الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل طاب من الخطاب ما يمحو الاستقطاب؟

محمد الحمّار

2012 / 12 / 2
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


لمّا يمر أمام أعيننا شريط الأحداث التي حصلت في مدينة سليانة، من بين مشاهد أليمة وقاسية أخرى مثل أحداث 9 أفريل 2012 وأحداث السفارة الأمريكية وغيرهما، ولمّا نستمع مليا إلى أشرطة الخطابات والتعليقات والتحاليل التي اصطحبت الأحداث ، سواءً كانت مزايدات و تبريرات و إسقاطات، أم استنكارا وشجبا وتنديدا، ولمّا نحاول بعد ذلك كله معرفة ما إذا كان هنالك بصيص من الأمل لحل المشكلات المتسببة في هذا الحدث أو ذاك ، سنكون مذهولين من شحّ الأفق ومن ضيق ذات الرأي.

فهل النخب المثقفة في تونس بلا خيال أو بلا مخيلة؟ والحال أنها هي التي من المزمع أن تتصدر الحركة الفكرية والإبداعية بكل أصنافها حتى تقتفي آثارَها الطبقةُ السياسية ومن ورائها سواد الشعب. والحال أنها هي التي من المفروض أن تكون خير مزوّدٍ للفكر السياسي حتى يكون هذا الأخير قادرا على فتح آفاق الخلاص أمام الشعب المتألم. فالفكر السياسي لا يصلح لشيء لمّا لا يلقى مَعينا فكريا يتزوّد منه. لقد أصبح بهذا المعنى منتهيَ الصلوحية و منعدمَ الصلاحية.

أما الدلائل على هذا التصحر المزدوج، في الأصل كما في الفرع، فتتلخص في ترديد نفس الخطاب على كل الألسنة على إثر كل مصيبة. فما يقوله فلان عن أحداث كذا هو نفسه الذي يقوله علان. كل واحد يتحدث هذه الأيام عن سليانة من نفس المنطلق (التنديد بالعنف السلطوي وباستعمال "البارود" على الأخص)، لكن لا أحد يتحدث عنها من أجل انطلاقة جديدة للفكر ولبناء الواقع حتى لا تتكرر مثل تلك الكارثة. وقد يختلف الفاعلون والمحللون والمعلقون فقط في الأسلوب أو في اختيار الظرف الملائم لتوظيفٍ أفضلٍ لخطابهم، لكن القاسم المشترك بينهم والذي يبقى مسيطرا على خطابهم المشترك هو للأسف تكرير الواقع الرديء بدعوى الواقعية، مما ينتج عنه آليا تصحرٌ في مجال توليد الواقع الجديد المنشود والمأمول والمرغوب فيه. تلك هي الحالة التي توجد عليها العلاقة بين الفكر والسياسة في تونس الآن. وليس من المعقول أن يتواصل الوضع على هاته الحالة الأحادية المتخلفة.

وتكمن تداعيات التخلف بالخصوص في أنّ الخطاب الفكري والسياسي الأحادي يجذب العقل المجتمعي إلى الوراء، حتى وإن كان أتباع هذا المنوال الذي يصدر عنهم الخطاب من التقدميين الأشاوس، ناهيك أن يكونوا من غلاة الدين. إنه تمشٍّ غير واعٍ يحيلنا سريريا على أصناف من السلوكيات المرضية على غرار السلوك الفُصامي الذي يصدر عن مريض منفصل عن الواقع بينما تراه حريصا على الاعتقاد أنه منسجم مع ذلك الواقع. كما أنه تمشٍّ مختل من الناحية اللغوية التواصلية بناءً على أنه يدعم البعد الأداتي للغة دون سواه، أي يشدد على العمليات الملموسة كلاما وتعدادا وتكرارا من دون مقاومتها بفضل حسٍّ تواصلي يرمي إلى إنقاذ العباد من النتائج السلبية لتلك الأفعال. فكيف يتم تناول المسألة بشكل استشفائي ناجع، سيكولوجيا و لغويا، في أقرب الأوقات؟

لو عدنا إلى ما تنفرد به تونس (ومصر)، ربما لأنها من بين بلدان "الربيع العربي"، لوجدنا أنّ التفرد يتمثل في حالة الاستقطاب الثنائي بين إسلاميين من جهة وعلمانيين من جهة أخرى. وليست هذه المرة الأولى التي ندرس فيها هذا الموضوع لكننا نزداد يقينا يوما بعد يوم بضرورة تجاوز الظاهرة لكي يتم التدقيق في أصلها. وذلك بموجب عدم ترك الشجرة تكبر (في الذهن) حتى تغطي الغابة. سيما وأنّ تغطية الفرع للأصل صار نموذجا يحتذى به وصار مطبقا تقريبا في كل المقاربات التي تتناول أحداثا مثل التي ذكرناها أنفا. أي أنّ منهج قراءة الواقع صار هو نفسه ظاهرة خطيرة، مما حرم الفكر والسياسة معا من الرؤية الواضحة لأصول المشكلات، وبالتالي من إمكانيات التوصل إلى حلول وأخيرا من المصداقية لدى الشعب.

لقد بات العقل السياسي مشدودا شدا إلى الشجرة وفروعها مع تنكّره المجحف لجذورها وللبيئة التي نشأت فيها وتنتمي إليها. من هنا يتوجب على الطبقة السياسية التخلي عن المقاومة المباشرة للاستقطاب إذ لا طائل من ورائها. كما يتوجب عليها التعويل على الموارد الفكرية التي من شأنها أن تسهل انبثاق تصورات أصيلة لمشكلات حقيقية. ولا أدل على ذلك مما فعلته المباشراتية من شرٍّ في العقل السياسي في تونس منذ 14 جانفي 2011. وهو شر أحال وما زال يحيل هذا العقل على مزيد من التجاذب بين الفرقاء (الفرز إسلام/علمانية و حزب حركة النهضة/سائر الأحزاب، و سلطة/معارضة، و حزب/حزب، و سلطة/اتحاد الشغل)، و هو تجاذب يغشى المشكلات الأصلية وأصول المشكلات وبالتالي يحث على الركون إلى الواقع كأمر واقع لا كقاعدة بيانات صالحة لعملية التصور الإبداعي للبدائل والخيارات والحلول.

من هذا المنظور ما من شك في أنّ التعالي عن الاستقطاب، لمّا يكون مُمنهجا، سيفضي إلى الانفتاح على بوادر الانفراج. إذ إنّ قبول المشكلة، أية مشكلة ومن باب أولى وأحرى مشكلة الاستقطاب الثنائي، من شأنه أن يسهل تجاوزها ومن ثمة التخلص من آثارها الخبيثة. بالمحصلة، يكون الترفع عن الاستقطاب مؤشرا على اتسام الرؤية للواقع بالصحة والسلامة، ومن ثمة ضمانة لبدء تأسيس واقع جديد يحل محل الواقع المزري، بما أنّ التصحيح المنهجي والعمل بمقتضاه من المفترض أن يسفر، بصفة غير مباشرة، عن استئصال الاستقطاب القديم والرديء والمفلس الذي يرتكز على إقصاء "الآخر" من الحلبة، التي نفترض جدلا أنها مشتركة بين كل الفرقاء السياسيين.

ومن بين السبل الموصلة إلى حسن التعامل إزاء الواقع وتحويله من مرتبة الجبروت إلى أرضيةٍ قابلة للتغيير الإيجابي والمثمر أن يرضى السياسيون، ككتلة نخبوية متكونة من نواب المجلس الوطني التأسيسي ومن زعماء الأحزاب الحاكمة والأخرى المعارضة والشخصيات المستقلة بتقاسم الأدوار مع المثقفين بمختلف مشاربهم، مفكرين كانوا أو مربين أو أدباء أو فنانين أو دعاة الدين، وبالعمل معهم بمبدأ التشارك التكاملي. ومن المفترض أن يكون الأداء عضويا من طرف كلتا الجبهتين أي متعلقا بالواقع السياسي اليومي مع فارق أساس ألا وهو عناية الجبهة السياسية بالحدث الآني من حيث قيمته الأداتية والوظيفية المستعجلة بينما تعنى الجبهة الفكرية باستخلاص العبرة من الحدث في ضوء التصورات المبتدعة وطموحات الشعب.
ينضوي هذا التمشي تحت عناوين علمية عدة على غرار التداولية والتشاركية والوظيفية وغيرها، إلا أنّ العنوان الملموس هو ذلك المتعلق بتطوير الخطاب الذي ينبغي بثه من طرف كلا الجبهتين المتكاملتين، وهما قائمتين بذاتهما ومستقلتين في الآن ذاته، كلما جدّت أحداث مثل أحداث "سليانة" و "9 أفريل" و"السفارة الأمريكية" وغيرها. وتطوير الخطاب كمقدمة لتطوير الأداء السياسي قد يكون خيارا أنجع من تكرار الخيار المفلس والذي تجسد وما زال يتجسد في محاولة تطوير السياسة بصفة مباشرة و من دون بيداغوجيا، مما أضفى على السياسة طابع الارتجال و العشوائية. فالخيار الثاني لم يزد الخطاب السياسي إلا عنفا وتعفنا وعدوانية وعدائية.

وما من شك أنّ الفوضى السياسية المدعمة بالتصحر الفكري تعزى تاريخيا وتربويا إلى زيغ المنظومة التربوية عن الغايات المعرفية والعلمية و التواصلية التي يتطلبها المجتمع المعاصر. فالذي جنته تونس في العقود الأخيرة لا يعدو أن يكون جيلا يعرف الحساب ويجهل المحاسبة، ومن باب أولى محاسبة الذات. وإن دققنا في الأمر سنستنتج أنّ تدجين التعليم الأدبي من إنسانيات واجتماعيات وفنون لفائدة التعليم "العلمي" قد أدى إلى تهميش الفكر وفصل الأواصر التي من المفترض أن تربط بين الشباب من جهة والطبيعة والمجتمع والعالم من جهة أخرى. ولعل إعادة الاعتبار لتدريس المواد الأصلية طريقٌ إلى الرفع من شأن الفكر وبالتالي إلى التفعيل الإيجابي للفكر السياسي وإلى أنسنة الممارسة السياسية.

أما على مستوى الزمن الآني وعلى المدى القريب نعتقد أنّ الإعلام السمعي البصري بالخصوص، هو السلطة الأداتية الأولى التي ينبغي أن تضطلع بمسؤولية تجسيد التشارك بين كتلتي السياسة والفكر السياسي في حال توفرت الإرادة، لدى السلطة التربوية السياسية، لإنجاز ذلك. فالإعلام اكتفى إلى حد الآن بنقل خطاب السياسيين دون سواهم إلى سواد الشعب. وبهذا المعنى يتحمل المسؤولية في تدني الخطاب السياسي العام وفقدانه للنجاعة وبالتالي يتحمل المسؤولية في تدهور الممارسة السياسية و الوضع السياسي والتواصلي العام بالبلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حمدين صباحي للميادين: الحرب في غزة أثبتت أن المصدر الحقيقي ل


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من المتظاهرين من جامعة كاليفورني




.. The First Intifada - To Your Left: Palestine | الانتفاضة الأ


.. لماذا تشكل جباليا منطقة صعبة في الحرب بين الفصائل الفلسطينية




.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi