كانت تسمى, لم تكن مباشرة من نقطة ألف الى نقطة ياء. أبدا. بل كانت تتوقف على جميع الأحرف تقريبا. كل القرى شرط أن تكون على خط الطريق المباشر الى زحلة لها الحق والحظ بمواقف لحظة قصيرة ل"تفريغ" الركاب وحمل آخرين. طبعا السعر كان متجاوبا ومتآخيا مع طول المسافة المتبقية الى نقطة الوصول.
طبعا هذه السياسة كانت معلنة سلفا من قبل أبو عساف وكان الجميع متوافقا عليها مسبقا. أصلا الركاب لا حيلة لهم فالبدائل أو المنافسون غير موجودين. وعلى أي حال فإن المنتوج المعروض يساعد الجميع بمعنى أن الراكب الذي لا يسكن في زحلة يكمنه أن ينزل على الطريق وبالقرب من منزله أو قريته ثم يتابع مشيا على الأقدام ما تبقى من المسافة. كما أن بعضهم ولضيق ذات اليد ينزلون في النقطة التي يسمح بها ما يملكون في جيبهم ولو كانت بعيدة بعض الشيء عن مقصدهم الأساس. الناس في ذلك العصر لم يكن يضيرها المشي على ما ألاحظ اليوم.
على أي حال فإن الخدمة المعروضة كما هي ليست منتوجا خالصا مخلصا ( نهائي كما يقول علم الإقتصاد) بل خدمة على الطلب, على القياس, أي انه كان لا بد من تدخل "يد بشرية" تديره وتتحكم به أثناء الطريق. وهنا يأتي دور "المعاون". وكان المعاون شخصية ظريفة إجمالا تتمتع بخصال غنية ومتنوعة. كان عليه طبعا أن يدير "إقتصاد الرحلة" من مداخيل ومصاريف لكن كان أولا وقبل كل شيء بائعا شاطرا ومفاوضا محنكا ومممثلا كوميديا ناجحا يسلي الركاب ويروح عنهم عناء السفر( أولسنا في سفريات ابو عساف) وضجة المحرك وروائح مازوت الشاحنات المارة بالقرب من شبابيك الركاب المفتوحة غالب الاحايين.
ولقد بلغ النجاح ببعض المعاونين حدا جعل الكثير من الركاب يطابقون مواعيد سفرهم مع مواقيت عمل هؤلاء الاختصاصيين في تبديد خوف الركاب من خطورة الطريق الوعرة الجبلية الكثيرة الالتواءات والمعارج.
صحيح أن الحوادث قليلة لكنها غير منعدمة تماماً.
المهم في الأمر أن المعاون عليه أساسا أن يدير "نقلته" من الناحية الاقتصادية وأن يدير باله على جدوى الرحلة المالي. فالتوقف على الطريق والتفريغ المرحلي يتيح إعادة تعبئة الفراغ بركاب مرحليين آخرين. لكن ما كان يلفت نظري الصغير يومها هو " فائض الحجز" كما يقال في عالم التقليات اليوم. أي أن المعاون كان "يضطر" أحيانا, وهي كثيرة, الى "أخذ" ركاب إضافيين بالرغم من إمتلاء الحافلة حتى الجمام. حرام كان يقول أن تترك الراكب واقفا تحت قرص الشمس أو في الهواء أوتحت المطر.
طيب كيف يمكن التوفيق بين عدد المقاعد الثابتة وعدد الركاب الإضافيين لا سيما وأن الطريق كان مدروزا بشرطة السير صاحبة الدراجات النارية التي كانت تراقب بشدة متناهية كل تجاوز وخصوصا تجاوز الحمولة المسموح بها. هنا تدخل "كرسي القش المكعبة" وهي عبارة عن كرسي من القش كما يدل اسمها صغيرة الحجم واطئة الارتفاع بحيث إذا وضعتها في الممر النصفي لمقاعد الحافلة لا تظهر ممتطيها تماما للشرطي المراقب من بعيد.
لكن دون ذلك نباهة الشرطي وعيونه المفتحة على أي حافلة ممتلئة, مخالفة كانت أم غير مخالفة. وبصرف النظر عن الخطورة التي تمثلها هذه الكرسي على الركاب فإنها كانت "صديقة" المقطوع والفقير إذ كانت تقضي "غرضا" وثمنها طبعا أرخص من زميلتها الثابتة. علتها الوحيدة أن راكبها عليه في كل مرة يسمع جملة " قطَّش قريعة" أن يتكوم على نفسه لكي لا يُرى من قبل شرطي السير المراقب من الخارج. بالطبع السعر الرخيص يستأهل هذه التضحية. وكانت كرسي القش المكعبة من النجاح التجاري بحيث أضطرت دائرة السير, في محاولة للحد من خطورتها على الركاب, الى زيادة عدد دورياتها فلم تعد تمر السفرة بدون موسيقى " قطّش قريعة" المتكررة على طول الطريق.
أخشى ما أخشاه أن تكون الأمم المتحدة سفريات ابو عساف الأمس, والمقعد المراقب لفلسطين فيها كرسيا من القش في وسط الحافلة وأن يضطر الفلسطيني القاعد على هذه الكرسي أن "يقطّش قريعة" في كل مرة يلتقي الشرطي الاسرائيلي على دربه مخافة دفع قيمة المخالفة.
بالمنطق " الضرب أغلى من الطريدة" يا إخوان إلا إذا صار الذل عند البعض عادة قهّارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة